كان ذلك يوم الخميس الماضى، ١٣ مارس ١٩٥٠. قفزةٌ للوراء على مقياس الزمن، قفزةٌ للأمام على مقياس التحضر؛ إذا ما اتفقنا، من أسفٍ، أن التحضر والرقىّ والأناقة تسير، جميعُها، فى مصر عكس عقارب الساعة.
بالنسبة لى، لم يكن «عيد الفن». بل «عيد (عودة) عيد الفن». ليست مصادفةً أن الفنون والثقافة والآدابَ فى مصر آخذة فى الانحدار حثيثًا منذ ثلاثة عقود، فى تزامن مع اختفاء «عيد الفن» منذ ٣٣ عامًا. رغم أن الاحتفاء بشىء، لا يعبّر عن ماهية الشىء ومستواه وقيمته، إنما يدلُّ على أهمية هذا الشىء لدى الناس. اختفاء عيد الفن مع الثمانينيات، كان لابد يواجَه بحالة غضب جماهيرى. لكن الناس صمتت، وربما لم ينتبهوا، لأنهم مطحونون بأولويات الخبز والدواء. وهذا مؤشر خطير؛ أن «يُجبر» المصريون على الانبطاح تحت مقصلة العوَز والفاقة والمرض والتجهيل العمدى، فلا يعبأون بالفنون، ويعتبرونها ترفًا ورفاهيةً، بينما هى الضمانةُ الوحيدة لئلا يُذلّوا من حاكم أو حكومة. المصرىُّ القديم صانعُ الفنون وواهبُها للعالم، فكيف يأتى عليه حينٌ من الدهر ويعتبرها «كلام فارغ»؟ يحدث هذا حين تُنتزع آدميته بمبضع الحاجات الأولى، فيجفُّ داخل روحه النُسْغُ الريّان الذى يغذى إنسانيته. هذا ما فعلته الأنظمةُ السابقة كى يتحول الشعبُ إلى حشود من الفقراء يركضون وراء الرغيف والمأوى ورقعة تستر البدن، فلا يجدون الوقت والطاقة لينتفضوا أو يثوروا. ثم جاء نظامٌ أكثر غباءً حاول تجفيف «آخر» رمق فى ذلك النُسغ، فكانت الشوكة التى نبهت الجسدَ المعتلَّ أن ميكروبًا قبيحًا يوشك أن يقتل، فاستجمع البدنُ المصرىُّ قواه، وانتفض وصحَّ.
وليست مصادفةً أن يعود «عيد الفن» على يد موسيقار كبير، هو هانى مهنى. فالموسيقى أرقى الفنون الستة، حسب التقسيم الإغريقى، والسبعة، بعد بزوغ السينما. فالعمارة والنحت والتشكيل، والمسرح والشعر، جميعها تحاول الوصول إلى عنفوان الموسيقى الشاهق.
وليست مصادفةً أن يعود ذلك العيد فى عهد المستشار عدلى منصور. فقد عوّدنا فى عهده القصير على أن يكون بايونيير رائدًا، يرسم للرئيس القادم الخطوات الراقية التى سيسير عليها حتى تسعيدَ مصرُ مصريتَها العريقة.
ليس بعنوان المقال خطأ. بل هو ما أحسسته وأنا أجلس فى المسرح الكبير بـ«دولة الأوبرا» الشاهقة الخميس الماضى فى حفل «عيد الفن». لم نكن فى عام ٢٠١٤. إنما كأننى فى الخمسينيات، التى تمنيتُ أن أعاصرها. وقت كانت مصرُ مصرَ، أنيقة رفيعةً متحضرةً، تحترم الفنون الراقية، وتصدرها للعالم. شكرًا للموسيقار، شكرًا للمستشار، شكرًا للمبدعة د.إيناس عبدالدايم، شكرًا للموهوب م. مصطفى عوض مصمم شعار المهرجان، وشكرًا ألف شكر، أيها الفن.
[email protected]