Alef Logo
يوميات
              

سَهرة مُستطيرة

دلور ميقري

خاص ألف

2012-07-14

ارتجّ البلدُ، جميعاً، بالنبأ الجديد، المَهول: " مات الأبّ القائد ". ولكنّ أبناءه، الملولين، لم يَجدوا الوقت الكافي للحزن؛ بله البكاء والنحيب: " بما أن المرحومَ هوَ والدُ السوريين، ولا رَيب، فليقمْ هؤلاء بالواجب بدلاً عنكم "، خاطبتهم أمّهم المُكتسية بثوب الحداد، ثمّ أضافت قائلة ً بحزم: " أما أنتم، يا أولادي، فهيا أسرعوا لكي تستوفوا حقّ البيعة لشقيقكم، الأكبر؛ فإنّ الحيّ أفضل من الميّت "
" ولكن، أمّاه، ماذا عن الجنازة وطقوسها، المُفترضة "، تساءلتْ الشقيقة الكبرى. حدّقت فيها والدتها مليّاً، ثمّ ما عتمت أن هزت رأسها في خفة: " من يملك جوابَ هذا السؤال، العويص، هوَ الشيخ الكردي.. "، قالتها ثمّ أسرعت إلى داخل الجناح الخاص في المشفى، أين يرقد رَجلها بسلام ـ كأنه طفل نائمٌ، بريء.
***
" الشيخ الكردي "، كان ثمّة إذن، في ذلك الجناح نفسه من المشفى. لقد استدعوه على عجلة من المسجد الصغير، المَوْسوم بكنيته، الكائن في حيّ شعبيّ؛ والذي دأبَ على الخطبة فيه منذ عودته من منفاه السعوديّ، قبل أعوام طويلة، إثرَ وساطة رفيعة المستوى. رجالُ الأمن، المَشنوعو الصّيت، لم يأبهوا كثيراً بمَقام شيخنا، حينما جرّوه من وسط المُصلين ثمّ ما لبثوا أن رموه في سيارتهم؛ كما يُرمى جوال حنطة أو شعير. بيْدَ أنّ الاستقبال الحَسَن، هناك في المشفى، عليه كان أن يُنسي الرجلَ ما حاق بكرامته من أذى من لدن أتباع الأجهزة الأمنيّة؛ التي يُشرف عليها صهر الرئيس، المرحوم. " لا رحمة من الله عليه، ولا يحزنون "، قالها في نفسه الشيخ الواصلُ للتوّ إلى صالة الجناح الفخم. هناك، كان كبارُ الشخصيّات الحكوميّة، العسكريّة والحزبيّة، يَجلسون على أرائك وثيرة مُشكلين نصف دائرة. ما أدهش شيخنا، حقاً، هوَ جوّ المَرَح، الواضح، السائد بين القوم وكأنهمُ في حفل لا في عزاء.
***
" عجباً. قبل بضعة أعوام، كان هؤلاء أنفسهم يُعبّرون عن أشدّ مشاعر الحزن، حينما كانوا في هذا المكان ذاته يُعزون الرئيسَ، الراحل، بوفاة ابنه البكر..؟ "، فكّرَ مُحتاراً بما يراهُ اللحظة. هذه الفكرة، كأنما جاز لوليّ العهد أن يقرأها. إذ التفتَ إلى الشيخ، على غرّة، ليُخاطبه بشيءٍ من الودّ: " لقد أمرنا باستدعائك، في هذا اليوم الحزين، كي تكرّر مَناحتك تلك، المؤثرة، التي سبق لك وأقمتها فوق رأس شقيقنا، المرحوم "
" إيْ الله يجحمك، مثل ما جحمه وجحم يللي خلفكم.. "، ردّد الشيخ في نفسه فيما هوَ، ظاهراً، يُبدي آيات الشكر بيدَيْه وتمتمة شفتيْه. ولكن، ما سيُفاقم من دهشته، كان طلبهم منه السهرَ على جثمان أبيهم، لقراءة القرآن فوق رأسه. بمَحض الصدفة، كان وزيرُ الدفاع يَجلسُ بالقرب من شيخنا: " إنه مُسلم ويدّعي الايمان، فوق ذلك. فلا ضررَ، والحالة هذه، من أن أهتبل فرصة انشغال القوم بالأحاديث لكي أستفهم منه عما يشغل ذهني "، عادَ الرّجلُ إلى مخاطبة نفسه. حينما بث سؤاله للوزير، فإنّ هذا أجاب أيضاً بنبرَة خافتة: " حط بالخرج، فضيلة الشيخ. الرئيس، لعلمك، متوفي منذ ثلاثة أيام. وإذ تتساءل أنتَ، الآن، عن حق الميّت في التشييع بنفس اليوم الذي يقبض فيه عزرائيل أجله؛ فإنّ أهله، هؤلاء، كانوا يتفكّرون خلال تلك الفترة بالطريقة التي سيورّثون بها الحكمَ إلى ابنه، الأكبر ".
***
حجرَة الميّت، في هذا المشفى، تراءت لعينيّ شيخنا كما لو أنها أحد الأجنحة، الراقية، في الاوتيلات التي سبق له أن نزل فيها، خلال زياراته الرسميّة، وغير الرسميّة، لدول الخليج. إلا أنّ مَشاماً غريباً، مَكروهاً، عكّرَ على الرّجل ذلك الخاطر، المُبهج. وكان في سبيله للبصاق، بقرَف وسخط، حينما داهمته فكرة مُفزعة: " إنّ هذا المكان، على الأرجح، مَرصودٌ من قبل رجال الأمن، الملاعين، بوساطة كاميرات خفيّة ". وإذن، سرعان ما ألقى الشيخ على هيئته مَظهراً من الأسى، جليّاً، فيما تمتمته لآيات الذكر الحكيم ترتفعُ بصوتٍ عال نوعاً. الميّت، كان ثمّة، مُسجّى على سرير مرَضِهِ، الأخير. وبالرغم من أنّ الغطاء الأبيض، الحريريّ، يُغطي رأسَ الراحل بالكامل، إلا أن الرهبَة لم تزايلَ الشيخ القاريء. ثلاث ساعات، على الأثر، حينما هدأتْ أصواتُ من كانوا يجلسون خارجاً، كانت ساعة الحائط توقعُ لحناً يُشير إلى انتصاف الليلة. فما هيَ إلا وَهلة، حتى ثقلَ رأسُ شيخنا بفعل الارهاق والقلق. فإذا بالأرض تهتز تحت مَجلسِهِ، في ذات اللحظة التي همّ هوَ فيها بإغلاق كتاب الله: جدارُ الحجرَة، القبليّ، انشق عندئذٍ عن شخصَيْن، غريبَيْن، مُتماثليْ الهيئة والصورة. وبما أنّ الجناحَيْن، الناصعَيْ البياض، هما علامة فارقة لأيّ ملاكٍ، ربانيّ، فلا غروَ أن يُردّدَ الشيخ في نفسه مُرتاعاً: " مُنكر و نكير.. ".
***
" انظر، من هنا.. "
" آه.. هذا صيدٌ، لم يكن على البال "
" ماذا تعني، يا أخي ؟ "
" أعني، أن تكريمَ الحيّ أجدى "
" ولكن لا تنس، أننا قدمنا لكي نحاسبَ الميّت؟ "
" الميّت مَضمون، وحسابُهُ مؤكّد عاجلاً أم آجلاً؛ هنا، أو في القبر. أما هذا الديوث، فإنه صيدٌ صعبٌ علينا، إذا فاتنا في هذه الليلة "
" وكيف جاز لك، يا أخي، أن تشنّعَ عليه بتلك الصّفة؟ "
" وماذا ستكون صفة رجل الدّين، الذي يَقبل بتلاوة آيات القرآن الكريم فوق رأس شخص على شاكلة هذا الميّت..؟؟ "
***
ما أن أنصَتَ " الشيخ الكردي " لحوار الملاكيْن، حتى غاض الدّم في سحنتِهِ: " يا إلهي، الرّحيم. إنهما على غير اطلاع، بعدُ، على تفاصيل سيرتي مع هذا الرئيس الراحل.. "، هتفَ لنفسِهِ وقد تملّكه الجزع الشديد. وإذ تابعَ حركات المَعنيَيْن، فإنه انتبه لوجود مُجلّد ضخم في يد أحدهما. فأدركَ، في الحال، أن ذلك هوَ كتاب السيئات والذنوب، الخاص بالميّت: " لعمري، أنه يتجاوز الثلاثة آلاف صفحة ". ما أن أنهى ذهن الشيخ الجملة، حتى انبرى قدّام بصَره كتابٌ آخر، دقيق الحجم. إذ ذاك، بان البشرُ في ملامحه، التعِسَة: " ذنوبي قليلة، على ما يبدو، وسأنجو حتماً من امتحان الحساب.. "، تمتمَ بصوتٍ خفيض. هنا، التفت نحوه ذلك الملاك، الذي وَصفهُ بنعتٍ شائن، ليُخاطبه بصوتٍ مُنذر، مُرعدٍ: " اعلم، يا هذا، أن أمثالك من المشايخ هم أكثر ضرراً من ولاة أمورهم. وإنّ برهة حسابٍ لدينا، لتعادل حولاً كاملاً في ميزان وقتكم، البشريّ ". قال ذلك، ثمّ ما لبث أن فتحَ كتاب الذنوب على الصفحة الأولى.
***
" يلعن روحك يا... "، تناهى من بعيد، بعيد، نداء جمهرَة من الصِبيَة بالكاد وَصَلَ إلى مَسمع " الشيخ الكردي ". هكذا هتافات، كان قد اعتاد عليها مُذ بدء الثورة؛ أو " الفتنة "، بحَسَب وَصفِهِ لها. إنّ فتاويه، المتواترة، شاءتْ أن تؤلّب عليه جمهرَة المؤمنين، حتى لم يبق من مُريدي مسجدِهِ سوى حثالة ضئيلة من الأمن والشبّيحة. آه، كم من الأحداث مرّتْ بعد تلك الليلة، التي سَهِرَ فيها فوق رأس الرئيس، السابق. ثمّ تنهّدَ بعمق، مُفكراً: " الحمد لله. كان ذلك حلماً شيطانياً، ولا شك ". ولكن، كم كانت مُمضة، مُستطيرة، سَهرة الملاكيْن مع ذنوبهِ، والتي بَدَتْ كأنما هيَ الدَهرُ. " ووسائل التعذيب، الرهيبة، المُعرّفة باسم أجهزتنا الأمنيّة؛ كيفَ وَصَلَ خبرَها لسدَنة الجحيم بحق ربّه؟؟ "، تساءلَ شيخنا بمرارة طالما أن الذكرى ما فتأت تجلِدُ جلدَهُ: فما أن انبلجَ الفجرُ، حتى هُرع الملاكان إلى لملمة أغراضهما. وقبل أن يتواريا خللَ الجدار، القبليّ، حذراه بأن موعدَهُ مع الحساب، الحَق، لم يأتِ بعد. عند ذلك، اندفعَ هوَ هارباً من حجرَة الميّت، مَمْسوساً بالرؤية المَهولة، غير عابيءٍ من ثمّ بصرخات الحراس. هؤلاء، لزموا الشيخ الهارب، حالاً، وعادوا به إلى أهل الميّت؛ التي صاحت به بنبرَة غضب ووَعيد: " ولاه، كيف سوّلت لك نفسك بالعبث، بعدما أمّناكَ على روح السيّد الرئيس؟ "
" الله يعين روحه.. "، أجابها شيخنا وكان الخبلُ مُرتسماً بعدُ على سحنتِهِ.
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حكاية من كليلة ودمنة 8

04-آب-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 7

27-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 6

18-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 5

11-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 4

06-تموز-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow