رجلان كريمان صنعا موقفين بسيطين، ما كان يجب أن يلفتا الانتباه، لفرط ما بهما من طبيعية وعادية واتفاق مع مبادئ الإنسانية الأولى. موقفان ما كانا يلفتان النظرَ، لو كنا فى ستينيات القرن الماضى أو خمسينياته أو ثلاثينياته. حين كنا راقين متحضرين لا نعرفُ العنصرية والفُرقة قبل أن تغزونا رياحُ السموم الطائفية وأفكارُ الانقسام البغيضة. موقفان يختصران فكرةً أؤمن بها، وأكتبُ فيها منذ سنوات، وتحمّلتُ لقاءها كلَّ صنوف الشائعات والتجريح والتكفير والتهديد وهدْر الدم. فكرة أن الإيمان الحقَّ بالله يحمل فى طياته احترامَ عقائد الآخرين، مهما تباينت. لأن فى تباينها ثراءً، واتفاقًا على مبدأ أساسى: البحث عن الله، عبر مساربَ ودروبٍ شتى. فكرة أن الإيمان أرقى من العقيدة. فالإيمانُ هدفٌ، والعقيدةُ وسيلة. الإيمانُ يسبق العقيدةَ. الإيمان عمره على الأرض ملايين السنين، منذ نظر أولُ إنسان إلى السماء وقال: «يا ربّ»، فيما العقائدُ لم تولد إلا منذ بضعة آلاف سنة. ولو شاء اللهُ لوحّد الأديان، لكنه اختار أن يكون النورَ الذى يغمر العيونَ، ويعمُر الأفئدةَ، فتلمحه العيونُ من زوايا عدة، وتلمسه القلوبُ عبر تجاربَ متنوعة.
أما الموقفان الجميلان فصنعهما مصرىٌّ مسلم، ورجل دين أرجنتينى مسيحى، فى بلدين تباعد بينهما الأميالُ والألسن والعقائد والثقافات: مصر وإيطاليا.
هنا، الأستاذ أسامة راشد، معلّم اللغة العربية بالمدرسة الثانوية فى طنطا. اشترى علبة حلوى، ووزعها على تلاميذه وتلميذاته المسيحيين، والتقط معهم الصور التذكارية فى عيدهم- عيد القيامة المجيد. لم يكلفه الأمرُ إلا ابتسامة حنوّ دافئة، ومحبة غمرَ اللهُ بها قلبَه المؤمن، وسموّ روح يسكنه. هذا نموذج المعلم المثقف، كما يجب أن يكون.
وهناك، بابا الفاتيكان الكاثوليكى. قام بغسل وتقبيل أقدام ١٢ شخصًا معوّقًا على ديانات وجنسيات مختلفة. بينهم أفارقةٌ سود ونساء، وليبى مسلم يعانى من تشنج عصبى مزمن. فعل هذا ليحاكى السيد المسيح فى خميس العهد، قبل يوم من حمله الصليب الهائلَ على طريق الآلام. غسل المسيحُ، عليه السلام، أقدامَ تلاميذه الحواريين الاثنى عشر، فى نقض حاسم لعنصرية اليهود التى تجبر الخادمَ على غسل قدمى سيده. هنا غسل السيدُ أقدام التلاميذ الأتباع.
رجل الدين المسيحى أعطى العالمَ درسًا راقيًا فى المحبة والتواضع، حين نفّذ وصية المسيح: «إن كنتَ لا تحب أخاك الذى تراه، فكيف تحب الَله الذى لا تراه؟!» ونفّذ المعلم المسلم وصية إسلامية: «الدين المعاملة»، وأعطى تلاميذه تطعيمًا ضد الطائفية والبغضاء. فمتى يصبح هذا التطعيمُ إجباريًّا، مثل مصل السلّ والتيفود وشلل الأطفال؟!
عودى يا مصرُ كما كنتِ بربّك. فقد شبعنا طائفيةً وعنصريةً وبغضاءَ.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...