بقي في مقعده، وحيداً، عَقِبَ هزائمه المتكررة، راح ينفّخ آخر سجائره الملفوفة يدويّاً. المقهى كان صاخباً كثيراً، انتصاراتٌ صغيرةٌ وهزائمُ صغيرةٌ وحروبٌ يخوضُها روّاد المقهى في آخر أحلامهم الهرمةِ. وفيما هو ينفّخ آخر سجائره نافثاً منها دخان هزائمه الخمس وآخر حلقات الدخان المتطايرة في هذا الجوّ المختنق، بدا له طفلٌ صغيرٌ من الخارج أمام الواجهة البلّورية. أمُّه الواقفةُ، هناك، وإحدى صديقاتِها.. تركتْ له الحرّية على امتداد الرصيف حتى يصطدم بالبلّور. الطفلُ يلوّح بيديه، وتلامسُ يدُه المصافحةُ البلّورَ فيضحكُ من المفارقة. راح العجوز يردّ عليه دعاباته رافعاً عكّازه وكأنما يريد أن يردّ مصافحتَه الصغيرة، يُدلّي الطفلُ لسانه فيلامس به السطحَ البلّوريَّ، ثمّ يقبّله فيمتلئ العجوزُ غبطةً؛ ناسياً هزائمه. وكأنما عاد العجوز أدراجه طفلاً يداعبُ صديقَه الصغير عبر البلّور. يحملُ العجوز النردَ متفنّناً في إلقائه، كي يفرح صديقُه الصغير. أحياناً يحملُ عكّازه مُثنياً على جماله وجمال مقبضه، المصنوعِ بعناية، والمزخرف. والطفلُ لا يزال يعبثُ بالبلّور.... يلكمه... يقبّله اليوم، فقط، أحسّ بالطفولة، فهل هذا يعني أنّ الشيخوخة طفولةٌ متأخرةٌ أو طفولةٌ ثانية بريئةٌ مثلها، عفويةٌ مثلها لكنها فقط تقع في المحطة الأخيرة من الحياة؟. الطفلُ يلعب ليس بالبلّور وحده وإنما بمشاهد حياة العجوز أيضاً في الجهة الثانية، معيداً بذلك طفولته. جاء عامل المقهى إليه وقال له بكثير من السخرية: - يا عمّ، ماذا دهاك؟ أحسّ العجوز عندها بإهانة شديدة، نظر إلى نفسه وكأنّما لدرء التهمة عن نفسه: "لم أُصَب بالخَرَفِ بَعْد"، ثم التفت إليه وقال له: أليس اسمك جوان؟ فقال: بلى. ابتسم العجوز عندها ابتسامة عريضة وكأنّما اطمأنّ على مخزون الحياة في عقله. رجعَ لمداعبة الطفل، لكنّ الطفلَ لم يكن يَنْتَبه لحركاته، بعد قليلٍ مضى الطفلُ وأمَّه، مضى الطفل قبل أن يتحوّل البلّور (الذي كان ينظرُ فيه العجوز إلى الطفلِ) إلى مرايا. عندما حلّ المساء، وفيما لا يزالُ جالساً رأى نفسه فـي البلور الذي تحـوّل إلى مرايـا، تنقل مـلامـحَـه الشائخـةَ؛ فتأمّلَ شيخوخته... تأمّلَ تجاعيده، خطوطَ الطول والعرض، وتأمّل عميقاً، البلّورَ المخادع والشيخوخةَ الحالمة ناسياً هزائمه الخمس المتكررة.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...