Alef Logo
أدب عالمي وعربي
              

فصل من كتاب حول تشيخوف ترجمة

زياد الملا

خاص ألف

2011-05-22

الذكريات
-1-
عمنا ميتروفان ايغوروڤيتش ـ حادث في حديقة القصر ـ القمُّص باكروفسكي ـ والد بافل ايغوروڤيتش ـ الأجداد وأجداد الأجداد من ناحية الأب ومن ناحية الأم ـ أسطورة العم ميتروفان عن أصلنا ((التشيكي)) ـ قصف تاغانروغ من جانب الأسطول الإنكليزي ـ الأخوان ألكسندر (الأديب آ.سيدوي) ونيقولاي (الفنان).

كان البعض يرى أن عمنا ميتروفان ايغوروڤيتش(1) إنسان غريب الأطوار بل حتى أنه عبيط، وآخرون كانوا يكنون له كل الاحترام والتقدير بينما أخي الكاتب انطون تشيخوف كان يكن له أسمى آيات الحب. وقد كرس هذا الإنسان حياته للقضايا الاجتماعية لدرجة أنه فارق الحياة لا لسبب سوى الانهاك لأنه كان يشتغل زيادة عن الحدود الطبيعية. وقد عمل في البلدية والكنيسة في آن واحد وأما اهتماماته الأساسية فقد كان جلها محصوراً في الأعمال الخيرية حتى أنه أسس جمعية تاغانروغ الخيرية لأجل تقديم المساعدة للفقراء. وكانت أبواب داره مفتوحة، دوماً، أمام كل قاصد محتاج ومسكين وأما في يوم عيد اسمه فكانت هذه الأبواب مشرعة على مصراعيها وحيث كانت الطاولات مصفوفة في باحة الدار وعليها شتى أنواع الحلويات والمأكولات الشهية وكان لكل شخص الحق في الجلوس وتناول ما يطيب له.
وفي الوقت الذي كان فيه ميتروفان مواظباً على أداء الصلوات وإقامة الصلوات في داره، كان يعشق المسرح وتنهمر دموعه من الضحك ما إن يرى مشهداً كوميدياً/ مثلاً من " ابن الماما " و " مصائب القلب الرقيق ". والبشر لا يشاهدونه إلا في كامل هندامه وأناقته وقبعته العالية وهو يتجول في حديقة الدار التي هي أشبه ما تكون بدغل كثيف. يبدأ نشاط ميتروفان اليومي عند شروق الشمس ولا ينتهي إلا في وقت متأخر من المساء باستثناء يوم الأحد الذي كان يقضيه في جو من السكينة مع قراءة الكتب والصحف والتحدث مع الأطفال. فهو كان يعشق اولاده ويتحدث إليهم بصيغة الاحترام ويدللهم لدرجة أننا نحن أبناء إخوته وأخواته صرنا نشعر بالغيرة. وفي فترة اليفاع عندما كانت تخطر على بالنا بعض التمثيليات التي كان الطالب وكاتب المستقبل أنطون تشيخوف يشارك فيها، كان العم ميتروفان هو ضيفنا الدائم والمشارك النشيط في التقويمات. فهو لم يكن قليل الموهبة الأدبية, وأما رسائله التي حصلنا عليها ونحن كبار في السن فكانت من حيث أساليبها الشعرية خالية من العيوب والنواقص. وفي سنوات الشباب كان رومانسياً مولعاً بمؤلفات ألكسندر مارلينسكي (بيستوجوف) وبقي حريصاً على طريقته التعبيرية طوال العمر. وقد ظلت رسائله محفوظة، لفترة طويلة في أسرتنا وهي مرصوصة في كتاب كامل والتي كان قد كتبها إلى والديّ عندما كان لا يزال أعزباً وجوالاً في أرجاء روسيا. وانا على ثقة أكيدة بان موهبة العم ميتروفان قد انتقلت، إلى حد معين، إلينا، أيضاً، وخاصة إلى أخويَّ أنطون وألكسندر الذين صارا، فيما بعد، أدبيين حقيقيين.
ثمة صفحات ممتعة في حياة ميتروفان ايغوروڤيتش تعود إلى قصة الحب والزواج. ففي ديوان حاكم مدينة تاغانروغ كان هناك شخص اسمه يفتوشيفسكي، ولهذا الشخص ابنة اسمها لودميلا، والكل كان يدعوها ميليتشكا(2). وهذه الابنة كانت، وإلى حد عجيب، تشبه ابنة الدوق هيسين – درامشتان ماكسمليان والتي تزوجت، فيما بعد، ولي العهد وقتذاك ألكسندر نيقولايفيتش واتخذت اسم ماريا ألكسندروفنا. وعندما رأى العم ميتروفان ايغوروڤيتش، ذات مرة، صورتها، خفق قلبه بالحب نحوها من النظرة الأولى. وروحه المتعاطفة هذه نقلها إلى ميليتشكا وطلب يدها. وأما هي فقد رفضت عرضه. وعند ذلك وهو رومانسي " حتى العظم " اختفى من المدينة. ولم يعرفوا أنه انطلق في سياحة طويلة إلا من خلال الرسائل التي صارت ترد منه تباعاً وهو في طريق السفر الطويل.
يمكن الحكم على صعوبات السفر في ذلك الحين بسبب أنه لم تكن هناك أية مدينة على الطريق الممتد ما بين تاغانروغ وخاركوف والذي يزيد طوله على 480كم، وكان يمكن فقط مصادفة بعض الباعة الجوالين من الفلاحين.وغالباً ما كان المبيت يتم في العراء وعلى أطراف السهوب اللانهائية. وكانت هذه المواضيع، وقتذاك، تلك " الأماكن الجديدة " الموصوفة من قبل دانيليفسكي في روايته بالعنوان ذاته إضافة إلى قطاع الطرق واللصوص وقصص المغامرات الخفية والتي كانت تشارك فيها قوى غير نظيفة.لم تكن هناك خطوط حديدية وعندما كان والدنا يسافر إلى خاركوف لشراء السلع اللازمة، كانت الصلوات هي حافزه الأساسي. وطريق نيقولايف الحديدي الوحيد كان لا يزال في طور الإنجاز. وفي الفترة التي أصفها كان الخط يعمل في المناطق الأمامية الرئيسية علماً أن المسافة من موسكو إلى تفير تزيد عن /180/ كم وكان القطار يجتازها خلال يوم ونصف اليوم. ووسيلة النقل هذه كانت هي الراحة والسرعة حينذاك.
كانت رسائل العم مفعمة بالثراء العميق إذ بأسلوب مارلينسكي ذاته كان يصف رحلته إلى موسكو وبطرسبورغ ويسجل انطباعاته عن سفرته في أول خط حديدي في حينه. ورسالته عن زيارته إلى القرية القيصرية ضربت رقماً قياسياً وسرعان ما كشفت عن الهدف السري لمثل هذه الرحلة.
ما إن دخل العم إلى حديقة القصر توقف منتظراً ما إذا كان بالمستطاع رؤية تلك التي كانت محبوبته تشبهها. وفجأة حدث ما هو غير متوقع إذ رأى شخصين يتجهان نحوه. إنهما ألكسندر الثاني وهو يتأبط ذراع زوجته الأميرة السابقة ماكسيميليانا. وقد اقتربا مباشرة منه فانحنى العم على ركبتيه. وقد ظن ألكسندر الثاني أن هذا الشخص هو أحد المتوسلين فانحنى نحوه وسأل:
- ماذا تريدون؟
- لا شيء يا سيدي المحترم. ويسعدني فقط أنني رأيت تلك التي تشبهها فتاتي الحبيبة.
ماكسيميليانا هذه لم تفهم كلماته على ما يبدو، أما ألكسندر فقد أنهضه وربت على كتفه ثم تابعا السير.
لاشك أن هذا المشهد يحمل الكثير من السذاجة إلا أنه في ذلك الوقت وخاصة في الأطراف النائية، وفي الجنوب البعيد، كان عليه أن يترك انطباعاً معيناً. هذا ما كتبه العم الرومانسي وربما بالغ في سرد قصة اللقاء في حديقة القيصر.
ولهذا السبب عاد ميتروفان ايغوروفيتش، لاحقاً، إلى الوطن، ولم يعد لدى ميليتشكا أدنى اعتراض على الزواج به. وقد عاشا سوية حتى هرما, وفي دارهما المريحة المضيافة كان يمكن، دوماً التمتع باستقبال لطيف، وفيما بعد في إقامتنا في الشمال كنا نحب التوقف عند العم ميتروفان في كل زيارة إلى تاغانروغ. وفي هذه الدار بالذات التقط انطون تشيخوف بعض اللحظات التي عالجها وصاغها، لاحقاً في تلك القصص مثل " الرئيسة ".ويبدو لي أن العم ميتروفان كان، من حين إلى آخر، يكتب بنفسه لأنني عندما صرت أنا في الخامسة والعشرين من العمر أخذ يتراسل معي وكان يرسل إليّ صفحات كاملة في وصف الطبيعة: " الورود في جوانب سياج الدير على أضرحة الرهبان " و " السواقي الجارية بطيش عبر المرج النديّ " وما إلى ذلك. وكل هذا كان عبارة عن نبذات يمكن ومن حيث مقاطعها وأسلوب كتابتها، إدراك أن مؤلفها كان كاتباً حقيقياً.
كما ذكرت أعلاه، كان العم ميتروفان مشرفاً على الدير وهو بطبعه وعلى أساس منصبه كان يحب استقبال رجال الدين. وكان ضيفه المرغوب به دوماً هو القمص ف.ن.بوكرفسكي (كبير الخوارنة). فهو كان قسيساً مميزاً، جميل الهيئة، علمانياً، يحب التباهي بأناقته الفائقة، وكان يتمتع بصوت جهوري قوي ويعد نفسه كي يكون في عداد مغني الأوبرات. بيد أن هذا الوضع الذي كان يعيش فيه أدى إلى إعاقة تطوير مواهبه واضطر إلى الاقتصار على منصب رئيس كاتدرانية تاغانروغ. ولكن هنا، أيضاً، ظل متمسكاً بهويته، كممثل. فهو كان يؤدي الطقوس بكل نشاط وحيوية ويغني في الهيكل بحيث أن صوته كان يغطي على غناء الكورس ويدوي في كل عطفات وزوايا الكاتدرانية الرحبة. ومن يصغي إليه يظن فعلاً أنه يجلس في دار الأوبرا.
كان العم ميتروفان معلماً في المدرسة المحلية والتي تعلمنا فيها نحن الإخوة الخمسة: أنا في الصف الأول، والأخ أنطون في الصف الخامس. لم يكن أحد منا في كل الأوقات يسمع الأسئلة التي يوجهها باكروفسكي. فهو كان ينادي في الوقت الذي كان يغرق في الجريدة ودون أن يسمع جواب التلميذ ثم يضع له علامة النجاح " بالتدفيش " وكان كرهه لوالدنا بسبب شكلياته الدينية قد نقله إلينا وإلى أبناء عمنا. وقد روى الأخ أنطون عندما صار يافعاً كيف أن باكروفسكي في حديثه مع أمنا وبحضوره أفصح عن الرأي التالي:
- من بين أبنائك يا يفغينينا ياكوفليفنا لن يكون حصادك سوى الصفر والعدم.
كان يحب إطلاق أسماء مضحكة على تلاميذه. وعلى فكرة، باكروفسكي نفسه هوأول من أطلق على أنطون تشيخوف " أنطوشا تشيخونته " والذي استخدمه الكاتب كاسم مستعار له مستقبلاً...
وعندما صار الأخ أنطون كاتباً معروفاً بعث سوية مع المحامي البطرسبورغي كالومنين الذي هو أيضاً أنهى تعليمه في مدرسة تاغانروغ، بعث إلى القمص باكروفسكي هدية عبارة عن حمالة كوب شاي فضية.
وانطلاقاً من نزعة الحنان والرقة لدى القمص بسبب هذه القطعة الفضية، شكر الأخ أنطون وطلب منه أن يرسل إليه بعض كتاباته.
وسرعان ما أرسل أنطون تشيخوف " قصصاً مبرقشة " وعلى صفحتها الأولى " أ.تشيخونته ".
لم تتحقق نبوءة القمص، وأما ما ابتكره باكروفسكي أي الاسم المستعار فقد صار ملكاً للأدب الروسي.
نظراً لأن الأسرة المكونة من ستة أولاد (خمسة إخوة وأخت واحدة) كانت قد أكملت تعليمها المدرسي فهذا قد أضفى عليها نزعة علمانية وثقافية أكبر مما كان يمكن تلمسه لدى العم ميتروفان. وفي الحقيقة كان والدنا أيضاً، بافل ايغوروفيتش، يحب إقامة الصلوات إلا أنني حسبما أذكر، كان يشغله الهندام أكثر من الإيمان. فهو كان يحب الطقوس الكنسية ويؤديها بالتمام والكمال إلا أن الكنيسة بالنسبة إليه كانت، كما يقال، النادي الذي كان يستطيع فيه اللقاء مع معارفه وحيث يرى في موضع محدد أيقونة قديس ما بالتحديد وليس أي قديس لا على التعيين. فهو كان يرتّل الصلوات البيتية علماً أننا، نحن أولاده، شكلنا الكورس وهو كان يؤدي دور القسيس. غير أنه وفي كل ما عدا ذلك، كان ضعيف الإيمان مثلما نحن كنا آثمين، ولذا انتقل إلى الشؤون الدنيوية. كان يغني ويعزف على الكمان ويتمشى وعلى رأسه قبعة عالية. وفي أيام الفصح والميلاد كان يقوم بالزيارات ويعشق قراءة الصحف التي كان مشتركاً فيها بدءاً من "نحلة الشمال " وانتهاء بـ " ابن الوطن ". وكان يحتفظ بكل عدد منها كان يربطها في نهاية السنة في مجموعة كاملة ويضعها تحت الرفوف. وكان يقرأ الجرائد بصوت عالٍ دوماً ومن ألفها إلى يائها كما كان يحب التحدث في السياسة وعن تطرفات الحاكم المحلي في المدينة. وأنا لم أره إطلاقاً في رداء غير منشّى وحتى في أثناء فترة الفقر المدقع الذي داهمه لاحقاً. وكانت أختي تعد له لباسه النظيف والمرتب والخالي من أدنى لطخة أو حتى نتفة من الوسخ.
كان، بالفطرة، يحب الغناء والعزف على الكمان وعلى أساس النوطة والالتزام بكل حالات البطء والاعتدال (اداجيو وموديراتو) ومن أجل تأمين حالة الشغف هذه كان ينشئ جوقات أفرادها من أبنائه ومنا ومن الغرباء وينسى مسألة تأمين الحياة والعيش، ولهذا السبب، على ما يبدو، أشرف على الإفلاس. وهو كان، أيضاً، ذا موهبة فنية. وبالمناسبة يجد الزوار إحدى لوحاته " يوحنا اللاهوتي " الآن في متحف تشيخوف في يالطا. وأما الوالد فقد عمل، لفترة طويلة في دوائر انتخابات المدينة ولم يقصر في حضور أي تكريم أو حفل غداء وحيث كان يحضر فيه عدد من الرجالات المحليين كما كان يحب التفلسف. وفي الوقت الذي كان العم ميتروفان يقرأ فيه أعمالاً ذات مضمون رفيع، كان الوالد يعيد ويعيد قراءة الروايات الفرنسية الخفيفة, وأحياناً كان يستغرق في تأملاته دون أدنى تركيز بحيث كان يتوقف في أثناء القراءة ويتوجه إلى والدتنا التي كانت تصغي إليه قائلاً:
- أنت يا ايفوشكا أعيدي على مسامعي ما قرأته عليك الآن.
أنا لا أعرف من كان والد جدنا من جانب الأب، ذلك المدعو ميخائيل ايميليانوفيتش.(3) ومن خلال كلام الأب علمت أنه كان لدى والد جدنا هذا، أخ اسمه بيوتر ايميليانوفيتش وكان، ولسبب من الأسباب، يجمع التبرعات لبناء معبد إذ اجتاز أرجاء روسيا سيراً على الأقدام، طولاً وعرضاً، وبالفعل بنى كنيسة في كييف، والكرونولوجيا العائلية التي تخصنا قد أدركت جدنا ايغور ميخائيلوفيتش(4) في ضيعة اولخوفاتك في منطقة فارونج، قضاء أستروغوج وهو متزوج وله ثلاثة أبناء وابنة واحدة. وجميعهم أقنان للإقطاعي تشيرتكوف الذي صار حفيده، في فترة لاحقة، من أقرب المقربين إلى أفكار ليف تولستوي. وقد أجبر التعطش الشديد للحرية جدنا هذا كي يفتدي الفلاحين قبل الانعتاق الشامل بفترة طويلة. ولم تكفه النقود لافتداء ابنة ألكسندرا، وفي لحظة توديع الإقطاعي المذكور، ألح عليه في الرجاء كي لا يبيعها اعتباطاً بل أن ينتظر حتى يتأمن لديه المال ويتمكن من افتدائها أيضاً.
وأما تشيرتكوف فقد فكر ملياً ولوح بيده ثم قال:
- فليكن، خذها على البيعة.
وبهذه الصورة صارت عمتي ألكسندرا ايغوروفنا، أيضاً، حرة.
ونظراً لأن والد جدي وجدي كانا يحملان في اولخوفاتك لقب " التشيك " وليس "التشيخوفيون" وأنهما كانا يبذلان أقصى الجهد لبلوغ الحرية فإن هذا كله قد أجبر عمي الرومانسي ميتروفان ايغوروفيتش على تصديق هذه الترهة التي ألقاها على مسامعي غير مرة.
لاشك أن جدنا الأقدم كان تشيكياً من منطقة بوهيميا. وقد هرب من هناك بسبب الاضطهادات الدينية ولجأ إلى روسيا. وكان عليه، هنا، بالطبع، أن يبحث عن الحماية والملاذ لدى أحد الأقوياء الذين استرقوه لاحقاً أو أنه قد تزوج واحدة من الرقيقات التي أنجبت له أولاده. وتم كل هذا بإرادته أو بمقتضى القوانين السائدة.
وأضاف العم الرومانسي:
- أظن، يا روحي، لا سبب إطلاقاً يستدعي هروب الفلاح البسيط من وطنه. بل حتى أن هذا الأمر مستحيل تقريباً. ومن المحتمل أن يكون هو شخص أرستقراطي من نوع خاص.
وفارق العم ميتروفان الحياة الدنيا حاملاً في ذهنه هذه الفرضية الخرافية. وأما نحن، أولاد إخوته، فكنا نكتفي بالابتسامات. وثمة رواية وثائقية أخرى حول أصولنا وهي أن المدفع المنصوب في الكرملين بموسكو كان قد صبه معلم الصب أندريه تشيخوف(5) في عام 1586. ولكن هذا يعني أن أجدادنا يعودون إليه في أصولهم؟
وضع الجد ابنه الأكبر ميخائيل(6) في ورشة لتعلم صنعة التجليد وأما هو فقد أخذ يعمل لدى الكونت بلاتوف في ضياعه الشاسعة بالقرب من تاغانروغ وفي روستوف على الدون والتي انتقل إليها سوية مع ابنيه الآخرين بافل وميتروفان. وفي ذلك الوقت كانت الابنة ألكسندرا(7) قد تزوجت في اولخوفاتك وبقيت هناك حتى آخر العمر. وهكذا كان مصير والدي وعمي أن يعيشا في أقصى الجنوب ليس بعيداً عن بحر آزوف. وحصل والدي على عمل لدى التاجر وحاكم المدينة كابيلين، واستقر عمي في روستوف لدى التاجر بايدالاكوف. وبعد فترة انتقل عمي، أيضاً، إلى تاغانروغ وبعد أن قضى بافل ايغوروفيتش(8) السنوات المطلوبة لدى كابيلين، دشن مخزنه الخاص به وتزوج الفتاة يفغينيا ياكوفليفنا مارزوفا أمنا الخالدة الذكر.
نحن لا نعرف من كان والد جدنا من ناحية الأم، وقد عاش جدنا يعقوب غير اسيموفيتش مورازوف (9) في مورشانسك،منطقة تامبوف، وهناك تزوج جدتنا ألكسندرا ايفانوفنا(10). وأعطى هذا الزواج ابنتين هما فينيشكا(11) ويفوشكا(12) (أمنا) وابناً واحداً اسمه ايفان(13) (خالنا).عمل يعقوب غيراسيموفيتش في تجارة الأجواخ وتعامل مع الفرنسيين الذين سموه " المسيو ماروزوف " وغالباً ما كان يسافر في أعمال تجارية فهو كان يؤم تاغانروغ التي كانت تؤدي دور العاصمة وحيث كان يبيت في دار الجنرال بابكوف المحاذية لبساتين قصر ألكسندر الأول. كان لجدتنا ألكسندرا ايفانوفنا أخت اسمها ماريا ايفانوفنا(14) التي تزوجت إلى مدينة شويا، منطقة فلاديميرسك بشخص ينتمي إلى اسرة متمسكة بالطقوس والتقاليد القديمة.وفي إحدى غيابات الزوج لأجل العمل والتجارة بالأجواخ أخذت ألكسندرا ايفانوفنا ابنتيها وابنها كي تضيف عند أختها شويا. وفي هذا الوقت اجتاحت الكوليرا مناطق عدة وتوفي جدنا يعقوب غير اسيموفيتش بهذا الوباء في نوفوتشيركاس بعيداً عن البيت والأهل. فاستأجرت جدتنا ألكسندرا ايفانوفنا عربة وتوجهت مع أولادها إلى نوفوتشيركاسك بحثاً عن ضريح زوجها كي تنقل جثمانه إلى حيث ينبغي أن يدفن.
وتركت هذه السفرة أثراً عميقاً لا يمحى في كيان أمنا وأختها. فهنا الغابات الوسنانة والأحواش والخانات الخاصة بالنزلاء وذوات البوابات الموصدة تماماً كما في السجن وحوادث القتل ونهب المسافرين وكل ما يخطر وما لا يخطر على البال، وأخيراً مراتع السهوب المطلة على بحر آزوف حيث التحفنا السماء كي نقضي ساعات الليل لأنه لم يكن من اللازم المبيت في نزل أو خان من تلك الخانات المشبوهة. وهكذا أخلدنا إلى النوم في حضن الطبيعة دون خوف من أي اقتحام أو هجمات محتملة، وكل هذا شكل لاحقاً بالنسبة إلى أمنا وخالتنا فينيشكا موضوعات لا تنضب لقصها في الوسط العائلي عندما كنا صغاراً نصغي إليهما حابسين أنفاسنا وفاتحين عيوننا باتساع كبير. وكانت الأم والخالة تتمتعان بموهبة القص الرائع وأنا واثق بأن هذه القصص والحكايات التي كانا يروينها قد لعبت دوراً بارزاً في تنمية الخيال والحس الأدبي لدى إخوتي.
لم تجد ألكسندرا ايفانوفنا مع أولادها لا الضريح والا التابوت ولا أي غرض للذكرى في نوفوتشيركاسك. ولكنها لم تعد إلى مورشانسك بل تابعت السير إلى تاغانروغ. وفي الطريق، توقفت في روستوف على الدانوب حيث ضمنت العمل لابنها إيفان عند التاجر بايدا لاكوف.
والتقى خالنا فانيا، هنا، مع شقيق والدنا ميتروفان الذي، كما ذكرت، كان يعمل، أيضاً، عند بايدالاكوف. وكان الاثنان حالمين وسرعان ما توادّا وظلا صديقين حتى وفاة الخال فانيا بالسل الرئوي.
ووصلت ألكسندرا ايفانوفنا مع الطفلتين إلى تاغانروغ واستقرت فيها، في دار الجنرال بابكوف والتي كان زوجها يعيش فيها سابقاً.
ومرت الأيام وصار ميتروفان والخال فانيا شابين يافعين. وانتقل ميتروفان من روستوف إلى تاغانروغ وفتح، هنا، حانوتاً تجارياً ثم تبعه الخال فانيا. ومن خلاله ومن خلال ميتروفان تعرف والدنا بعائلة ماروزوف، وبعدها اقترن بالابنة الصغرى لألكسندرا ايفانوفنا واسمها يفغينيا ياكوفلوفنا. ,أقدم الخال فانيا هذا الفنان بروحه والعازف على كل الآلات الموسيقية والرسام والمتمكن من عدة لغات، أقدم على الزواج بمارفا(15) ايفانوفنا لوبودا عمتنا العزيزة وأما عن ميتروفان وخطبته فقد ذكرتها في بداية مقالتنا.
اقترن والدي بوالدتي في التاسع والعشرين من تشرين الأول 1854 أي تماماً في الوقت الذي اشتغلت فيه الحرب في سيفاستوبل. وعلى ما يبدو، قضى السنة الأولى من الحياة الزوجية عند العمة نظراً لأن والديّ الاثنين كانا يحبان التحدث حول أن الإنكليز قصفوافي صيف عام 1855 تاغانروغ وذاك الهرج الذي ساد الوسط العائلي بحيث يمكن التفكير بأن عائلتي تشيخوف وماروزوف كانتا تعيشان سوية. وفي الصيف كانت جدتنا ألكسندرا ايفانوفنا تؤدي صلاة الليل في الكاتدرائية. وكان الأب ألكسي تشاركوف يخدم فيها. وفجأة انطلقت قذيفة فجرت الجدار وخلخلت كل ما كان في الكنيسة وانهالت الكسوة الداخلية والخارجية. وارتعب الناس وتجمعوا في كومة واحدة. وأما الأب ألكسي الذي كانت يداه ترتجفان، واصل قراءة المزمور. ولكن ما إن انتهت التراتيل وغادر المواطنون الكنيسة وهم وجلون حتى أطلقت السفن الإنكليزية نيرانها من جديد.
ثم توقفت القذائف والقنابل إلى أن حل يوم السادس والعشرين من تموز إذ قدم الأب ألكسي تشاركوف، عشية ذاك اليوم، إلى جدتنا ألكسندرا ايفانوفنا وحذرها بأن السفن البيضاء عادت إلى الظهور في الأفق مرة ثانية. وهو نفسه زحف نحو جرس الكنيسة ورأى السفن بعينيه الاثنتين وهي مصفوفة في خط واحد. وقد نصحها بنقل والدتي من قبيل الحيطة وهي كانت، وقتذاك، حاملاً بأخي الأصغر ألكسندر. وكان اليوم التالي هو يوم أحد فتوجه والدنا والخال فانيا إلى القداس. بعده انطلقا نحو آخر نقطة على الشاطئ أي أنهما، فعلاً، شاهدا أمامهما، الأسطول الإنكليزي. وأخذا بكثير من الفضول، يتفحصان السفن الغريبة والتي كان الدخان يتصاعد منها بينما انطلقت منها، فجأة ، طلقة. وتدحرج أبي إلى الأسفل من شدة الهلع بينما الخال فانيا ولى الأدبار عائداً إلى داره بأسرع من البرق. وعند المدخل كان السماور جاهزاً. وكانت ألكسندرا ايفانوفنا قد أعدت، لتوها، شوربة الدجاج. أما والدتي فكانت ممددة على الكنبة. في هذه الأثناء كان هدير القنابل يخيم على المدينة كلها بينما أخذ الزعران ينسلون إلى البيوت ويكسرون الزجاج والمرايا والموبيليا. مسك الخال فانيا السماور المغلي وأخذ ينفضه. وكانت النسوة القلقة والمضطربة لا تعرف ما ينبغي عمله. وفي هذه اللحظة بالذات التقط والدي عربة نقل الحامل وفينيشكا وأما النسوة فقد انطلقن إلى القرية. وما إن جلست ألكسندرا ايفاوفنا في العربة وهي تسمع هدير القذائف حتى أخذت تنهيدة عميقة وهي تقول:
- أوه دجاجتي، دجاجتي ستحترق في الموقد ...
وصلوا إلى سلوبودا كربكايا على مسافة سبعين كيلو متراً من تاغانروغ وتوقفوا عند القس المحلي الأب كيتاسكي وهنا وفي العاشر من آب عام 1855 أنجبت والدتي يفغينينا ياكوفليفينا بكرها ألكسندر(16).
وصار هذا الطفل، لاحقاً إنساناً ظريفاً لطيفاً مثقفاً وطيباً ومدهشاً في اختصاص اللغة وفقهها، وفيلسوفاً متميزاً. كان أديباً يكتب تحت الاسم المستعار " آ.سيدوي ". وبفضل معارفه الشاملة كان يسجل التحقيقات في الصحف عن الجلسات العلمية. وكان البروفسور الشهير أ.ف.كوني وغيره كثيرون من رجالات العلوم غالباً ما ينتظرون قدومه ثم يبدؤون إلقاء محاضراتهم. ولكن من المؤكد أن ولادته في تلك الفترة المضطربة تحت قذائف العدو قد أجبرته على الشرب ومعاناة الإنسان. وفي هذه الفترة بالذات، أيضاً، كتب الشيء الكثير، منها عن طفولة أنطون تشيخوف والمدرسة اليونانية وغيرها كثير مما ألفه تحت وطأة المرض. وللحقيقة ثمة قليل منها مما هو موثوق بصحته. وفي كل الأحوال ينبغي تناول ما نشره عن أنطون تشيخوف بحذر كبير. ولكن عندما كان يصحو ويتعافى ويصير، من جديد، لطيفاً دمثاً وجذاباً، كان يستحيل عندها عدم الإصغاء إليه إذ كان موسوعة كاملة تجبر المستمع على الانبهار. وفارق الحياة في عام 1913 تاركاً ابناً هو ميخائيل تشيخوف الشهير في المسرح الفني بموسكو (كان فليوني)(17).
وفي أيار عام 1857 رأى النور عند والدي الابن الثاني فنان المستقبل نيقولاي(18). وهو أيضاً كان على مستوى عال من الموهبة وموسيقياً بارعاً على الكمان والبيانو ورساماً ورسام كاريكاتير من الدرجة الرفيعة والأصيلة. وكانت لوحاته تعرض في المعارض الفنية المختلفة ومنها " نزهة في ساكولنيكي " و "العاهرة" كما كان يمكن مشاهدة بعض أعماله في معبد المسيح المخلص. ومما يشهد على جماليات لوحاته ورسوماته الكاريكاتيرية تلك البقايا المحفوظة في متحف تشيخوف الموسكوفي وبعض الرسومات المائية المحفوظة في دار متحف أنطون تشيخوف في يالطا. وقد توفي في ريعان الشباب عن عمر يناهز الحادية والثلاثين من العمر. وهو الآن يرقد بسلام في مقبرة لوتشانسكي بالقرب من مدينة سومي، إقليم خاركوف.
وأما أنطون تشيخوف فقد رأى النور في السابع عشر من كانون الثاني عام 1860 وبعده بسنة رأى أخوه ايفان(19) النور وهو ايضاً صار من الأساتذة المربين المشهورين ثم أختي ماريا بافلوفنا(20) وأنا.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

فصل من كتاب حول تشيخوف ترجمة

22-أيار-2011

حول تشيخوف / ترجمة

26-نيسان-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow