Alef Logo
مقالات ألف
              

ثيمة الانتقام في السينما الكلاسيكية

دلور ميقري

خاص ألف

2012-10-26

عقد الخمسينات من القرن الماضي، كان على موعد مع عددٍ من كبار المخرجين، ممن تعهّدوا تأصيل السينما في موطن النيل. هؤلاء المبدعون، لم يكتفوا فقط بأخذ المبادرة من مواطنيهم الأوروبيين والشوام والأرمن واليهود وغيرهم من المقيمين في مصر، بل وأسهموا خصوصاً في جعل الفن السابع يُعبّر عن الواقع بعدما كان مُتغرّباً عنه بشدّة. إذ أنّ ثيمات معظم الأفلام، المنتجة حتى ذلك الوقت، كانت صدىً لمجتمعات صغيرة من المهاجرين؛ وبالتالي، لم تكن تهتمّ كثيراً بالمحيط العريض من الجمهور لناحية معاناته وآلامه وآماله وأحلامه. لم يكُ غريباً، إذن، أن تنحو تلك الأفلام إلى الاقتصار غالباً على المواضيع الكوميدية والرومانسية، الأكثر ملائمة لأجواء العبث والمغامرة والضياع التي كانت هيَ السِمَة العامّة لمجتمعات المهاجرين. إنّ " تمصير " سينما موطن النيل، والحالة تلك، كان يعني إحداث تغيير عميق في مفاهيم المواضيع المطروحة في أفلامها، أكثرَ من مجرّد تبدّل هويّة العاملين فيها. مُصطلح " التمصير "، المُعتمد هنا، ينسحبُ أيضاً على نصوص الأفلام المأخوذة من روايات عالمية، والتي كان يجري إضفاء طابع محليّ عليها بحيث تبدو كأنما هيَ مكتوبة أصلاً من لدن مؤلفين من ذات البيئة. ولكن، ماذا عن مساهمة المؤلفين المصريين أنفسهم في السينما؛ ماذا عن قصصهم ورواياتهم ومسرحياتهم..؟
نجيب محفوظ، وبحكم شغفه الشديد بالسينما، كان السبّاق إلى طرق أبوابها التي كانت حتى ذلك الوقت تبدو وكما لو أنها مترّسة ٌ بوجه الكتّاب المحليين. الحال، أن استسهال المنتجين اقتباس الأفلام الغربية، وخاصّة الهوليوودية، يُفسّر تلك الظاهرة، المَوصوفة. الطريف، أنّ المخرج نيازي مصطفى وبدلاً عن تكليف الكاتب الشاب، محفوظ، بإعداد سيناريو عن إحدى رواياته، فإنه جعله يُعدّ قصّة " عنتر وعبلة " لإنتاجها سينمائياً في العام 1945. بضعة أعوام، على الأثر، وإذا بالمخرج صلاح أبو سيف ( الذي سيُعرف لاحقاً برائد الواقعية في السينما المصرية ) يضع رواية " تيريزا كان "، لأميل زولا، بين يديّ محفوظ لكي يُحوّلها لسيناريو فيلم بعنوان " لك يوم يا ظالم ". هذا المخرج العظيم، سيتريّث إلى فاتح عقد الستينات قبلَ الشروع في إعداد رواية " بداية ونهاية " لمواطنه المُبدع نفسه. اليوم، نعرفُ من بيبلوغرافيا مئويّة السينما المصرية، أن أربعين فيلماً قد تمّ انتاجها عن روايات وقصص أديب " نوبل "، العربيّ. كذلك كانت أجواء الفنّ السابع في موطن النيل، في عشيّة الثورة المصرية، عندما شاءَ المخرجُ هنري بركات تكليفَ يوسف جوهر، السيناريست المعروف آنذاك، بإعداد رواية " الكونت دي مونت كريستو "، لاسكندر دوماس الأبّ، لانتاجها سينمائياً تحت عنوان " أمير الانتقام ". بعد ذلك بستّ سنوات، سيتعاون المخرجان فطين عبد الوهاب وكمال الشيخ على تحقيق فيلم " الغريب "، المقتبس موضوعه عن رواية اميلي برونتي؛ " مرتفعات وذرينغ ". وها نحن نستهلّ هنا التركيز على ثيمة الانتقام بدراسة الفيلم الأول، المنتج عام 1950.
2
عنوان الفيلم، " أمير الانتقام "، يُنبي ولا مَراء عن ثيمته. إن السيناريو والحوار، الذين اشترك المخرجُ في كتابتهما، كانا على درجةٍ من البراعة فيما يخصّ اسقاط الرواية الفرنسية على البيئة المصرية العائدة لفترة القرون الوسطى المتأخرة. إلا أنّ صانعي هذا العمل، بالمقابل، اعتمدوا الخطوط العامّة لحبكة تلك الرواية ودونما الغوص في تفاصيل وحداتها الصغرى، التي يكاد كلّ منها يصلح كقصّة لفيلم مستقلّ. ففي رواية " الكونت دي مونت كريستو "، نلاحظ أنّ ثيمات عدّة قد شكّلت الحبكة؛ مثل الحبّ والخيانة والمغامرة والرحلة والانتقام. الثيمة الأخيرة، كانت هيَ الأكثر بروزاً في فيلمنا المصريّ، وكما نوهنا آنفاً حول مغزى عنوانه. المعروف أن روايات اسكندر دوماس، وخاصة ً هذه التي انتجت فيلماً، تعدّ من عيون الأدب الكلاسيكي العالمي حتى أنها ما تفتأ تلاقي رواجاً كبيراً في وقتنا الحاضر. فيلم " أمير الانتقام "، إذن، استفاد ولا شك من عناصر التشويق في الرواية الأصل، كما وأجاد في الاشتغال عليها من خلال السيناريو المُحكم. فضلاً عن ذلك، عُهِدَ بالموسيقى التصويرية للمؤلف رينيه رايدر، الذي أضفى أجواءً ملحمية على مشاهد الفيلم. وكان مما له مغزاه أن يبادر مبدع آخر، هوَ فريد الأطرش، بإهداء قطع موسيقية من تأليفه لصديقه المخرج بركات كي يستخدمها في الرقصات الشرقية الخاصّة بالفيلم.
من الثغرات الفادحة في سيناريو " أمير الانتقام "، المرورُ بشكل عابر على حكاية الباشا الألباني، حيث تمّ ذكرها في جملة مُبتسَرة حينما خاطبَ " حسن الهلالي "، بطلُ القصّة ( قامَ بدوره الفنان أنور وجدي )، غريمَه المدعو " شاهين " ( الفنان كمال الشناوي ) مُذكّراً إياه بخياناته. ففي الرواية الأصل، تلعب ابنة الباشا دوراً مهمّاً في مساعدة البطل على تعقب ذاك الغريم من خلال تمويه شخصيّتها بصفة جارية شرقية. أما في الفيلم، فلم تقدَّم الجارية " زمرّد " ( الفنانة سامية جمال ) سوى بصفة عشيقة البطل، ودونما ذكر أيّ خلفيّة لها تربطها بالباشا المذكور. وإذ أهملَ السيناريو تفاصيلَ حياة هذه الجارية في منزل " شاهين "، إلا أنه ما لبث أن منحها دوراً مبالغاً به في نهاية الفيلم؛ حينما تمّ تمويهها هذه المرّة بشكل أحد جنود السجن، بهدف انقاذ " حسن " من الموت رمياً بالرصاص. قبل ذلك، وحينما يُستدعى هذا الأخير من لدن " بدران "، رئيس جند الولاية ( الفنان سراج منير )، فإن الجارية سترافقه إلى مقرّ الوالي. ثمّة، تنتبه هيَ إلى أن " حسن " بصدد الوقوع في مكيدةٍ، فتقوم بالهمس لإحدى القينات كي تحذره. القينة، ودونما أن تؤمرَ من أحد، إذا بها تشرع في انشاد اغنية على وقع الموسيقى تحذر كلماتها البطلَ من الفخ المنصوب له. الأدهى، أن تبادر الجارية الى الرقص بحضرة الوالي، من تلقاء ذاتها أيضاً، لكي تقوم بدورها على تحذير سيّدها " حسن " باشارات من يدها. هذا المشهد، الشديد السذاجة مثل سابقه، أضعف الفيلمَ بكلّ تأكيد وجعله في موضع الكوميديا لا الميلودراما. وقد تلافى المخرجُ بعضَ تلك الثغرات الفنية في السيناريو ( ليقعَ في غيرها كما سنرى لاحقاً )، عندما آثرَ انتاج فيلم جديد عن رواية " الكونت دي مونت كريستو "، حافظ فيه بالمقابل على معظم تفاصيل فيلمه الأول.
3
" أمير الدهاء "؛ هكذا شاءَ هنري بركات وَسمَ الفيلم الجديد، المأخوذ أيضاً عن رواية اسكندر دوماس نفسها. الواقع، فإن هذا الفيلم الجديد، المنتج عام 1964، يبدو كنسخة ملوّنة من أخيه، القديم. بيدَ أن شخصيات العمل تمّ تغييرها بالكامل، أو على الأقل تبدّل دَور بعضها؛ مثلما نراه مع فريد شوقي، الذي أضحى هو البطل الرئيس بعدما كان قد لعب دورَ " جعفر " في الفيلم الأول. شخصية هذا الأخير، المُتسمة بالغدر والخيانة، ستعهد إلى الفنان توفيق الدقن؛ هوَ من برز آنذاك على الساحة الفنية بأدوار الشرّ، التي أجاد تجسيدها في العديد من الأفلام حتى اشتهر بها. وبالتالي، فإن فريد شوقي قد حقق من جهته قفزة نوعية، اعتباراً من دَوره هذا في " أمير الدهاء "، بصفات البطل والطيّب والحبيب. أما ثالث مشاهير الشاشة الكبيرة، لناحية أدوار الشرّ، وهوَ الفنان محمود المليجي، فكان من الملاحظ عدم اشتراكه في الفيلم الجديد. حيث سبق للمليجي أن قدّم في " أمير الانتقام " دورَ الرّجل المُرابي، " متولي "؛ أحد أركان المؤامرة، المودية بالبطل إلى ظلمات المعتقل. بالنسبة للبطولة النسائية فتمثلت بحلول فقيدة الفن، نعيمة عاكف، في دَور " زمردة "، وكان هذا آخر مساهماتها السينمائية، الرائعة؛ حيث تقمّصت بنجاح شخصيّة الجارية الشرقيّة، بأدائها الفاتن ورقصاتها الرشيقة. فيما اختفت الفنانة القديرة مديحة يسري، التي سبق وجسّدت شخصيّة " ياسمينة " في الفيلم الأول، ليحلّ بمكانها الفنانة الصاعدة شويكار. وكان موفقاً، ولا ريب، اختيار الفنان محمود مرسي لدَور الطاغية " بدران "، الذي سبق وأداه سراج منير؛ الفنان العملاق قامة ً وقيمة.
عطفاً على اشادتنا بسيناريو " أمير الانتقام "، لناحية نجاحه في اسقاط الرواية الفرنسية على بيئة مصر في فترة القرون الوسيطة، يمكن لنا أيضاً ملاحظة بعض التعديلات غير الجيّدة، التي أجراها المخرج والسيناريست على قصّة الفيلم الجديد " أمير الدهاء ". إذ شملَ التعديلُ وقائعَ الرواية الأصل، وليسَ الفيلم القديم حَسْب، حينما صارَ قائدُ الثوار شقيقاً للمَملوك " شاهين ": في هذه الحالة، فإن مبررَ انتقام " حسن " من قائد الجند " بدران " كان ضعيفاً؛ طالما أن هذا الأخير اعتقلَ الأول انطلاقاً من القيام بواجب وظيفته، وليسَ لسبب شخصيّ، لئيم..؟
وتمّ تجاهل نصّ " الكونت دي مونت كريستو "، كما والفيلم القديم سواءً بسواء، عندما عُهِدَ إلى المرابي أمرُ كشف المؤامرة الثلاثية، آنفة الذكر، وليسَ إلى السجين الكهل: ففي الفيلم الأول، " أمير الانتقام "، يلعب الفنان الكبير حسين رياض دورَ ذلك السجين الكهل، المدعو " جلال "، حيث نراه يُفسّر للبطل أبعادَ تلك المؤامرة بما يتسم به من ذكاء وعلم وحكمة وتجربة. أما في فيلم " أمير الدهاء "، فإن الفنان شفيق نور الدين سيجسّد هذه الشخصيّة بشكل باهت نوعاً؛ بما أنها ستقدَّمُ هنا باعتبارها وسيلة ً لثراء " حسن "، لا أكثر. بكلمة أخرى، فلم يهتم صانعو الفيلم الجديد بالجوانب الأخرى لدى " جلال "، الروحية والفكرية، المهمّة بالنسبة لإعادة تكوين شخصيّة صديقه " حسن ".
اسكندر دوماس، مؤلف رواية " الكونت دي مونت كريستو "، شاءَ التعامل مع ثيمة الانتقام من وجهة نظر مثقفي أوروبة العصر الصناعي ، المُستنيرين، وكذلك بصفته كاتباً واقعياً يغشى تاريخ بلاده في الفترة المضطربة والقلقة، التي أعقبت الثورة الفرنسية. على ذلك، فكأننا نستقرأ خلل هذه الرواية نوعاً من الاستهتار بكلمة المسيح، الشهيرة: " من ضربكَ على خدّك الأيمن، أعطِهِ خدّك الأيسر "؛ بما يعنيه من تسامح مع الأعداء. إن فكرة " الانتقام "، كما يقدّمها المؤلفُ، ليست رومانسية تماماً وإنما هيَ فكرة انسانية، خالدة. لا غرو، والحالة تلك، أن يمتلأ بطلُ الرواية، " ادمون "، بتلك الفكرة خلال الفترة نفسها التي وجد نفسه فيها يتلقى العلم والمعرفة عن صديقه، السّجين الكهل. هذا الأخير، هوَ من كان قد فسّر لزميله الفتيّ لغز المؤامرة الثلاثية، حينما فاجأه بكون قائد الثوار، الموالي لنابليون، شقيقاً لرجل النظام الملكيّ؛ القاضي " فلفور "، الذي تسبّب بزجّه في المعتقل لأعوام طويلة بدون محاكمة خوفاً من كشف هذا السرّ الخطير. بعبقريته الفريدة، جعلَ المؤلفُ من ذلك السجين الكهل سبباً لثراء صديقه " ادمون "، عندما باح له بموضع الكنز: فالانتقام، إذن، صارَ له الآن أسنان حديدية مُظهَّرة بالذهب.
كان مما له دلالته، برأيي، أن يُصنع فيلمُ " أمير الانتقام " في عشيّة الثورة المصرية. إن الرقابة، حتى ولو لم تكن متطلّبة آنذاك، إلا أنها ربما أخِذَتْ بعين الاعتبار حينما أوحى الفيلمُ بكون أحداثه تقع في فترة نفوذ المماليك خلال العهد العثماني الأول. أما شخصيّة الحاكم، فقدِّمَت على أساس أنها الوالي لا الملك؛ بما يعنيه منصب هذا الأخير في زمن انتاج الفيلم الأول. في المقابل، حرَصَ الفيلم الآخر، " أمير الدهاء "، على التركيز على كون أحداث القصّة الرئيسة تقع في مدينة القاهرة؛ أي في حاضرة مصر خلال حِقب السلطنة المملوكية وأسرة محمد علي الملكية. هذه الأخيرة، كانت الثورة قد أنهت سلطتها مذ دزينة كاملة من الأعوام، حينما تمّ انتاج ذلك الفيلم. إنّ شخصية " بدران "، المُتسمة بالطغيان والظلم، كانت ملائمة ولا مَراء لدعاية النظام الناصريّ عن الحاكم العادل ـ كذا ـ المُبتلى مثل رعيّته على السواء بقائدٍ للعسكر ( لغرابة الاتفاق أن هذا سيُجسَّد واقعاً في حالة المشير عامر، بعد ثلاث سنوات من تاريخ انتاج الفيلم ) يتصرّف كالطاغية ويُخفي حقيقة الوضع في البلد.
ولكن ثيمة الانتقام، التي ركّزنا عليها في دراستنا، بقيت في كلا الفيلمين تعبيراً عن العقلية الشرقية؛ والتي عبّر عنها البطلُ في قوله لقائد العسكر بأنه يؤمن بمبدأ: " العين بالعين والسن بالسن والباديء أظلم ". غيرَ أن البطل، إلى النهاية، ينتابه نفس شعور بطل الرواية الأصل من ناحية الندم على ايمانه بفكرة الانتقام، حيث جسّدها هذا الأخير بالعفو عن زميله السابق الذي سبّب له السّجن والأهوال جرّاء وشايته وخيانته. أما " حسن "، من جهته، فإنه يجعل " جعفر "، زميله السابق، يدفع غالياً ثمن خيانته بتركه وحيداً في أعماق الصحراء ليموت عطشاً وجوعاً. ويبدو أن بطلنا كان في النهاية بسبيله للعفو عن " بدران "، حينما تقع أمور خطير

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حكاية من كليلة ودمنة 8

04-آب-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 7

27-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 6

18-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 5

11-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 4

06-تموز-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow