قصة / الريح والملح
2006-05-01
في ذلك المابعد الظهر، البارد جداً والغريب أيضاً. أنزل جاد الكيس الأخير من الطحين الأبيض الدافئ عن ظهره إلى أمام مخالط العجين. لم يأبه لرمقات أعين العجانين التعبين جداً من نهار عمل طويل جداً، وغير الآبهين لاحتراق الجلد وشعر الجلد أمام لهيب النار، ولم يأبه بهم وبمحاولاتهم الدائمة لإضاعة ما تبقى من طاقة لديهم أمام النار، عليه، كالعادة، وشتمه لتأخره الدائم عن إيصال الأكياس وإفراغ مكب الخبز اليابس… بدؤوا يصرخون عليه بينما هو ينفض بنطاله الأبيض تماماً ما عدا بعض النقاط التي تظهر لونه البني الأصلي، وكنزته الزرقاء.
رفع شعره السبل المرتخي عن وجهه بهدوء، والذي اشتعل طحيناً وقال: أنا آسف …! فيما انهالت عليه الشتائم وأكواب الشاي وبضعة قبضات من العجين
أدار ظهره بلا مبالاة بينما استمروا هم في فتح الكيس وسكبه في الآلة، أدار ظهره وصعد الدرج الوطيء، درج الفرن في القبو الدافئ جداً، فتح الباب ليخرج إلى شمس ما بعد الظهر ذلك اليوم.
ذلك اليوم الذي تشرق فيه الشمس رويداً رويداً، لكن برودته كانت كافية لتيبيس رغيف خبز كان قد خرج للتو من باب الفرن لتحوله إلى كتلة من البخار الأبيض الرهيف.. الناعم.
كانت تلك لعبته الجميلة في يوم شتائي كهذا، في حي كهذا. وقف قليلاً أمام باب الفرن، نظر يميناً وشمالاً كعادة الفران الذي يخرج أحياناً ليدخن سيجارة، وأسند ظهره على الحائط بعد أن رفع قدمه اليسرى عليه أيضاً.
كان الحي ذو البيوت المتلاصقة وبرك الماء والضجيج يضجره كلياً، فمتعته في مراقبة مستطيل السماء الصغير الذي يمكنه من رؤية رفوف الحمام التي يربيها جارهم إبراهيم هي أجمل ما في تلك الوقفة.
استدار عائداً إلى الفرن ولكن قبل أن يدخل باب الفرن قفز بحذر إلى باب درج السطح المقفل دائماً. السطح مساحة السماء الأكبر بعيداً عن ضجة المارين وبرك الماء وبقايا الخضار على الأرض. السطح حيث تعصف الريح بكل شيء لا يوقفها شيء ولا تبقي على شيء أبداً، كل شيء للهبوب هنا……
غير جدار بيت صاحب الفرن القصير الذي إن وقف
جاد على رؤوس أصابعه، فسيرى الحقول وامتداد المدينة خلفها وحتماً حديقة بيت الشيخ. السطح الذي تغسل فيه الريح شعر جاد من الطحين، وثيابه من الملح، ويعود لألوانه البكر.
وقف فوق وفتح ذراعيه للهواء كمن صعد قمة جبل عالية ووقف يتفرج على الناس:
هاهو برهوم يعدو مسرعاً بصحن الفول إلى معلمه الغاضب دوماً من قلة الشغل، وحمودة يغافل أبو سليم ويأكل من الفلافل الساخنة فيحترق فمه.
دخل بسرعة كي لا يراه أحد ويشي به للمعلم. انبطح على الأرض بسرعة ونظر تحت خزان المياه الكبير باحثاً عن طائره الكبير والذي استطاع إخفاءه منذ سنة على الأقل عن أعين الآخرين، فتناهت إلى أذنه أصوات آلة العجن التي تشبه أصوات آلة حف الصخور والرخام، دوي مرعب أزعجه في
خلوته…… دي دي دي دي دي
أخرج طائره الورقي ووقف يتفقده، أصلح خيوطه التي شابكتها الريح، وأمسك بخشبة السحارة التي لف عليها خيطان الطائرة الورقية واستعد…… أخذ شهيقاً قوياً وأخرجه بحزم. ثم أطلق وحشه نحو الريح، ولكنه لم يعطه أكثر من متر أو مترين، كي لا يبتعد وحتى لا يراه المارة أيضاً، فهو قد اعتاد على إطلاقه دائماً بعد انتهاء الدوام، وبعد أن يفرغ السوق الصغير من أعدائه الصغار.
ابتعدت الطائرة قليلاً، لكن الأمر لم يعجبه، فهو يريد أن يبعد الطائرة عن الملح قليلاً، نحو الهواء على الأقل…… إن لم يكن بالإمكان إيصالها إلى شجرات حديقة بيت الشيخ… ببساطة……
تلك الحديقة المليئة بأشجار النارنج والليمون المحاطة بالصنوبر والسرو الطويلة حيث تعشش الغربان، أجمل الطيور التي
يحب، والتي يستمتع بصوتها المؤنب.
حلق الطائر قليلاً، وكانت الريح مواتيةً وانفردت الأجنحة الورقية حتى اضطر إلى إمساك الخيط بقوة أكبر وشد نفسه إلى الوراء كأنه بحار يمسك بسمكة ضخمة. وازدادت الريح مواتاة وازداد جاد استمتاعاً باللعبة ونسي الدنيا ودوي آلة العجن وبرهوم وحمودة.
وتقدم يعطي لطائره مزيداً من الخيطان، تقدم وحشه الأخضر نحو حديقة بيت الشيخ وازداد سعادة فالريح شرقية، وستأخذه إلى هناك حتماً. تقدم وتقدم حتى وصل إلى حافة السور المطل على مكب الخبز اليابس والفارغ.
وقف على حافة السور حتى ازدادت الريح تلعب وأمعن هو بإطلاق الخيطان حتى اقترب الطائر الأخضر من شجرة الصنوبر الأولى.
كان المشهد مرعباً لسكان الأحياء الوطيئة المطلة على ذلك السطح، والذي خرجت منه صيحات تهديد ووعيد لجاد كي ينزل فهو يقف على حافة السور.
استمر المشهد مهيباً وبهياً أسكت الجميع حتى المعلم والأولاد وعامل الفرن الذين وصلهم الخبر، أخذوا يتفرجون بصمت على جاد الذي أسكت دوي آلة العجن ولم يعد يسمع سوى دوي الريح في أذنيه.
قارب الطائر أن يصل حافة عش الغراب، وكاد جاد يبكي لشدة فرحه واختلطت دمعات عينيه التي أخرجتها الريح بلون الغراب الذي كان يراه…… إيه أيها الغراب… اقترب … أعطني…
مد جذعه كي يساعد طائره الأخضر على نقر الغراب والسلام عليه أو إعطائه شيئاً مما يخبئه في عشه.
وطار جاد وانفلت الطائر الأخضر نحو الصنوبرة الضخمة وطار واندفع بدمعات فرحه نحو مكب الخبز اليابس حيث الملح الأبيض يغطي بلاط الباحة القديم.
08-أيار-2021
27-تموز-2012 | |
18-كانون الثاني-2012 | |
08-كانون الثاني-2011 | |
20-كانون الأول-2010 | |
06-تموز-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |