Alef Logo
مقالات ألف
              

حلب؛ حلول الأسلاف

دلور ميقري

خاص ألف

2013-01-01

1
حُبيَت " حلب "، حاضرة الشمال الكبرى، بكلّ ما يجعلها تتفاضلُ لديّ على أخواتها من المدن؛ إن كان لناحيَة العمارة التقليدية أو الأسواق القديمة أو الذوق الرفيع لساكنيها في فنون الموسيقى والطرَب إلى الاعتناء بالحدائق المنزلية وكذلك بأطباق الطعام الشهية. زيارتي الأولى لهذه الحاضرة، العريقة، جدَّت في منتصف السبعينات، حينما مررت بها خلال الصيف في طريقي إلى اقليم الجزيرة. في العام التالي، اتفق أن كانت " ثكنة هنانو "، الحلبيّة، هيَ مركز تجمّع دورات صف الضباط المجندين؛ ثمّة، أين رأيتني أهيمُ في متاهاتها قرابة الشهر. عقدٌ من الأعوام، على الأثر، وسأكون هذه المرّة ضيفاً مقيماً في تلك المدينة لأكثر من أسبوع، حينما حللتُ بضيافة آل " أوسي "، الكرام، الذين يعيشون في حيّ " الأشرفية ".
في مفتتح ذلك الصيف، إذن، الذي كان ظهيرَ رحلتي الأولى، كنت أستقلّ سيارة الأجرة، المُنطلقة من الشام باتجاه مدينة " حلب ". إلى جانب السائق، جلسَ رجلٌ متوسّط العمر، شاءَ أن يحجز لراحتِهِ المقعدَ الأماميّ؛ الذي كان مُخصصاً عادةً لشخصَيْن. من خلال حديثه مع السائق، عرفنا أنّ الرّجلَ هوَ من أرمن لبنان، اضطرّ لمغادرة موطنه إثرَ اشتعال الحرب الأهلية والتوجّه من ثمّ إلى أقاربه، المقيمين في حاضرة الشمال. " جاز المقدورُ أن نهجّرَ مرّة أخرى، وأن نختَبَرَ بمِحَن الحرب والقتل على الهويّة "، قالها الأرمنيّ بنبرَةٍ مفعمة بالكرَب والإحباط. عندئذٍ، حقّ لي أن أستعيدَ في ذهني نتفاً من ذكريات الجدّة، التي سبق وأن شغلت بعضَ أمسيات إقامتي لديها في عام مضى.
2
حينما اجتازت " ريما " دروبَ " حلب "، ثانيَة ً، لم تكد تصدّق أنها المدينة نفسها، المُبهرة، التي سبق وأن أسرَت مشاعرها قبل ما يُقارب العشرة أعوام. وعلى الرغم من حقيقة، أن مشاهِدَ العذاب والجوع والجثث كانت قد صاحبت طريق هذه المرأة الجميلة، المناهزة العقد الثاني من عمرها؛ إلا أن ما أبصرَته في المدينة، التي وَصَلتها للتوّ، كان أكثر هَوْلاً وفظاعة. إنّ قوافلَ الفارين من فرمان الإبادة الهمايوني، ومعظمهم من الأرمن، كانت قد تناهت إلى " حلب " دفعة وراء الأخرى. ثمّة، كان الكثيرُ من هؤلاء المساكين، المنحوسين، يتساقطون على طرَفيْ الطريق وهم يرفعون أيديهم باتجاه العابرين: " خبز.. نريدُ خبزاً "، ثمّ لا يلبثون أن يتساقطوا في غيبوبة الاحتضار.
" من المستحيل أن تهتدي هذه المرأة إلى ذويها، وَسَط هذه المَهْلكة الرهيبة "، خاطبَ " محمّد آغا " زوجته " ريما " بلهجةٍ تتبطن، معاً، الألمَ ونفاذ الصّبر. تلك " المرأة "، المَعنيّة، لم تكُ سوى طفلة أرمنية لم يتجاوز ربيعُ عمرها بعدُ الدزينة من الأعوام. كانت قد طلبت منه أن يَحملها إلى أقارب لها، تعرف على ما يبدو أنهم يقيمون في " حلب "؛ هيَ من أظهرَت قدراً كبيراً من الامتنان، المَمزوج بالدمع، بعدما سبق وأعلمها أنها باتت حرّة. قبل أقلّ من شهر، اتفق أن وَقعَت الفتاة على قدَمَيّ الآغا مُروّعة ً ومُتوسّلة، أثناء مُطاردتها من لدن جمع من القرويين المسلمين، المهووسين. يبدو أنها كانت قد نجحَت بالاختباء في مكان ما من المنزل، حينما داهمه هؤلاء المتعصّبون وقاموا بقتل جميع ساكنيه. وبما أنّ الآغا كان ذا مقام رفيع في عموم منطقة " ماردين "، فمن الأحرى أن نتصوّرَ مبلغَ خضوع المهاجمين لإرادته، حينما بدا جلياً أنه يريد حماية الفتاة. غيرَ أن شيخ القرية، المُحوَّط بدَوره بمقام الوجاهة، تقدّمَ بحَزم ليُذكّرَ " محمد آغا " بفرمان السلطان، العليّ.
3
" لا سبيلَ إلى مُخالفة أمر خليفة رسول الله.. "
خاطبَ المُلّا كبيرَ وجهاء الاقليم، ثمّ استطردَ مُستدركاً " اللهمّ إلا بأن تقترن أنتَ بهذه الكافرة، وتجعلها تسلم على يديك ".عند ذلك، التفت الآغا نحوَ زوجته " ريما "، التي كانت تراقبُ عن بعدٍ مناسب ما يَجري. كانت هيَ ثالث نساء " محمد آغا "، والأكثرَ قرباً من قلبه. هذه المرأة، الدمشقيّة المَوْلد والنشأة، لم تكُ تتجاوز الخامسة عشرة من العمر حينما اقترن هوَ بها. قبل ذلك بسنوات خمس، تقريباً، كانت " ريما " الصغيرة قد آبَت مع أسرتها إلى المَوطن الأول، " ميقر "، المُستلقي على أكتاف " مازي داغ "؛ الجبل المُكتسي بخضرة أشجار العفص، الخالدة. في الطريق إلى ذلك الموطن، إذن ، وحينما أعلن حوذيّ الكرّوسة، التي كانت تقلّ الأسرَة، أنهم أضحوا على مشارف " حلب "، فإنّ قلب الابنة الصغيرة راح يُشحَن بالنشوَة؛ طالما أنها سَمِعَت قبلاً بعظمَة هذه المدينة ومُضاهاتها للشامَ الشريف عمراناً ونفوساً. ثمّة، خِلل دروب المدينة الشهباء، ذهَلت الصغيرة عن مأساة رحيل أسرتها، القسريّ، والذي جَدَّ بسبب رفض والدها تزويج شقيقتها الكبرى، " نظيرة "، من كبير أولاد " الحاج حسن "؛ زعيم حيّهم الكرديّ، الدمشقيّ.
وإذن خاطرَ " محمد آغا " بحريّته ( هوَ المنفيّ إلى " عامودا " بحكم قضائيّ )، وقبِلَ مُسايرَة رغبة زوجته، المُلحّة، في العودة معها إلى ذاك الموطن. وها هوَ يُمتحن الآن في هذا الاختيار، الصّعب، الذي اشترطه عليه المُلّا. ولكن، هيَ ذي امرأته تقتربُ رويداً من موقفه: " اقترن بهذه الفتاة المسكينة، اليتيمة، واكسَبْ ثوابها.. "، خاطبت " ريما " الآغا بصوتٍ خفيض ودونما أن تظهِرَ ملامِحُها أيّ اختلاجَة من الغيرة أو التبرّم. مثلَ تلك الأرمنية سواءً بسواء، كانت هيَ أيضاً قد فقدتْ جميعَ أفراد أسرتها بضربةٍ من المَقدور، واحدة وماحقة. إنّ أخاها غير الشقيق، " محّو "، هوَ من كان قد أسرّ لرَجلها بالخبَر الفاجِع، إثرَ فراره من المنفى الأناضوليّ مع اشتعال أوار الحرب العظمى. إذ سبق له ورجعَ على أدراجهِ إلى " ميقر "، ليَجدَ من يُخبره بالنبأ الصادِم، الصاعق: " الطاعون قد أهلَكَ أهلِكَ كلّهم، بما فيهم الأشقاء والأخوة ". فما أن علِمَت " ريما " بحقيقة الأمر، حتى جنّ جنونها حزناً وكمداً. راحتْ من ثمّ تلحّ على الآغا بفكرة الإياب إلى موطن الأهل، على الأقلّ لكي تلقي النظرة الأخيرة على تربتهم ولترويها بسَيل عبراتها.
4
" عكاش "، شقيقُ جدّتنا، الوحيد، كان في تلك الأثناء يَتقصّى بدَورهِ آثارَ أسرتِهِ، المَفقودة. إنّ " وحدانيّته " تتواشجُ ولا شكّ مع تخلّفِهِ عن المسير بصحبة الأهل، بعد قرار الأبّ العودة إلى موطن الأسلاف إثرَ خلافه ذاك، المَوْصوف، مع أولاد عمومتِهِ. غيرَ أن " عكاش " إذ نجيَ من مهلكة الوباء الأسوَد، فهوَ لم يلبث أن رأى نفسه في مواجهة قدَر آخر لا يقلّ خطراً: التجنيد، ومن ثمّ السوق إلى جبهات الحرب العظمى. فما مَضت أشهر قليلة على مضيّه في درب " السفر برلك "، حتى تمّ ارسالِهِ إلى أحد المواقع القتالية لمواجهة زحف الروس ( أو " المُسقوف " بلغة ذلك الزمن ). مُنتهزاً سانحَة الفوضى والانسحاب الاعتباطيّ، ما عتمَ " عكاش " أن قرّرَ الهرَبَ إلى منطقة " مازي داغ "، الجبليّة والمُنعزلة. كان يَرمي أساساً لمعرفة أخبار أسرته، خصوصاً مع علمِهِ بجائحة الطاعون، الداهمة، التي كانت قد ضرَبَت كردستان والأناضول قبل نحو العام. ثمّة، في الطريق إلى مَوطن الأسلاف، اتفقَ أن واجَهَ " عكاش " مَوقفاً رهيباً، مُماثلاً نوعاً لما امتُحِنَ به زوجُ شقيقته.
خالُ أمّي، الذي توفيَ حينما كنتُ في الصف الأخير من المدرسة الابتدائية، أتذكّرهُ دوماً بشعره ولحيته، المجللتيْن تماماً بالمشيب. كما أستعيدُ هيئة الخال، بمشيةٍ مُميّزة تظلعُ إلى جانبٍ بسبب العرَج في إحدى قدَمَيْه، المُبتلى به مذ أن كان في أوج الرجولة. بيْدَ أن الضربَة الأخرى، التي أصابت ركبته فيما بعد نتيجة انزلاق طوبة اسمنتيّة من يدِهِ، كانت هيَ القاضية على حياته بفعل الغنغرينا. حياة " عكاش "، العائلية، لم تكُ أفضلَ حظاً. إذ توفيَت زوجته، مُبكراً، مخلّفة ً وراءها صبيّاً صغيرَ السنّ تكفّلتْ لاحقاً بتربيتهِ " ريما "، الطيّبة والحنونُ.
إنها هيَ من أخبرني، أثناء سهرةٍ في حجرتها الأليفة، بتفاصيل مِحْنة شقيقها هذا؛ التي حصَلت، كما سبقَ وألمعنا، خلال أحد أيام " السفر برلك "، الكالحة: لقد رأى نفسَهُ، إذن، في مواجهة إحدى وقائع القتل تلك، الجماعية، المنذورة لرعايا السلطنة، " الكفار ". على حين فجأة، إذا بفتاة صغيرة تمرّ راكضة بالقرب من موقفه، وقد بدا من ملامحها ذعرٌ شديدٌ حدّ الخبال. بقلبِهِ القاسي، المأثور عنه، التقط " عكاش " البنيّة من وَسَطها خطفاً، ثمّ ما لبث أن رفعها إلى الأعلى بلمحةٍ ليَهويَ بها بكلّ قوّة ذراعِهِ على الصخرة الجلمود، القريبة. دماغ الطفلة، الناصعُ البياض، الذي تناثرَ يومئذٍ على أرض الجريمة، عليه كان أن يُعذبَ ليالي الخال، الحالكة السّواد، حتى لحظة رحيلِهِ عن عالمنا.
للحكاية بقية..
° صفحات من سيرة سلالية، بعنوان " أسكي شام "
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حكاية من كليلة ودمنة 8

04-آب-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 7

27-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 6

18-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 5

11-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 4

06-تموز-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow