في كلية الهندسة، جامعة عين شمس، كان الأساتذة «قُساةً» لا يقبلون منّا الأخطاء اليسيرة. غيرُ مسموح إلا أن تكون مشروعَ مهندس جادّ ودقيق ومبتكِر. من مأثورات أساتذتنا في اليوم الأول: «إحنا بنخرّج فراودة. اللى عاوز يهرج يحوّل كلية تانية!»، و«فراودة»: جمع كلمة «فِرْوِد»، وهى مصطلح في كرة القدم، جاء من تحوير كلمة: «فورورد» الإنجليزية Forward أي اللاعب الذي يتقدم إلى الأمام في أرض الملعب نحو مرمى الخصم ليُحرز هدفًا. ولأننى لا أحبُّ الكرة، كنت أتصور أن كُليتى يجب أن تُخرّج «شعراءَ»، لا لاعبى كرة قدم!
من هو الشاعر؟ الشاعرُ هو الذي يتمرّد على الموجود، ليخلقَ غير الموجود. الشاعرُ يكسر قوانين المنطق «العاقل» ليبتكر المجاز «المجنون». يلهو بالشموس والأقمار والبحار والغيمات ويعيد ترتيب الكون كما يحلو له. يغيّر الجغرافيا فيمحو الحدودَ بين الدول إن أزعجته. يبنى الممالك في الصحارى ويشقُّ الوديان بين الجبال. يصُفُّ النجومَ في خيط ليصنع عقدًا لحبيبته. يلاعبُ الزمانَ ويشاكسُ البشرَ فيجعل «النُّواسىَّ يعانقُ الخيّامَ»! كما فعل «جورج جرداق» في قصيدة: «هذه ليلتى». كيف يعانقُ شاعرُ الخمر الدمشقىُ ابنُ الزمن العباسى شاعرًا فارسيًّا سيظهر بعده بأربعمائة عام في خُراسان ليكتب رباعيات تتأرجح بين الإيمان والجنون؟! وحده الشاعرُ قادرٌ على أن يجبر الفرقاءَ على التلاقى والمصافحة. كذلك المهندس، الذي يناطح السحابَ بأبراجٍ شواهقَ، ويضرب بسنّ قلمه بطنَ الأرض المظلم فتُخرج لؤلؤَها.
مهندسون ألمان وقفوا حائرين سنواتٍ سبعًا أمام نهر لابد أن يخترقه قطار! حاروا لأنهم مهندسون، وفقط، وليسوا شعراء. حتى جاء شاعرٌ مصرىّ عام ٢٠٠١ فأقنع النهرَ أن يتنحى جانبًا ويغيّر مسارَه لبعض الوقت، ثم يعود بعدما ينتهون من حفر الأنفاق أسفله ليمرّ القطار.
أما النهرُ، فهو «سبراى» الذي ينبع من مرتفعات على الحدود التشيكية ليخترق قلب برلين الصاخب وينثر رذاذَه في رئتيها. وأما الشاعرُ المصرى فهو المهندس «هانى عازر» ابن هندسة عين شمس. وأما قصيدته الكبرى التي أنهى كتابتها في خمس سنواتٍ عام ٢٠٠٦، فهى محطة قطارات برلين التي أجبرت شطرى ألمانيا الشرقية والغربية على المصافحة بعد طول خصام، كما فعل أبونواس وعمر الخيام. وأما قصيدته الراهنة فهى محطة شتوتجارت التي سينهيها عام ٢٠١٩. وأما قصيدته الأجمل فهى قبوله منصب مستشار رئيس الوزراء لشؤون النقل والأنفاق في مصر، دون مقابل. وأما حبيبتى هندسة عين شمس، فشكرًا لأنك تصنعين المهندسين الشعراء. وأما «تاجُ العلاء في مفرق الشرق»، مصر، فألف شكر لأنك تُنجبين شرفاءَ يرفعون لواءَكِ عاليًا في كل الدنيا.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...