لماذا خذلَنا الفنان محمد صبحى، ورفض حقيبة الثقافة مرّةً تلو مرة؟ سألتُه فأجابنى بسؤال: «هل ترحبين بخسارة صبحى الفنان، أم صبحى الوزير؟» فصمتُّ. لأن الوزراء بالآلاف، لا نكاد نذكرهم، أما صبحى الفنان، فواحدٌ، لا تجودُ السماءُ بمثله إلا كلَّ قرن. فالسماءُ سخيّة بالساسة والبشر، شحيحةٌ بالموهوبين الاستثنائيين.
ورغم اقتناعى بإجابته، كنتُ أرجو قبوله الوزارة، مع عدم خسارته كفنان، لأسباب سأسردُها:
أولا، هى وزارة انتقالية مؤقتة. فلا بأس من استراحة محارب قصيرة لصبحى الفنان، يضطلع فيها صبحى الوزير بدفع عجلة التثقيف وتطهير الأروقة الموبوءة بالفساد والكسل والترهّل، ثم يعود بعدها إلى حبيبته الأثيرة: خشبة المسرح.
ثانيًا، رجائى ليس لإعجابى به كفنان فائق يحمل شعلة الريحانى ويوسف وهبى وفؤاد المهندس، فأصبح العلامة المضيئة الوحيدة فى المسرح المصرى الآن، فى زمن الركاكة والإسفاف، بل لإيمانى بأنه «مخرج» فائق، والإخراجُ «إدارةٌ» وليس رؤية فنية وحسب. وكلُّ مَن عمل مع صبحى وصفه بالمخرج «الديكتاتور»، وهو الاسم الحركى المصرى لوصف المدير «الملتزم الحاسم» الذى لا يمزج الجدَّ بالهزل، ولا يقبل التهريج والفوضى وقت العمل، الذى بمجرد أن ينتهى، يختفى صبحى الديكتاتور المتجهم، ويحلّ محله صبحى البشوش المرح.
ثالثًا، لأن صبحى «مثقفٌ عضوى»، بتعبير أنطونيو جرامشى، لهذا حارب الهيمنة على الثقافة كوسيلة لقمع الفقراء. فالمثقف هو كتلة الخرسانة العضوية التى تربط الناس بالبنية الفوقية. لهذا اهتم بالعشوائيات، وابتكر مشروع: «المسرح للجميع»، فجعل تذكرة مسرحه (١٠ جنيهات فقط)، ويسعى لبناء مسرح فى كل قرية. عملاً بمقولة فلاديمير لينين: «أعطنى خبزًا ومسرحًا، أعطِك شعبًا مثقفًا». فساهم فى رفع وعى الجمهور بحقوقه، والارتقاء بإنسانيته عبر أعماله، وقدّم نموذج الأسرة المثالية فى «عائلة ونيس» بأجزائها الثمانية. والحق أن «ونيس» النبيل زوج «مايسة»، ووالد الأربعة، هو «صبحى» العاشق لزوجته «نيفين» والأب الرائع لمريم وكريم.
رابعًا: لأنه يمتلك «رؤية» vision، لتطوير مصر والحفاظ على تراثها وهويتها ولديه برنامج متكامل لتقديم المسرح العالمى، والواقعى، والتراثى، واستعادة هوية ٢٧ محافظة مصرية. ذلك هو المفكّر «خارج الصندوق» الذى ذكرتُه بمقالى: «نحتاج عُصبة من المجانين»، بمعنى الابتكار وكسر النمط ومخالفة قطيعٍ درج على محاكاة الأخطاء، وتكرارها.
ولكن، وللأسف، تقول القاعدة: إن الشرفاء الموهوبين، دائمًا، عازفون عن المناصب، مستغنون؛ لأنهم مشغولون بمشاريعهم التنويرية، أما الخاملون الفارغون فقراء الموهبة، فدائمًا، لاهثون متهافتون. تلك هى محنةُ كل الأزمنة. لهذا كان صبحى، كعادته، ديكتاتورًا. رفض الوزارة رغم إلحاح جمهوره العريض، ووافق، فقط، أن يكون مستشارًا ثقافيًا دون أجر، ليخدم مصر، من الكواليس. أفخرُ أننى عاصرتُ هذا الرجل، زمانًا ومكانًا.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...