العنوان لأيّ عمل إبداعي له وظائف متعدّدة منها :
"الوظيفة التعيينية / التسموية- الوظيفة الإغرائية أو التحريضية ( والتي جمعها " هويك " في الوظيفة التداولية )- الوظيفة الإيديولوجية " 1، فالتسمية تختزل المتن وتحيل إليه ليكون واجهة تظهر سماته بوجه معين ومختصر جدا وحامل لمعناه، أمّا الإغرائية فتبقى وظيفةً يحاول الناص من خلالها استدراج القارئ وشدّه إلى النص بعلامة معيّنة تختزن مدلولا ما في مظهر معين يحمله العنوان، إلى جانب آخر يحمله هذا الناص متمثلا في الإيديولوجي والقناعات الخاصة أو الخلفيات التي تنتجُ النَّصَ لتورطَ القارىءَ فيها بطريقة ما اختارها المرسلُ للترويج وللولوج إلى عمله الإبداعي .
العنوانُ أيضا كعتبة نصيّة تكشف خفاياها وتمظهر مكنوناتها أو المتجلي منها، حتّى تبلغ الوظائفُ غايتها.
وعند "جيرار جنيت" هناك عنوانان:
" العناوين الذاتية والتي تعيّنُ موضوعَ النص...
والعناوين الموضوعية والتي ترجع إلى النص نفسه، أي بجعلها النص نفسه مرجعا لها،أي بجعلها النص نفسه مرجعا لها، وتعيّن النص إلى حدّ جعله موضوعا " 2، لتبقى بين العنوانين علاقةٌ دلاليةٌ تُدركُ جيدًا بعد القراءة والتأويل.
ومن هنا أسجلُ وقفةً على ديوان"هؤلاء نحن"3 للشاعر " صادق العلي" الصادر عن" دار الغاوون".
فبعنوان ينفتح على الإشارة والتعيين، ويختزل المتنَ الشعريَّ في لفظتين "هؤلاء نحن" ، أو في ضميرين منفصلين قد يستقلُّ كلاهما عن الآخر ، لكنهما اقتربا من بعضهما وتجاورا، لتكتملَ الدلالةُ بهما أكثر، يُطلعُنا الشاعرُ على تجربته الجديرة بالقراءة ، والتي تَفتحُ لنا ضروبَ الرؤى لاختراق نبضَ القصائد التي جمعها هذا الديوانُ .
لنتساءل : من هؤلاء الذين يتماهى توصيفُهم بــــ "نحن" ضمير المتكلّم الجمعي الذي يأخذ أبعادًا عدَّة يجمعها المتنُ، وتدرك عند كلّ قصيدة، كبنية منفصلة ومستقلّة بدلالتها؟ .
..
"نحن من وطن غريب بين الأوطان
نحن غرباء في الوطن
غرباء في الغربة
غرباء في الحياة
وغرباء في الموت.
قبورنا أيضا غريبةٌ بين القبور
إذ ليس هناك
من يُنيرُ قبرَ الغريب".4
حيث نجد الضمير "نحن " يتوزّع بين تعريفات متباينة تجتمع كلُّها في تيمة واحدة هي –الغربة-
نحـــــن الغرباء في:
الوطن، الحياة ، الغربة، الموت.
إذ الغربة في الأشياء كلّها، وفي الحالات كلّها، خاصة في:
الوطن/الغربة ذاتها/الحياة/الموت.
هذه الغربة التي تولّدُ الندمَ في نفسية الشاعر "صادق العلي"، وتتركه مصلوبا شوقًا وحنينًا لوطن خالد يكبر داخله ، وطن يأبى أن يتركه، ويأبى أن يحتويه في الوقت ذاته.
في قصيدة "جسر بين غربتين " يقول:
"وجدّت : أني
في الغربة أبتعد
عن الوطن
وفي الوطن يبتعد
الوطن عني". 05
جسرٌ يمتدُّ بين الوطن/العرق ووطن الاغتراب، يجعلُ الشاعرَ مشتَّتا وضائعًا بينهما، إحساسًا وحرقةً تعصفُ به إلى منتهى الحيرة والتساؤل .
وفي قصيدة "أبي العراق" ينبجسُ ألمُ الذات الشاعرة التي تتوسَّدُ غربتَها، فيحترقُ شوقُها وحنينُها إلى نبعها الخالص، حيث يرتفعُ الوطنُ/العراقُ إلى أعلى المنازل ، إلى منزلة الأب وإلى منزلة القداسة والعبادة حدَّ التيه في إدراك اليقين حين يقول:
"يا عراق بينك وبيني
عشقٌ حتّى العبادة
فأيّنا العابد وأيُّنا المعبود؟".06
يقول محمد بنيس" الشعر خطاب الذات المفردة، لا يثبت إمضاؤها الشخصي إلاّ باختلافه عن غيره "07، فالقصيدة تبحث عن الاختلاف والتفرّد، وتطرح سؤال الذات والكينونة في مفاهيم متعددّة ومتباينة من قصيدة إلى أخرى، حسب ما ينشره كلّ باث من خلال خطابه الذي يحمل توقيعه المختزل للمرجعيات وللسياقات المختلفة والرؤى الحاملة لايديولوجيا الذات ولقناعاتها وأغراضها، وتوجّهاتها، ومن هنا نستشفُّ من قصائد "صادق العلي" الذات التي لا ترى وجودها وتواجدها إلاَّ من خلال الوطن/العراق مهما تغرّبت وامتدّت غربتُها وبلغت منتهاها ، فلا حياة بلا هذا الساكن شوقًا ولوعةً والمنصهر في هذه الذات حدّ الخلود والفناء.
..
"حينما أستلقي مساءً
أجاهد لأنام علي
أدرك حلمًا يوصلني بالوطن
أو أغتسل به
حتى أطهر عمري المدمّى شوقاً".08
اختار الشاعر "صادق العلي " في قصائده معجمًا خاصًا،حيث تتواتر العلامات: "الوطن، الغربة، الحياة، الموت، العراق، الحلم، الفراق، الوحدة، التراب، في ديوانه " هؤلاء نحن " بشكل لافت،أو في قصائده التي لم يجمعها الديوان والتي نشرت عبر مواقع إلكترونية ،حتّى تكاد تميّز قصائده، بصمة خاصة له ،مشكّلة ضربًا خاصًا أيضا، والتي تتعدّدُ لتنفردَ في مضارب متباينة بقيم دلاليّة أكثر تأويلاً، ولتحملَ مؤشّرَ الانفتاح على أوجه القصيد بالولوج إلى سراديبه، وفهم السياقات المتعددة المتداخلة في إنتاجه، لتبقى تلك العلاماتُ عند الشاعر محمّلةً على الذات وغربتها ، وعلى الذات ووطنها الخالد فيها كروح لا تأبى الانفصال عن حقيقتها ونبعها الأوحد، أو مستقرها ومزارها الذي يشكل حرقةً ولوعةً عليه.
هذا المعجم اللغوي يحيلنا إلى عالم هذه الذات الشاعرة الذي تنفردُ فيه وبه حيث المنتهى والانصهار، عالم تمتزج فيه كلُّ التناقضات دفعةً واحدةً، فتختلطُ الأوراقُ والمسمياتُ رغم توصيفاتها، لتضيعَ هذه المسمياتُ في حرقة التساؤل وفي حرقة الأنا المصلوبة على وتر الغربة ، الأنا الطامحة إلى إدراك الحقيقة التي توصل إلى الأشياء ، بل إلى الحقيقة ذاتها التي تظل هاجسًا يقلقُها علَّها تقبض بعضَ السر الكامن من ورائها.
إن ديوانَ " هؤلاء نحن " تجربةٌ تنفردُ في البوح المناشد لعالم الحقيقة واليقين الذي يجعل الشاعر متسائلا يسكنه الريب والشك في نبع الأشياء وفي أصلها، كأنّه يحاول أن يقبض السر الذي ضيّع ملامحه بين خطين متقاطعين لا يتّصلان.
فبين غربة الذات الطامحة إلى اعتناق عالمها الأوحد الخالص، وبين اللحظة الأمل المنشود في إدراك الكامن وراء الحقيقة يتجلى وطنٌ خالدٌ يعزف ألحانه عبر مسافة تمتدّ حنينا وشوقا ، وتيهاً في ضروب التساؤل والمناجاة .
هامش
01- عبد الحق بلعايد. عتبات. الدار العربية للعلوم ناشرون.ط.2008.1.ص 74
02- المرجع نفسه ص76
03-صادق العلي.هؤلاء نحن.دار الغاوون.2012
04-الديوان.ص17/18
05- الديوان. ص10
06-الديوان. ص15
07-عبد الواحد المرابط .السيمياء العامة وسيمياء الأدب. الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف.
08-الديوان.ص15
© 2013 MicrosoftTermsPrivacyDevelopersEnglish (United States)
© 2013 MicrosoftTermsPrivacyDevelopersEnglish (United States)