تمام تلاوي : أنا إيروتيكي بطبعي، وهذا الأمر يعني لي الكثير
2011-01-31
التجربة الشخصية وجيل التسعينات
اعتبرتَ تجربتك ،كما النقاد ، إحدى تجارب التسعينات ، وكنت من أصغر شعراء ذلك العقد تقريباً، هل هذا يعود إلى نيلك جائزة " سعاد الصباح " في وقت مبكر من عمرك وتجربتك ؟ ، أم أنه يعود إلى نضوج يوازي نضوج باقي شعراء التسعينات الذين هم أكبر منكَ سناً ؟
ليستْ مسألة نضوج بقدر ما هي مسألة تكريس. نـُسِبْتُ إلى شعراء التسعينات في أكثر من أنطولوجيا.. وتربيت، شعرياً، بينهم. في تلك الفترة بدأنا نيلَ الجوائز وطباعة مجموعاتِنا الأوَلِ. وبكل الأحوال، فإن الأهم من كون الشاعرِ شاعرَ تسعينات،ثمانينات، ألفينات .. هو ما يقدمه في تجربته .
كيف ترى إلى قصيدة التسعينات السورية ، بكل أشكالها ، في وقتها ؟ ، وكيف ترى إليها الآن بعد انقضاء عقدين على ظهورها ؟
قصيدتا التفعيلة والنثر كانتا الأبرز في التسعينات. شعراء التفعيلة تربوا في ظلال أسماء تفعيلية (درويش، نزيه أبو عفش، محمد عمران، وغيرهم الكثر). البعض من هؤلاء الشعراء مازال متكئاً على تلك الأسماء، حتى الآن. والبعض الآخر استطاع تنقية صوته. أكثر ما يعيب قصيدة التسعينات_وحتى ما بعد التسعينات_ أنها ما تزال، في العموم، تكتب قصيدة السبعينات؛ هذه القصيدة التي تتخذ ثيمات معينة ومكررة، من حيث الشكل و الموضوع. فهي قصيدة الصورة بامتياز، لكن توظيف الصورة في هذه القصيدة غالباً ما يكون من أجل الصورة فقط. فترى أن حشد الصور، كله، بالكاد يفضي إلى معنى أو دلالة واحدة. أما النثر، فرأيي يوافق أغلب ما كُتِبَ حول قصيدة النثر السورية، في التسعينات وحتى ما قبل وما بعد التسعينات. فالشعراء تربوا في ظلال الماغوط، ولم يخرجوا عن أدوات وفنيات قصيدته وبنائها، إلا فيما ندر. كما أن البعض تأثر بأسماء غير الماغوط، والبعض الآخر تأثر بأسماء، هي بالأساس كانت متأثرة بالماغوط. لكنني، بشكل عام، لا أنفي بعض الأصوات، في التفعيلة والنثر، التي استطاعت كتابة نصّ مميز وذي خصوصية عالية.
شعراء التسعينات، منذ بدايتهم وحتى اليوم ونحن في الـ 2011 ( أي بعد مررو أكثر من عقدين على ظهور تجاربهم فعلياً على الساحة ) ما زالوا على الرتم ذاته، وبأصوات أقرب ما تكون للصوت الواحد ..
لا ليس صوتاً واحداً تماماً؛ لقد تمايزت الأصوات. ومن الطبيعي أن يتأثر أبناء الجيل الواحد ببعضهم البعض، وأن توجد نقاط مشتركة بينهم. لكن، مع مرور الزمن ( وهو قصير بالنسبة لتجاربنا، إذ أنه، في أقصاه، لا يتجاوز العشرين عاماً ) ، تبدأ الأصوات بالإختلاف عن بعضها . مثلاً: د.أديب حسن محمد ذهب إلى أماكن مختلفة في القصيدة، وشكل خصوصيّة. عمر إدلبي طوَّر نصَّه على صعيد الرؤيا، مصمماً على التجديد في هذا النمط، كما كتب قصائد أخرى، مثل " بياض " بفنيات وأدوات غير تلك التي يكتب بها عادة. سامر رضوان أيضاً اشتغل على الصورة بأسلوب جديد، وشكلّ صوتاً مميزاً بين شعراء جيلنا ...
استنتاجاً من كلامك هذا، يمكننا القول أن ثيمة الجيل الواحد هي ثيمة سلبية؛ إذ أن الصوت الشعريّ الخاص لا يتم تنقيته، من أصوات أبناء جيله، إلا بالإبتعاد عنهم ، وهذا ما حدث معكم ؟
ليست ثيمةً سلبية. أنا أصف الحالة، لأنه من الطبيعي أن ينمو شعراء الجيل الواحد مع بعضهم البعض، يتشابهون، يقلدون بعضهم البعض.. لكن في النهاية، وخاصة عندما تفرقهم ظروف الحياة، وتختلف وتتوسع قراءات كل منهم، تجدهم قد اختلفوا، وهذا شيء طبيعي، لا أراه سلبياً.
لديك ثيمة جيدة ، افتقدها الكثير من شعراءٍ سبقوك وعاصروك ، وهي التفاؤل الشعري ( بغض النظر عن ختام مجموعة شعرائيل ، والتي جاء تشاؤمها طبيعياً ، ليترافق مع موت هذا الإله الشعري .. ) ، هل هذا يوافق القول بأن الشعر مرآة للحياة، باعتبارك متفائلاً في حياتك الشخصية ؟
أنا في بدايتي كتبتُ شعراً حزيناً جداً ومتشائماً، لأن الشاعر_ وحتى الإنسان_ يكون في فترة المراهقة حساساً، يملك رغبة غريبة لتغيير العالم. لكن، مع مرور الزمن، تخفّ قيمة أشياء كثيرة في حياته، مما يدفع الشاعر لكتابة أشياء توازي الخفة التي يجدها .. فالشعر مرآة، نعم .
أما بالنسبة لموت الإله في شعرائيل: فأنا اشتغلت على الشخصانية في " شعرائيل"، جاعلاً من هذه المجموعة سيرةً شخصية لي، فالقصيدة في شعرائيل ليست رؤيوية، ولا تتحدث بلغة النبي. بل على العكس، المجموعة شخصية إلى أبعد الحدود، فيها قصص حبي، يومياتي .. لكنني صغتها بحيث أنني حاولت أن أؤسطر الشخصي، معتمداً على الأسطرة الموروثة.. ربما الإتكاء على النص الديني خلقَ فكرة حول أن المجموعة ما هي إلا نبوئية أو إلهية .. وهذا أمر مبرَّرٌ طبعاً. لكن المجموعة، كما قلت، نابعة من تجربة شخصية، وحتى قصائد الموت في نهاية المجموعة كتبتها عن تجربة شخصية .
كيف ترى إلى الأدب العقلي و أدلجة النص الشعري، من جهة ، وإلى أدب العاطفة والوجدان من جهة أخرى ؟ .. وأين تجربتك من هاتين السمتين ؟؟
بشكل عام، كل نص أدبي يجب أن يحمل آديلوجيا الشاعر أو الكاتب ، رغماً عنه. كل إنسان منا لديه آيدلوجيته الخاصة حول الحياة والحرب والموت والحب .. و الأهم من المسميات ( أدب عقلي أو عاطفي أو وجداني ) هو طريقة الكتابة. فمحمود درويش تكلم عن فلسطين، وهي قضية آيدلوجية بامتياز، لكنه كتب هذا النص بفنية رائعة، مما جعلنا نركز، لا على القضية وآيدلوجيتها، بل على سحر قصيدته. وأنا أنصح الذي يحب كتابة فكرة، أياً كانت، أن يقدمها بمقال، وهو مقروء أكثر من الشعر !
تكلم " د . أديب حسن محمد " عن قدرتك في المحافظة على رونق القصيدة مهما امتدّت مساحتها ، هل تعتبر كتابة النص الملحميّ ( كما فعل درويش، سليم بركات .. على سبيل المثال ) تقليداً؟، آخذين بالاعتبار أن هذه النصوص الملحمية تحاور المعلقات؟ت
أنا لا أملك نصاً ملحمياً، فطول قصائدي لا يؤهلها أن تسمى ملحمية بالنظر إلى ما كُتب من نصوص ملحمية قبل الميلاد .. لكنك ربما تقصد الملحمية في " شعرائيل " إذ أنني صغت القصائد، بنائيةً وتتالياً، على شكل الملحمة .مع أنني، للتذكير، لم أكتب قصائد " شعرائيل" رغبة بجعلها كذلك، لكن ترتيبها، كما قلتُ، هو الذي يوهم بملحمية ما . شعرائيل، في الحقيقة، بعيدة كل البعد عن الملحمية .. فمن ميزات النص الملحمي وجود النفسي الفروسي فيه، التراجيديا، والأبطال الخارقون، والدراما الممتدة على مساحات طويلة ، مع حبكة أقرب إلى القصصية. وهذا لا ينطبق على أي من نصوصي.
إن أردنا التكلم عن اتكائك على ثيمات القصّ، والدراما تحديداً، للمحافظة على قوام القصيدة كجسدٍ واحد في كتابة النص.. فماذا تقول في هذا ؟
أنا ميال لهذا النوع من الشعر، فمن صغري كنت أحب قراءة الشعر الذي يحتوي قصةً ما، يحتوي على الدراما والسرد، وهذا سبب حبي للمعلقات آنذاك. أعتقد أن الدراما في النص تحافظ على تماسكه، وتسهل على الشاعر الوصول إلى بر الأمان بقصيدة .
قبل قليل، نصحتَ الذي يريد كتابة فكرة ما باللجوء إلى المقال. إذن لماذا لا يذهب الذي يريد كتابة الدراما إلى كتابة السيناريو، ويترك الشعر ؟
الشعر، منذ بداياته التي نعرفها، مرتبط بالدراما. فمنذ جلجامش، الأوديسة، الإلياذة، نجد أن الشعر وُلِدَ في حالة درامية. أنا، بالنسبة لي، لا أستطيع فصل الشعر عن الدراما، لأن الدراما عنصر أساسي في نسيج قصيدتي .
لم تتجه إلى ممارسة أجناس أدبية أخرى ، غير الشعر ، سوى القليل من المقالات والترجمات؛ هل تفصّل تخيلاتك وهواجسك على مقاس الشعر ؟ ، وهل تؤمن بتوزيع التدفق الخيالي على أكثر من جنس أدبي ، كما يفعل الكثير من الأدباء ؟
لم أكتب المقالات والترجمات برغبة شخصية، أو لإفراغ المحتوى الثقافي الذي أمتلكه. بل كتبتُ في المرحلة التي كنتُ أعمل فيها على تثقيف نفسي ( المرحلة الجامعية تحديداً )، وكنت أكتب المقالات والترجمات بحثاً عن الإمداد المادي فقط ، فأنا، حينما صرت منتجِاً، تركت تلك الكتابات وتفرغت تماماً للشعر. ربما أكتبُ مقالات، لكن هذه المقالات قريبة إلى الرأي الشخصية، أكتبها للتعبير عن حالة فكرية أو شخصية، يهمني التعبير عنها بشكل من الأشكال .
يعني هذا أن الشعر قادر على احتواء أي فكرة، مهما امتدّت، أفقياً أو عمودياً ؟
أنا شخصياً : لا يعبر عني شيءٌ بقدر ما يفعل الشعر. حاولت كتابة الرواية، ولم أفلح. يمكنني كتابة قصيدة جيدة في ليلة أو اثنتين، لكن الرواية تحتاج لوقت ونفس عميقين. لا أتصوَّر أنني، في يوم من الأيام، سأكتب رواية أو سيناريو أو غيره .. أنا لا أجيد إلا الشعر .
المجموعات الثلاث .. و الرابعة ؟
في " منزل مزحم بالغائبين " اتكأت على الذاكرة الجمعية، وطفولتك، وجاء العمل، شكلاً ومضموناً، بنفَس واحد . وفي " شعرائيل " عدتَ إلى النصّ الديني، حافراً فيه ومستخرجاً ما تريد، لنجد أيضاً المجموعة ذات النسق الواحد. أما في " تفسير جسمك في المعاجم " فنجد التشظِّي ( إن جاز التعبير ) .. إلامَ تُـرجعُ هذا ؟، وهل تفضل المجموعة الشعرية التي تتخذ مضموناً ورؤيةً واحدة ، أم تلك التي تحتفي برؤىً ومضامين وأشكال مختلفة ؟
طبعاً أفضل عدم استمرارية الشعر على نمط معيّن، وهذا واضح من خلال الخط البياني لمجموعاتي الثلاث. أنا تأخرت بطباعة أعمالي، مما سمح لي أن أجد كَمَّاً من القصائد يمكن تقسيمه إلى عملين، يختلف كلٌّ منهما، شكلاً ومضموناً، عن الآخر .. ومن هناء جاءت " منزل مزدحم بالغائبين " و " شعرائيل " .. مع العلم أنني، حين أرسلت منزل مزحم بالغائبين لجائزة سعاد الصباح، كان " شعرائيل" جاهزاً للطباعة .. ومع ذلك لم يُـطبع إلا بعد أربع سنوات. أما النصوص الموجودة في " تفسير جسمك في المعاجم"، فجزء منها كُـتب في تلك الفترة التي ذكرتها، ومنها ما هو جديد، وقد جمعت هذه النصوص شذراً، لوجود فرصة لطباعة المجموعة ( دمشق عاصمة الثقافة العربية )، وأنا قسمت الكتاب هذا إلى قسمين : قسم النصوص الجديدة، والتي أميل بها إلى تقنياتي وأدواتي الجديدة ( القصيدة البسيطة التي تهتم بالتفاصيل الصغيرة، وخفوت النبرة الشعرية ) . والقسم الآخر يحتوي على القصائد القديمة التي ترتفع نبرتها، وتبرز فيها ثمات النص التفعيلي السائد ( تكثيف الصورة، والإعتناء المبالغ فيه بالبلاغة، على حساب المعنى ) .
تحدثت في حوارات سابقة ، أنه يجب على الشاعر أن " يمرّر شعريته " في الشكل الشعري الذي يختاره . لكنك بنثرية بعض قصائد " تفسير جسمك في المعاجم " تخليت عن غنائيةٍ وسمت عمليك الأّولين .. هل تعتبر هذا الخفوت الإيقاعي الخارجي ، وحتى الداخلي ، في تلك النثريات ، نوعاً من التجريب ، أم أنه جهة جديدة اتخذتها وستتخذها تجربة تمام ؟
أيُّ تجريب هو نوع من الشعر، بما أنه يكسر السائد. ولكن هذا لا يمكن أن يحدد الجهة المستقبلية لقصيدتي.. أنا ملولٌ بطبعي الشخصيّ، وهذا ينعكس على الشكل والبنائية التي أكتبُ بها، ما يؤدي إلى تغيير وتجريب دائم على كافة الأصعدة الفنية في النص . فأخجل أحياناً من قراءة قصائدي القديمة . أحب دائماً التغيير، ولو كان تحت بند " كتابة ما لا أتقنه "، أعرف هذا يؤدي إلى هبوط في المستوى، كما يدّعي البعض، لكن هذا لا يعنيني، ما يعنيني هو إرضاء ذاتي، وعدم تقليد تجربتي الشخصية وتجارب الآخرين. الآن، ولو كان باستطاعتي حذف كُل ما يُـقرأ أو يسمع أو يشاهد لي، من شعر، لفعلت، لأني في كل مرحلةٍ أعبرُ بها، أكون غير راض عن المرحلة التي سبقتها .
ألا ترى أن موضوع حذف النصوص قد أصبح تقليدياً جداً ؟ درويش كان يريد هذا، أدونيس، والكثير من الشعراء .. لماذا لا يرضى الشاعر عن نفسه؟
لا يجب أن يرضى الشاعر عن نفسه، لأنه، بمجرد فعله ذلك، يبدأ بتكرار تجربته، والمرور على أماكن سبق وأن مر عليها ..
مجاميعك الشعرية الثلاث طُـبعتْ عن طريق جوائز نلتَها.. جائزة سعاد الصباح، جائزة الماغوط، و احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، لكنك لم تكن راضياً عن مركزك في كل من احتفالية دمشق، وجائزة الماغوط .. ودافعت في مقدمة مجموعة شعرائيل عن حقك في نيل المركز الأول..
أنا دافعت عن شعرائيل، من وجة نظري الشخصية. لكننا المحكمين في النهاية هم الذي سيحددون الفائزين بالجوائز . لجنة تحكيم الشعر في احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، بالرغم من أنها من مدرسة واحدة ( مدرسة النثر )، إلا أنها منحتني المركز الثاني، وطبعت مجموعتي " تفسير جسمك في المعاجم" بالرغم من احتفائها بالنص التفعيلي بشكل كبير. أنا لا يمكنني الجزم بفساد الجوائز العربية، بالرغم من علمنا جميعاً بتلك الأمور التي تحاك خلف الكواليس. دائماً ما يُـسِرُّ لك أحد أعضاء لجنة تحكيم هذه الجائزة أو تلك، باعتباراتٍ، غير شعرية وفنية، تلعب دوراً في تحديد المراكز، وهذا الأمر يجب علينا تقبله، لأننا نعلم به، ورغم ذلك نرسل أعمالنا إلى مثل هذه الجوائز. أنا شخصياً لولا الجوائز لما قرأني أحد!، ومجموعتي الرابعة، التي أعمل عليها الآن، لا أعرف كيف ستنشر، إن لم تفزْ بجائزة ما، وخاصة في الوضع الحالي لما يُـنشر من كتب .
مجموعتك الرابعة ؟
من ناحية المضمون، لا تخرج عن المضامين التي تناولتها في أعمالي السابقة من حيث السيرة الذاتية، والنص العاطفي .. لكنها ستقدم شيئاً جديداً من ناحية اللغة، والتفاصيل، والمشهدية اليومية، الشيء الذي يفتقده شعر التفعيلة، حيث نرى التفعيلة في الموضوعات الشاملة، بعيداً عن هذه التفاصيل .
جسد الأنثى .. الإيروتيكية
لا تكاد تخلو قصائد أعمالك الثلاثة ، من إيروتيكية صريحة، تفضح ( إن صح التعبير ) التجربة الشخصية، في بعض الأحيان .. هل يمكننا القول أن هذه الإيروتيكية هي أحد الأعمدة الرئيسة التي يقوم عليها شعر تمام ؟
بالتأكيد، لأني إيروتيكي بطبعي . أحب المرأة، أهتم بجسدها وجماليته، وهو أمر يعني لي الكثير، ومن الطبيعي أعمل على هذا الشيء، وأن أوظفه في نصي الشعري، دون خجل . إذا أعجبتني امرأة أكتب عنها، ولا أخاف ذلك. كما أني تعبتُ جداً، وجاهدتُ ، حتى وصلت إلى هذه المرحلة من الصدق مع النص الذي أكتبه، لأن الشاعر الذي يريد كتابة أنثاه التي لا تُـشبه إناث الآخرين، فيجب عليه أن يملك جرأة َتقبُّل ِكل ما يقال عنه وعن تجربته، سلباً كان أم إيجاباً . فأنا أنا مثلا في قصيدة " بعض عيوبها "، التي أعتبرها من أكثر نصوصي خصوصيةً، إذ تتحدث عن أنثاي، وعلاقتي اليومية معها .. أوردتُ الكثير من الإيروتيك في هذا النص، والكثير من التفاصيل التي يخجل الشعراء من ذكرها، فكيف بتأريخها من خلال نص شعري متاح ومقروء من قبل الكثير ؟
في إحدى حواراتك ، حينما سُئلتَ عن علاقتك بالأنثى ؛ أجبتَ : " أنا لا أقرأ الأنثى عادة, وإنما ألتهمها التهاما " .. كيف تشرح لنا هذا التعبير المجازي ؟ وهل تعتقد أن الآخرين يتقبلون صدور مثل هذا الكلام عن شاعر مثلك ؟
صدقني أن الآخرين هم آخر من أهتمّ بهم. دائماً، منذ تجاربي السابقة وحتى اليوم، هنالك الكثير من غير الراضين عني، هؤلاء الذين لا يعترفون بك إلا حين تتّبع ملتهم .. أنا ألتهم الأنثى بالمعنى المجازي، و ليس المعنى الوحشي ( وإن كانت الحالة الجنسية عبارة عن حالة وحشية )، أقصد بالإلتهام هذه الحالة الجميلة، المليئة بالشغف والمشاعر . ثم إنني لا أرغم أحداً على تقبل كلامي، فالذي يريد قراءة الأنثى فليقرأها. أما أنا فألتهما!. لستُ من النوع الذي يتماهى مع نظريات الآخرين، لأنه ما من خيار أمام الشاعر إلا أن يكون ذاته، أن يكتب ذاته، بصدقٍ، دون أن يكتب الآخرين، أو أن يساعده الآخرون في كتابة نفسه. إن من أصعب الأمور أن تصل إلى شخصيتك، برغباتها ونزواتها وشيطناتها ودوالخها، عن طريق الكتابة، و دون الإتكاء على ما كتبه الغير . من السهل أن نقلد الآخرين، حتى في الشعر الإيروتيكي. إذ كُـتب الكثير حول هذا الموضوع، منذ الأناشيد السومرية وحتى اليوم، لكن المشكلة أن هنالك تكراراً في نظرة الكاتب للمرأة، وفي التشابيه والصور التي لم يتخلص منها الشعراء حتى اليوم .
أذكر أنك قلتَ مرةً، حول ما تذكره الآن، إن " الشعر لا يصور الجسد إنما يصور مديح الجسد " ..
نعم !. الشعر غير قادر على تصوير الجسد؛ لم ولن يستطيع ذلك، لأن الجسد هو الأعلى قيمةً جمالية في الكون، ومهما كانت اللغة والتشابيه والتصاوير عالية، فمن المستحيل أن ترقى إلى وصف الجسد. أنا شخصياً، بتقديسي للجسد في أعمالي الأخيرة، لا أشبهه، بل أضمنه في كتاباتي كما هو، في حالته التي أراها عليه، لأن ذكر أي عضو جسدي، يكفي للتعبير عن الحالة الجمالية . منذ القدم، كما ذكرت قبل قليل، يُـشَبَّه الجسدُ بكليشيهات مكررة، من قبل الشعراء الذين لم يتخلصوا، حتى اليوم، من هذه المشكلة؛ فتراهم يشبهون الساقين بالرخام، والنهدين بالحمام أو التفاح أو الرمان .. والشفاه بالتوت والكرز ..الخ. الجسد أجمل من أي شيء في هذه الحياة، أجمل من إسقاط الطبيعة عليه، كيف نشبه الأكثر جمالاً بالأقل جمالاً ؟؟. النص الشعري، في رأيي، يعبر عن طريقة مديحنا للجسد، وليس عن الجسد بحد ذاته، الأمر الذي يتفاوت بين شاعر وآخر .
هل يمكن إحالة علاقتك هذه مع الجسد إلى عملك كطبيب جراح ؟
عملي كطبيب جراح حررني من عُقَدِ الجسد، ومنحني قدرة النظر إلى الجسد من زاوية قلما ينظر منها الآخرون إليه . فحالات الموت التي أراها يومياً، وحالات الفناء الجسدي، تشعرني، فعلاً بلاقيمة هذا الجسد، وانعدام وجوده في أي لحظة يمكن أن يفارق الحياة فيها . عملي صحّح نظرتي للمرأة، وحلّ هذه العقد الشرقية، فلم أعد أحس بذلك الجسد التابو .. أو الخاص . صرتُ أنظر إلى جسد المرأة على أنه مشاع .
علاقات
لديك علاقة جيدة مع الكثير من الروّاد والأسماء الهامة في شعرنا الحديث ( كأدونيس ، أنسي الحاج ، شوقي بزيع ، جوزف حرب ، طاهر رياض ، منذر المصري ، أسعد الجبوري .. وغيرهم ) ؛ إلى أي مدى تنفع الشاعرَ العلاقاتُ مع من لهم وجود على الساحة الثقافية؟ وإلى من ترجع خفوت العلاقة والتواصل ، الإنساني على الأقل ، بين الجيل الشاب و هؤلاء الكبار ؟
لا أظن أن هنالك خفوتاً ما في العلاقة بين الشعراء الشباب والأسماء المعروفة، وحتى لو وجدَ هذا الخفوت، فإن السبب يعود إلى الجغرافيا، والمسافة بين هؤلاء الشعرء. أتصور لو كان أدونيس أو أنسي الحاج أو غيرهما مقيماً في اللاذقية، مثلاً، لكنا التقيناها بشكل يومي، وقرأ لنا، وقرأنا لهم . منذر مصري أيضاً، هو قريب منا جغرافياً، يساعدنا، نأخذ الكتب منه، يعرفنا على أهم كتاب قصيدة النثر في العالم العربي . جوزف حرب أيضاً كان يعمل على تنقيح نصوصي قبل الطبع، لا أظن أن على الشعراء المهمين أن يبحثوا على الشعراء الشباب، بل العكس .. أنا فرضتُ نفسي على الكثير من الشعراء ودفعتهم لقراءة أعمالي، حتى تعرفوا بي . من الطبيعي أن يبحث الشاعر الشاب عن الكبار ، لأنه هو المستفيد في هذه العلاقة، من خبرتهم، تجربتهم، رأيهم . الأسماء توهمنا أحياناً، لكن علينا كسر هذا الوهم لنصبح على مقربة من تلك الأسماء.
أنتَ من النشيطين جدا على الشبكة العنكبوتية ( التي رجحت كفة الكم على كفة النوع في ميزان الشعر ) .. كيف ترى إلى هذه الظاهرة ، وهل هي سلبية أم إيجابية، في رأيك ؟
قبل ظهور النت، كان الوضع الشعري في حالة من التقوقع، مقوسماً لقمسين: قسم شعراء التفعيلة ومركزهم إتحاد الكتاب .. وقسم شعراء النثر ومحورهم خارج سوريا ( أي أنهم كانوا ينشطون و ينشرون أعمالهم في لبنان وغيرها من الدول ). لا أحد يعرف أحد بين الطرفين .. كان هنالك شبه قطيعة . لكن بفضل النت، تماهى الطرفان، وصارا يقرآن لبعضهما البعض. بالنسبة لنا كشعراء شباب، وصلنا إلى أماكن لم نفكر بعمرنا أن نصل إليها.. وصلت نصوصنا إلى أقصى الكون، واختصرت المسافات .. أما من ناحية الكثرة، فلا تخفْ : بالأخير سيتميز النص الجيد عن الرديء .
النشر الورقي جريدة الثورة
08-أيار-2021
31-كانون الثاني-2011 | |
19-كانون الأول-2010 | |
01-أيلول-2009 | |
11-آب-2009 | |
05-تموز-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |