Alef Logo
ضفـاف
              

صورة الصويرة؛ الحاضرة

دلور ميقري

خاص ألف

2013-05-28

1 ـ الرحلة الأولى:
اكتشافي لمكامن السحر في مدينة " الصويرة "، المغربية، تمّ على أربع مراحل خلال أعوام أربعة، كان آخرها في شتاء هذا العام. ويجدر بالقول أيضاً، أنه كان اتفاقاً، ولا شك، أن أحظى بزيارة ضاحية هذه المدينة، المنعوتة بـ " الغزوة "، في رحلتيّ الأخيرتين. قبل ذلك، سمعتُ عن " الصويرة " من شابّ من مواطنيها، مقيم في السويد، التقيت به وهو يبيع أشياء أنتيكية؛ هوَ الذي وصف المدينة بأنها " المكان الأجمل في العالم ". وعليّ كان استعادة العبارة الأخيرة، حينما تردد اسمُ " الصويرة " مجدداً على لسان شخص آخر. إذ اقترحت عليّ قرينتي القيامَ برحلة إلى هذه المدينة، التي تبعد عن مسقط رأسها، المراكشيّ، بنحو مائة كيلومتراً. كان ذلك في شهر شباط / فبراير من عام 2009، عندما زرت المغرب للمرة الثالثة. الحافلة الكبيرة، ( البولمان )، هيَ من تعيّن عليها ايصالنا إلى تلك الجهة، التي تتبع المدينة الحمراء إدارياً.
عندما تجازف بركوب المواصلات العامّة، في بلد مثل المغرب ( من أكثر الدول تقدّماً بحوادث الطرق )، فما عليك، ولا غرو، إلا تسليم أمركَ لصاحب الأمر. ولكن، عليّ كان أن أسلوَ قلق الطريق مذ مبتدأ السفر، بفضل المناظر المونقة، المتتالية، المترائية خِلَل النافذة: لكروم العنب، المتراصفة دواليها على الطريقة الأوروبية؛ ولجدعات الصبّار ودسكرات الزيتون، الممتدّة حتى بداية الإقليم البحريّ في طرف مدينة " شيشاوة ". في هذه الأخيرة، تتغيّر الدربُ إلى منقلب آخر، حينما تتصل بالاوتوستراد الحديث. ثمّة أيضاً، توقفت حافلتنا في إحدى الاستراحات لنحو ثلث ساعة، حيث ترجّل الركاب ( وأكثرهم من السيّاح الأوروبيين ) لكي يقبلوا على تناول المرطبات نظراً للإرهاق والحرارة المرتفعة نوعاً. الاستراحة المقهى، كانت إلى ذلك تباري الحدائقَ لناحية أغراس النخيل والبرتقال والصبّار، المظللة أحواضاً تترى بأزهار الخبازى والبوكسيا والورد الجوري، فضلاً عن عرائش الياسمين والمجنونة.
ظهراً، وصلنا إلى " الصويرة "، ليلفح مَشامنا النسيمُ البحريّ الناعم، المعبّق بالرطوبة. كأنما محطة الوصول، الكائنة في مواجهة أسوار المدينة، مكتبٌ عقاريّ يصطخبُ بالعروض والمساومات. صبيّ في نحو السادسة عشرة من العمر، شديد السمرة كحال سكان هذه الحاضرة ( المنتمين لأمازيغ الجنوب )، تقدّم إلينا مقترحاً شقة حديثة تقع بالقرب من الشاطيء. غير أنني، منبهراً بمظهر المدينة القديمة، طلبتُ من هذا " الدليل العقاريّ " أن يدبّر لنا شقة داخل أسوارها. هكذا مضى الدليلُ أمامنا، صوبَ أحد أبواب المدينة، وهوَ يؤكّد بين وهلة وأخرى أن المكان المقصود بات جدّ قريبٍ. من ناحيتي، ذهَلتُ عن أمر الفتى بما جدّ لعينيّ من المشاهد المتنوّعة، المؤتلقة، البحريّة والبريّة سواءً بسواء: فها هيَ المدينة، التي سبق أن تبدّت لي في الباص كجزيرةٍ بعيدة، تنقلب الآن إلى صفة أخرى أقرب إلى برَ على هيئة قوس يحيط ببحيرة كبرى. كذلك تراءت لعينيّ، في خضم الأمواج، جزرٌ ثلاث، متقاربة، أكبرها تدعى " موغادور "؛ وهيَ تسمية برتغالية، قديمة، كانت تشمل المدينة كلها. وكما سأعلمُ لاحقاً، فإن العديد من المعالم هنا ( مثل الواجهة البحرية والساحة الكبيرة ) تنتمي إلى مرحلة الاستعمار البرتغالي. وإذن، فإن الشقة المطلوبة كانت تقع في بداية " السوق الجديد "، عند العقدة الثانية من أبوابه من جهة القلعة البحريّة، التي شيّدها أولئك الغزاة. ولجنا في الزنقة الأولى، المنفتحة على يسار السوق، عبرَ مدخلها الحجريّ، المقوّس. ثمة، أبصرنا رجلَ أمن بهندام مدنيّ وهوَ يوقف فتىً على دراجة عاديّة، محذراً إياه بسبب قيادته لها في سرعةٍ زائدة غير مُبالٍ بضيق المكان. فما أن مشينا لنحو عشرين خطوة داخل الزنقة، حتى أشارَ دليلنا إلى بناءٍ من ثلاثة أدوار، قائلاً أن شقة الإيجار تقوم هنا. هذه، كانت إذن في الطابق الثاني، متكوّنة من حجرتي نوم وصالة. رأيتُ أن الأثاث والمفروشات وتجهيزات المطبخ والحمّام، كانت حَسَنة إجمالاً على الرغم من عتقها: أقولها، للتذكير بأنني كنت في واقع الحال في الأيام الأولى من " شهر العسل "..!
هادئةٌ المدينة القديمة، تكاد تكون خالية من صخب المركبات والدراجات النارية، التي خلفناها وراءنا في شقيقتها، المراكشيّة. قبيل توجهنا إلى المطعم بغيَة تناول الغداء، تجوّلنا قليلاً في هذا الدرب الرئيس، المنعوت بـ " السوق الجديد ". الشمسُ، كانت تلسعُ وجهي بوَهجها، وكما لو أنها شاءت تذكيري بمقرّ إقامتي، الأوروبيّ الشماليّ، الما يفتأ متوارٍ في سباته الصقيعيّ، الثقيل، في هذا الوقت من العام. النورسُ، المتألق بالصحّة بفضل الصيد البحريّ، الوفير، أضحت صيحاته دليلنا إلى الشاطيء. أما صوتُ الموج، فأخذ بالتنقل طبقة إثر طبقة مع اقترابنا من القلعة البحرية، حتى غدا أشبه بهدير المدافع. ولكن، هيَ ذي مدفعية حقيقية، تنتمي للأنتيكا، تتراصفُ في مهابة إزاءَ كلّ من أبواب " السوق الجديد " وحتى مداخل الساحة المعروفة بـ " Casa Vera ": هذه هيَ ساحة المدينة، الأشهر، ذات الاسم البرتغاليّ. الاسمُ، يمكن مشاهدته مُرَقِشاً بأحرف كبيرة، زاهية، صدرَ البناء الأثريّ الضخم، الذي يشكلُ الواجهة القديمة، الوحيدة؛ ثمة، أين تنبثق المقاهي والمطاعم. إن أبنية حديثة، كالمصرف المحليّ، قامت بمواجهة السور لتكمل الطوق المعماريّ حول الساحة، باستثناء الجهة المفتوحة على الشط ومطاعم السمك. هذه الأخيرة، كنا قد غشيناها غبّ مغادرتنا الساحة، حيث ما لبثنا أن تناولنا الغداءَ في إحداها. مقارنة بإيجار الشقة لليلة الواحدة ( حوالي عشرين يورو )، فإن نصف هذا المبلغ تقريباً كان ثمن الكيلو غرام لأصناف متنوّعة من الفاكهة البحريّة، المشويّة على الفحم؛ من أسماك الكالامار والرنة إلى الأصداف والقريدس. وعودة إلى الساحة، أين تقوم المقاهي والمطاعم والمحلات على أطرافها. منذئذٍ، سترتبط هذه الساحة في ذاكرتي بمقهىً رائعٍ، يتفرّد بموقعه في قلبها ويشرف على مشهد البحر، الساحر، وخصوصاً في سويعة غروب الشمس. وإذ فضلتُ شربَ الشاي المنعنع، فإنّ رفيقتي اختارت الآيس كريم ـ كما هيَ عادة المغاربة في تناول " الدُسير " بعيد الغداء. ولو أنّ أحد أصدقاء العمر، الحميمين، ما زال حيّاً وحظيَ بالجلوس معي في هذا المقهى، لردّدَ بلا ريب جملته المأثورة: " أستطيعُ المكوثَ هنا، على هذا الكرسيّ، لمائة عام! ".
القلعة البحريّة، ذات الطراز المعماريّ العائد للقرون الوسطى، تنهض بمواجهة مواطنتها تلك، البرتغاليّة؛ ساحة Casa Vera. إنها مبنية من الحجر ذي الحجم المتوسّط، الغالب عليه اللون الرماديّ. مدخلُ القلعة الرئيس، هوَ عبارة عن قنطرة مَهولة، عرضها في مثل ارتفاعها المقدّر بحوالي العشرة أمتار، يعلوها إفريز على شكل مثلث مع أعمدة ذات تيجان ـ كما في نمط العمارة الإغريقية، الذي كان شائعاً في أوروبة العصور الوسيطة. بيْدَ أنّ الفن الإسلاميّ، المحليّ، كان حاضراً هنا من خلال تهجين مركز الإفريز بآيةٍ كريمة. الغرضُ العسكريّ، الدفاعيّ، لوجود هذه القلعة، يتبيّنه المرءُ أولاً من المرصدين الصغيرين للمراقبة، المرفوعين على يمين ويسار مدخلها؛ ثمّ بقطع المدفعية، المركّزة في السور الواطيء، المتميّز بنتوءاته الضخمة بفارق المتر بين كلّ منها. برجان عظيمان، مربّعا الشكل، ينهضان على جانبيّ السور، ويكاد كلّ منهما أن يكون هوَ بنفسه قلعة حصينة؛ بالمراصد الأربعة على سطحه، كما وبالفتحات الثلاث للمراقبة. ثمّة بابٌ في جهة السور البحريّ، وآخرٌ داخليّ تحدّه نافذة صغيرة فيما فتحة مراقبة تعلوه. الأحجار الصغيرة، المكوّنة معمار البرجين، تحوّل لونها إلى الرماديّ الباهت وربما لتأثرها بالريح والرطوبة. ثمّة جسرٌ حجريّ، هائلٌ، يربط بين مدخل القلعة الشماليّ وبرجها البحريّ، حظيَ بدوره بقنطرة كبيرة تحدّها قنطرتان بحجم أصغر، إلى ثالثة أقل شأناً منهما في جهة اليسار. إلى الأسفل، أين تجري المياه خِلَلَ القناطر هذه، تتأرجح قواربُ صيدٍ، صغيرة وقديمة، ذات لون أزرق للهيكل وأخضر للأطراف. النوارسُ، المُحلّقة في سماء المكان في همّة دائبة، لا تكفّ عن الصراخ. إلى أن خرَق الجوّ، على غرّةٍ، صوتٌ عالٍ تردّد أصداؤه في جنبات القلعة: ذلك، كما تبيّناه في الحال، كان صوتُ أحدهم في ميكروفون، يدعو طاقم فيلم سينمائيّ، اسبانيّ، إلى التهيؤ لجولة جديدة من التصوير. الفيلم، حسبما تبدّى من ملابس الممثلين، كان تاريخياً. الطريف، أن صاحبَ الصوت ذاته قد توجّه هذه المرّة إلينا، ( أنا وقرينتي )، ليطلب منا بالفرنسيّة النزولَ من أعلى ذلك الجسر، المّوصوف آنفاً، والذي أشرفنا منه على المشهد السينمائيّ وكما لو كنا من أبطاله..!
مشهدٌ آخر، ما لبث أن أعادني مجدداً إلى ذلك الفن، السابع: إنها نصفُ دزينة من أسماك القرش، التي تمّ إنزالها تواً من مركبٍ للصيد. فلأول مرة في حياتي، أصدفُ مثل هكذا مشهد، مثير ولا غرو، للحيوان الأكثر شراسة في البحار والمحيطات. الصيادون، كانوا منهمكين بنقل هذه الأسماك إلى عربة خشبية ذات دولابين، فيما كنتُ أتأمل فكّ كلّ منها، المنفرج عن ابتسامة غامضة تبرز جلياً شكلَ الأسنان الرهيبة، التي يبلغ طول بعضها قرابة الخمسة عشرة سم. سندَعُ القرشَ وابتسامته الموناليزيّة، لكي نتوغل قليلاً داخل المرسى. ثمّة، كانت الحركة الكبيرة للمقيمين من عمال البحر والعابرين من السيّاح الأوروبيين بأغلبهم، تضاعِفُ من الصخب المتسبّب به الموجُ والنورسُ. ليست هيئات الناس هيَ حَسْب، التي تجعلنا نميّز فيما بينهم، بل وأيضاً المراكب الراسيَة: فإذ رأينا أن قوارب الصيد المحليّة على درجة من الرثاثة والعتق، ففي المقابل، نجدُ يخوتاً فخمة يقودها أشخاص أوروبيون أو أمريكان تستعمل بدورها لصيد المخلوقات البحريّة. في هذا الوقت من النهار، المتأخر، يلحظ المرءُ هروعَ كثير من المتسوّقين نحوَ بسطات بيع السمك ( يدعونه " الحوت " بالمغربيّة الدارجة! )، المشرفة على الشط، حيث من الممكن وقتئذٍ شراءُ الكيلو غرام بدراهم قليلة. من جهتنا، نؤوب إلى جهة الساحة لتتمتع بمنظر غروب الشمس، فنمرّ بذلك " السوق الطيّار " المنبعث من بضاعته رائحة الصّيد، الطازج.
للرحلة صلة..

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حكاية من كليلة ودمنة 8

04-آب-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 7

27-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 6

18-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 5

11-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 4

06-تموز-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow