Alef Logo
دراسات
              

كمال الشيخ؛ هيتشكوك السينما المصرية

دلور ميقري

خاص ألف

2012-04-21

1
في عام 1952، حينما كان أفرادُ تنظيم " الضباط الأحرار " يعدّون خطط تغيير النظام السياسيّ في مصر، فإنّ مواطناً لهم، مبدعاً، كان مشغولاً من جهته بتأمين مصاريف انتاج فيلم سينمائيّ. أرادَ لهذا العمل أن يكون مُغايراً، من ناحية الفكرة والمعالجة، للمفاهيم السائدة في صناعة الفيلم ببلده: إنه كمال الشيخ ( 1919 ـ 2004 )، المُخرج المُبتديء آنذاك؛ والذي بالمقابل كانت له تجربة مديدة في العمل داخل استديوهات القاهرة كمونتير وسيناريست. فيلم " المنزل رقم 13 "، كان إذن باكورة أعمال المخرج الجديد، وفي آن، نقلة نوعية حقا في تاريخ السينما المصرية؛ لدرجة أنّ صانعه صارَ معروفاً فيما بعد بلقب " هيتشكوك مصر ".
في مقدّمة الفيلم، نقرأ أنّ قصّته مستوحاة من حادثة أوردتها صحيفة " المصري "، جنباً لجنب مع مرور اسم مخرجه ككاتب للسيناريو. الإحالة للصحيفة تلك، أعتقدُ أنها لم تكن مُوَثقة بقدر ما أنها محاولة لخلق الإثارة عبرَ الزعم بكون القصّة حقيقية: ها هنا، إذن، إحدى لمسات فنّ معلّم سينما الغموض والغرابة؛ ألفريد هيتشكوك ( 1899 ـ 1980 ). بيْدَ أنّ المدهش في الأمر، هوَ كون هذا الأخير قد أبدع فيلماً شبيهاً لعمل كمال الشيخ، " المنزل رقم 13 "، من ناحية الحبكة والأجواء. وَجهُ الدّهشة، لأنّ هذا الفيلم المُسمّى " دراسة في الجريمة " (1)، قد انتِجَ في عام 1958؛ أي بعدَ زمن عرض فيلمنا المصريّ ذاك بستة أعوام. ولأنّ هدفَ مقالتنا هوَ عقدُ مقارنةٍ بين عملاقيْن، مُبدعَيْن، فإنه من المفيد ربما البدءُ أولاً بعرض لمحة عن فيلم هيتشكوك، المَوسوم آنفاً.
2
النجم الهوليوودي، جيمس ستيوارت، يلعبُ دورَ المحقق السابق " جون "، الذي يستقيل من عمله بسبب حادثة جعلته مصاباً بعقدة الخوف من الأماكن المرتفعة. ذات مرّة، يُكلّف من لدن صديق قديم بتقصّي خطى الزوجة الشقراء، " مادلين "، اليافعة السنّ. هذه المرأة ( كيم نوفاك، فنانة هوليوود )، كانت بحسَب رجلها غريبة الأطوار ولديها مشكلة نفسية عميقة، تعود لزمن طفولتها. خلال اقتفاء أثرها إلى أحد الغاليريات، يَلحظ المحقق وقوفَ طريدته مطوّلاً أمام لوحة فنية تمثل امرأة مكتسية ثوباً أحمر اللون وتحمل باقة من أزهار بيضاء. فيما بعد، يعرف جون من زوج مادلين أن المرأة صاحبة الصورة هيَ قريبتها؛ وأنها متأثرة جداً بحادثة موتها انتحاراً.
يتأكّد المحقق مما سمعه عن هذه الزوجة، حينما يلقاها في اليوم التالي بثوب أحمر وكانت تحمل باقة من الزهر الأبيض، حيث ينقذها لما حاولت رمي نفسها في لجّة البحر. وإذن يتعرّف بطلنا على مادلين عن قرب، فلا يلبث أن يشعر بميل غريبٍ نحوها. تُستهَلُ، منذئذٍ، لقاءاتٌ حميمة بينهما في حجرة أحد الفنادق. ذات يوم، يصطحبُ المحقق المرأة الشقراءَ بالسيارة إلى دير اسباني عتيق، يُدعى " برج الساعة ". ثمة، يقف مذهولاً وحائراً، حينما يدخل في روعه أن هذا الأثر قد تراءى له مرة في الحلم؛ حتى أنه سبق وقصّ ذلك على زوج مادلين. هذه، لدهشة المحقق، تندفع عندئذٍ باتجاه البرج لترتقي درجاته في حركة تنمّ عن التهوّر واليأس. عندما يلحق بها، إذا برجليه تخذلانه في وصوله إلى مشارف الدور العلويّ؛ هوَ المصابُ برهاب الأماكن المرتفعة ـ كما سبقت الإشارة. ثوان على الأثر، ويتناهى إليه صوتُ ارتطام جسَد مادلين بالأرض الصخرية مسبوقا بصرختها الثاقبة.
بعد فترة من انقضاء علاجه بمصحّة نفسية، يقررُ جون العودة لحياته الطبيعية ومحاولة نسيان الحبيبة الراحلة، الشقراء ذات الرداء الأحمر؛ التي كانت صورتها تعذبه في كوابيس المنام. وإذن كانت قد مرّت عدة شهور على الحادثة تلك، المشؤومة، حينما التقى بشبيهة بطلتها: إنها فتاة شابّة، شعرها داكن، إلا أن فيها الكثير من ملامح مادلين، الفاتنة. يتعرّف عند ذلك على " جودي " هذه، ويطلب منها بإلحاح أن تصبغ شعرها باللون الأشقر وأن ترتدي ثوباً بلون أحمر. ثمّ ما عتمَ أن رافقها إلى الشاطيء، في جولةٍ بدَتْ على وقع الموسيقى التصويرية وكأنها تعِدُ بأمر داهم. هناك، يبدو خلل نافذة السيارة برجُ الجرس، المشؤوم. فما أن يترجلا من العربة، حتى تهرع جودي إلى صعود درجات السلم الحجريّ. إذاك حَسْب، تعترف له بأنها مثلتْ عليه دورَ " مادلين "، وفق صفقة مالية مع الزوج: هذا الأخير، كان يريد التخلص من امرأته، فلجأ إلى خطة محكمة هدفها إيهام البوليس بأنها ماتت انتحاراً. على ذلك، نعرفُ بأنّ الزوجَ كان في يوم الجريمة ينتظر في دور البرج العلويّ، ممسكاً بجثة امرأته القتيل، حينما كان جون يركض بأثر الشقراء ذات الثوب الأحمر. فلم يلبث هذا المجرم أن قذف بجثة زوجته إلى الأسفل، مُطمئناً لحقيقة أنّ صديقه المحقق لن يَصعد الدرجات الأخيرة بسبب خوفه المرضيّ، المَوْصوف.
أنهت جودي إذن اعترافها، لحظة وصولها لحجرة البرج العلويّ؛ ثمة، أين تمّ قذف تلك الزوجة المغدورة. على حين بغتة، يتراءى شبحُ امرأة متشحة بالسواد. فما كان من جودي سوى إطلاق صرخة رعب، والتراجع من ثمّ إلى الوراء لتهوي من شاهق عبرَ فتحة الحجرة. لقد تهيأ للفتاة، على الأرجح، أن طيفَ القتيل هوَ ما ظهرَ لها بهيئةٍ مرعبة. بيْدَ أنّ الأمرَ لم يعدُ عن راهبةٍ تتشحُ بمسوحها، وكانت في سبيلها إلى جرس البرج لكي تقرع نذيرَ الصلاة.
3
" شريف " مهندسٌ ناجح، ولكنه يعاني من عقدة نفسيّة، مرَضيّة؛ تتمحورُ حول خلطه بين الحلم والواقع. يبدأ فيلمُ " المنزل رقم 13 "، إذن، بمَشهدٍ كأنه الحلمُ، أو الكابوس، حينما نتابع المهندسَ شريف، ( النجم عماد حمدي )، وهوَ متجهٌ ليلاً بعزم وتصميم إلى فيلا فارهة يحملُ بابُها الرئيس رقمَ الطيرَة؛ 13. ثمة، ما أن يلجَ حجرة النوم في الدور العلويّ حتى تطالعه صورة كبيرة لامرأة شابّة، معلّقة على الحائط، فيما يقبعُ رجلٌ متوسط السنّ بالقرب منها. يشهر المهندسُ مسدساً، ثمّ يطلق النارَ على رجل الفيلا. في صباح اليوم التالي، يفيق شريف من النوم مرهقا، ولا يلبث أن يلتقي والدته فيخبرها عن " حلم غريب " بلبلَ خاطره. حينما يرتدي ملابسه، لكي يذهب للعمل، تفاجئه أمه بإشارتها إلى بقعة من الدّم على قميصه. مُروّعاً، يقرر شريف الاتصالَ بالطبيب النفسيّ، المُشرف على معالجته. إلا أنّ هذا الأخير، ( الفنان محمود المليجي )، يُطمئن مريضه بأنّ الأمرَ لا يعدو عن مضاعفات حلم الليلة المنصرمة.
وساوسُ شريف، يُضافرها عثوره على مفتاح " فيلا الحلم " تلك في جيب سترته. إذاك، يكون في السيارة مع خطيبته " نادية " في طريقهما لمحل صائغ لكي يشتري لها حلية العرس. الخطيبة ( الفنانة فاتن حمامة )، تلاحظ اضطرابَ شريف وهوَ يقود السيارة، فتهجسُ بأن أمراً داهماً قد حصلَ معه. يتفاقم الموقفُ، عندما يتجه شريف إلى عيادة طبيبه، ويلمح امرأة شابّة في طريقها للمكان عينه؛ إذ كانت على شبهٍ غريب مع صاحبة الصورة في المنزل ذي الرقم 13. الطبيب، من جهته، وبعد أن يبرهن للمريض مجدداً أن كلّ ذلك وهمٌ بلا أساس، إذا بنا نراه في المشهد التالي صُحبَة تلك المرأة الشابّة: إنها راقصة ( الممثلة لولا صدقي )، سبقَ لها أن كانت عشيقة رجل الفيلا، القتيل؛ الذي كتبَ لها بوليصة تأمين حياته. وإذن، نحن أمام جريمة معدّة بعناية، يكون أداتها المهندس شريف، بعدما قام الطبيبُ بتنويمه مغناطيسياً ـ كذا.
تتسارع وتيرة الأحداث، عندما يُقبض على المهندس بتهمة القتل، حيث يُساق من طرف البوليس إلى تلك الفيلا المشؤومة. هناك، يَجدُ المتهم خطواته تقوده تلقائياً إلى مكان الجريمة، ليكون بانتظاره المدّعي العام ( الفنان سراج منير ). المفتاح والمسدس، اللذان عثرَ عليهما لدى شريف، يُشكلان دليلَ اتهام ماديّ ضدّه علاوة على بصماته. تنعقدُ جلسات المحكمة، فيظهر شاهدٌ جديد، على غرة، ليؤكد أنه التقى مع المتهم في ليلة الجريمة وكان بصحبة رجل آخر لا يعرفه. عند ذلك، يقرر الطبيبُ التخلّص من الشاهد، طالما أنه هوَ الشخص المعنيّ الذي رافق شريف إلى الفيلا في تلك الليلة الدامية. من جهتها، تحاول نادية لقاء الشاهد نفسه، لكي تستفهم منه عن بعض الأمور التي ترتاب بها. هناك، في شقة هذا الأخير، تعثر عليه مقتولاً، فما أن تهم بالفرار من المكان حتى يظهر الطبيب فيقودها إلى عيادته.
المهندس شريف، يائساً من امكانية اثبات براءته، يتمكن من مغافلة الحارس لدى خروجهما من المحكمة، ثمّ يهرع إلى العيادة بعدما أخذت الشكوك تراوده حيال طبيبه. المفاجأة، أن يلتقي هناك وجهاً لوجه مع تلك الراقصة؛ عشيقة المجني عليه. تحت التهديد، تعترف المرأة لشريف بسرّ المكيدة الجديدة؛ المعدّة هذه المرة لنادية. هذه الأخيرة، تكون تحت تأثير التنويم المغناطيسيّ في طريقها برفقة الطبيب إلى الكوبري المطل على النيل. في اللحظة التي يأمرها القاتل برمي نفسها في النهر، يكون شريف ثمة مع البوليس ليُختتم المشهد الأخير بالقبلة السينمائية، الكلاسيكية.
4
قبل أن ندخلَ في المُقاربة المَطلوبة بين الفيلمَيْن، لجهة الفكرة والحبكة، يتعيّن الإشارة إلى ظروف إنتاج كلّ منهما. فكما سبق القول، أنه قبل ستة عقود من الزمن كان كمال الشيخ يُحاول تأمينَ مموّلٍ لباكورة أعماله السينمائية؛ فيلم " المنزل رقم 13 ". ويبدو أنه تمكّن من انتاج الفيلم بمبلغ غير كبير، استدانه من إحدى العاملات في الاستديو. ولكي يوفر في المصاريف، نجدُ مخرجنا يلجأ إلى كلاسيكيات الموسيقى العالمية، بهدف انتقاء ما يناسب المؤثرات الصوتيّة لأحداث فيلمه. أما من ناحية الديكور، فلا نعثر في " المنزل رقم 13 " على خلفيات ضرورية للمَشاهد؛ بما أنّ هذه كانت موزعة ببساطة بين الاستديو وبعض الأماكن الخارجية. السيناريو، شارك المخرج بكتابته. وقد بنيت حبكة القصّة على ما قيل أنه خبرٌ في صحيفة مصرية، عن طبيب دفع مريضه لارتكاب جريمة قتل بعدما نوّمه مغناطيسياً. وهذه البدعة، كانت شائعة في ذلك الزمن، حتى أنها أضحتْ محورَ سيناريوهات أفلام مصرية أخرى.
أيضاً، ينبغي الإشادة بصواب انتقاء المخرج لأبطال فيلمه هذا. وبغض الطرف عن الشهرة الواسعة زمنئذٍ لعماد حمدي، إلا أنه أدى دورَهُ في الفيلم بشكل مميّز واستثنائيّ: فموهبة هذا الفنان الكبير، كانت قبل عمله مع كمال الشيخ مُحاصرَة بالأدوار الرومانسية حَسْب. ثمّ حقّ لإمكانيات ممثلنا أن تتفجرَ لاحقا مع أفلام أخرى لنفس المخرج؛ وخاصّة فيلمه الشهير " حياة أو موت "، المنتج عام 1954؛ والذي رسّخ لقبَهُ " هيتشكوك مصر ". ولا يقلّ أهميّة دورُ البطل الثاني، المؤدّى من لدن الفنان القدير محمود المليجي بإتقان وحِرَفية عاليتيْن؛ هوَ المعروف سينمائياً بموهبته في تقمّص دورَ الرّجل الشرير. أما فاتن حمامة، الفنانة العظيمة، فيبدو أنّ دورَها في " المنزل رقم 13 " كان هامشياً نوعاً. بيْدَ أن فنانتنا، وبالرغم من ذلك، أدّت شخصيّة " نادية " بموهبتها المتألقة دوماً.
بالمقابل، نعرف من فيلموغرافيا " دراسة في الجريمة " أية امكانيات ماديّة هائلة وضِعَتْ بتصرّف مخرجه. ويكفي ذكر اسم " كولومبيا "، كشركة منتجة للفيلم، كي ندرك حظ هيتشكوك السّعيد. وبهذه الإمكانيات، استطاع المخرجُ ضمان المصاريف الباهظة جداً لبناء " برج الساعة " في الاستديو. كما أنه تعاقدَ مع الموسيقار الشهير، برنارد هيرمان، لوضع الموسيقى التصويرية؛ والتي لعبتْ دوراً مهماً في إنجاح الفيلم. وكان هيتشكوك يزور مدينة سان فرنسيسكو عام 1951، لحضور افتتاح فيلمه " غرباء في قطار ". وعندما اشترى حقوق الرواية الفرنسية ، الصادرة عام 1954، فإنه فكّر في تلك المدينة كمسرح مناسب لأحداث فيلمه المقتبس عنها؛ " دراسة في الجريمة ". وقد انتقلت هذه الرواية بين أيدي ثلاثة كتاب سيناريو، إلى أن رضيَ المخرج المُتطلّب بنصّ صموئيل تايلور.
وعلى الرغم من حقيقة، أن الشركة المنتجة هيَ من فرضَ الممثل جيمس ستيوارت على المخرج، غيرَ أن ذلك كان في صالح الفيلم بكلّ تأكيد: ولغرابة الاتفاق، فإن هذا الممثل الهوليوودي، العملاق، شبيهٌ من ناحية " الكاركتار " بممثلنا المصري، عماد حمدي؛ حيث أن كلاهما لديه نفس الملامح الجَهمَة، المُرهقة، علاوة على الاتزان الشديد في شخصيّته حدّ التحفظ. من ناحية البطل الثاني، وهيَ الممثلة كيم نوفاك، يتعيّن القول أن اختيارها للدور المزدوج، المُعقد، كان بالصدفة البحتة: إذ اعتذرتْ زميلتها الأكثر شهرة في هوليوود، فيرا ميليز ( بطلة الفيلم الاسطورة " ذهبَ مع الريح " )، عن هذا الدَور المخصص لها من قبل الشركة المنتجة؛ وذلك بسبب حالة الحَمْل المتقدّم لديها. بأدائها الرائع، المُعجّز، حققت كيم نوفاك ما يُعرف فنياً بـ " دَور العُمر "، الذي جعلَ اسمها ايقونة خالدة في عاصمة السينما العالمية.
من النافل التنويه، بأنّ كلا المخرجين قد جعلَ فيلمَهُ ينطق بالإيحاءات الرمزية، الخاصّة بالحدَث. إلا أننا في مقاربتنا هذه، سنحاول التركيز أيضاً على بعض الثيمات المشتركة بين " منزل رقم 13 " و " دراسة في الجريمة " سواءً فيما يتعلق بالفكرة أو الحبكة. لعلّ أول ما يلفت المرءُ المهتمّ، هوَ كون كلّ من الفيلمَيْن قائماً على محور أساسٍ: الجريمة، المُخطط لها بعناية من جانب شخص يتمتع بالذكاء الشديد. وكلا المجرمان، من ناحية أخرى، كان يبغي التخلّص من ضحيَته باستعمال أداةٍ بريئة. كذلك الأمر، بخصوص دافع القتل، المتشابه هنا وهناك. كما أنّ ضحيّتين سقطتا في فيلم هيتشكوك، مقابل مقتل رجليْن في فيلم كمال الشيخ.
ولكننا لن نغمُط، بطبيعة الحال، أسلوبَ كلّ من المخرجَيْن، المُميّز. إذ شاءَ كمال الشيخ أن يكونَ الطبيب هوَ المُخطط والمُساهم في جريمة المنزل رقم 13، فيما أنّ دورَ الراقصة في التنفيذ كان مَعدوماً تقريباً. إلا أنّ المخرجَ، من جهة أخرى، أوكلَ لنادية مهمّة مساعدة خطيبها شريف في تخليصه من المَأزق المُميت. أما هيتشكوك، فإنه اختارَ واسطة نسائية ( مادلين المُزيَّفة / جودي ) بين المُجرم المُخطط للقتل ( زوج مادلين الحقيقية ) وبين الأداة البريئة، المُتعيّن عليها أن تكون شاهدَ زور على حادثة الانتحار المزعومة ( المحقق السابق جون ): في الحالة الأولى، ركّز فيلمُ كمال الشيخ على متابعة الانفعالات النفسية لبطله الرئيس، المهندس شريف. بينما كان فيلم هيتشكوك، على خلاف ذلك، قد وزعَ هكذا انفعالات على بَطليْه الأساسيَيْن؛ جون ومادلين المزيّفة ( جودي ).
غيرَ أنّ بَطليْ فيلمَيْ كمال الشيخ وهيتشكوك، الرئيسَيْن، يشتركان في أكثر من ناحية؛ سواءً في المَسلك أو الشخصيّة. فكلاهما، كما رأينا، يُعاني من مشكلة نفسيّة: المهندس شريف، كان يُعالج في عيادة الطبيب بسبب معاناته من الأحلام المزعجة. فيما أنّ المحقق السابق، جون، قد دخلَ أكثر من مرة إلى المصحّة العقلية لكونه مصاباً بعقدة الخوف من الأماكن المرتفعة. كذلك، فكلّ من البطليْن كان مرهفَ المشاعر للغايَة مع من أحبّه من النساء، فضلاً عن قيامه بالواجب بكلّ أمانة وإخلاص. وقد حقّ لهيتشكوك، المُصاب بنفسه بعقدة الكره للشرطة ( بسبب حادثة من زمن الطفولة )، أن يجعلَ بطله مُحققا خاصّاً، مُستهتراً كالعادة بمَقام المُحققين الرسميين. بيْدَ أنّ كمال الشيخ، من جهته، يُعتبر أول مخرج مصريّ يتبَع ذاك الاسلوب الهيتشكوكي، المَوْصوف، وربما بسببٍ فنيّ مَحض: إذ أنّ المدّعي العام، في فيلم " المنزل رقم 13 "، كان دورُهُ يتمحور في محاولة إدانة المهندس شريف لا المُساعدة في تبرئته من تهمة القتل. وبالتالي، فمخرج الفيلم لم يَخرُج عن تقاليد السينما المصرية الكلاسيكية، حَسْب، بل ومع تقاليد مجتمعه المسلم، المحافظ؛ حينما جعلَ الخطيبة نادية تسهم بفاعليّة في أحداث القصّة، موكلاً لهمّتها ما يُفترض أنها مهمّة رجل النيابة، العتيد.
ثمّة تفاصيل أخرى، مُشتركة، بين عمليْ العملاقيْن؛ هيتشكوك وكمال الشيخ. فكما أنّ الأول، المُولّه بالغموض والغرابة، قد اختارَ برجاً تاريخياً، منعزلاً، ليكون مكان الجريمة؛ كذلك الأمر مع الثاني، الذي عبّرَ عن التولّه ذاته حينما انتقى لمنزل الجريمة الرقمَ 13، المُرَمِّز للشؤم في العقيدة الشعبية العربية. رمزٌ آخر، يمكن الزعمُ بأنه كان مؤوِّلاً لعقدة الحبكة، كما حلّها سواءً بسواء: صورة الراقصة في فيلم " المنزل رقم 13 "، ولوحة قريبة مادلين في فيلم " دراسة في الجريمة ". فلولا صورة هذه الراقصة، لما عرَفها المهندس شريف حينما التقى بها صدفة، ولما كان قد أدركَ بأنه ارتكبَ بالفعل جريمة قتل، ولم يكُ الأمرُ مجرّدَ حلم؛ مثلما أوحى له الطبيبُ المُخادع. ولولا لوحة قريبة مادلين، لما ترسّخ في لا وعيّ المحقق السابق، جون، شبهة العلاقة الغامضة بين جودي وزوج مادلين الحقيقية؛ الذي قام بقتل هذه الأخيرة وفق خطته الشريرة، المَوْصوفة آنفاً. موضوع الحلم، كان يراود أيضاً كلّ من بطليْ الفيلمَيْن، مُحالاً لديهما للواقع؛ أي لمكان الجريمة: جون، يعتقدُ أنه رأى برجَ الساعة في منامه. وكذلك شريف، الذي يتوهّم للوهلة الأولى أنّ ما حصل معه في الفيلا رقم 13 إن هوَ إلا أضغاث حلم أو كابوس.
بالمقابل، كانت نهاية الفيلم المصريّ عاديّة ومختلفة عن مثيلتها، لدى قرينه؛ الفيلم الهوليوودي. غيرَ أننا نعثرُ، أيضاً، على ما يفيدُ مقاربتنا لعَمَليْ هيتشكوك وكمال الشيخ هذيْن، باستخدام كليهما لحيلة الانتحار من لدن القاتل ـ كتبرير لموت ضحيّته: جريمة قتل مادلين ومحاولة قتل نادية. وكان مما له مغزاه، برأيي، أن يُختتم الصراع هنا وهناك في مكان شاهق، خطِر: الكوبري، المُطل على نهر النيل، في فيلم " المنزل رقم 13 "؛ وبرج الساعة، المُشرف على البحر المحيط، في فيلم " دراسة في الجريمة ". هذا الأخير، كشف في المُختتم بجلاء عن عبقريّة صانعه؛ الذي جعلَ جون، العاشقَ بجنون لجودي، يفقدها مرّتين: الأولى، بشكل خادع وباسمها المزيّف؛ أما المرّة الثانية، فكانت بصورة فعلية وبشخصيّتها الحقيقية. جدليّة الارتقاء والسقوط، كانت متحققة في الفيلمين، الهوليوودي والمصري؛ ورمزا لنجاح المجرم مؤقتا في لعبته، ثم انكشافها للعيان: يصعدُ شريف إلى الدور العلويّ للمنزل رقم 13، مسيّراً من قبل القاتل. هذا الأخير، يفعل الأمرُ ذاته مع نادية؛ غيرَ أنه يُضبط أخيراً على الكوبري من قبل الشرطة. نفس الأمر بالنسبة لجودي، الموجّهة من لدن القاتل، الذي كان ثمة في الدور الأعلى من البرج ينتظرها مع زوجته المقتولة. ولكن جودي تسقط من شاهق، في آخر الفيلم، في اللحظة التي تنكشف فيها خطة ذاك المجرم.
1 ـ عنوان الفيلم " دراسة في الجريمة "، هوَ بحسَب النسخة السويدية المترجَمة؛ أما عنوانه الأصليّ، فيَعني " غدر " بالانكليزية:
VERTIGO
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حكاية من كليلة ودمنة 8

04-آب-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 7

27-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 6

18-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 5

11-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 4

06-تموز-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow