قصة / شكوى إلى صاحب المقام الرفيع
2006-05-11
رآه حين تناول خنجره من وَسْطه، وكيف قبض بغلٍ على خِطَامه، ولوى عنقه، ثم انهال عليه طعناً؛ فإذا بابن جلدته ينتفض، يحرك قوائمه بما يملك من قوة، يحاول الوقوف .... يسقط، ينظر حواليه بوهنٍ، يُلقي نظرة على الأشباح التي كانت تتراءى له دون أن يميزه من بينها، تخور قواه، تفر من عينيه الدموع ... ثم يلفظ أنفاسه .. تهمد حركته.
طريقة القتل تلك ظلت تؤرقه، وصورة القاتل لم تفارقْه، كانت تتقد اشتعالاً في رأسه كلما لمحه يقترب منه، أواستشعر بوجوده؛ فتأخذه الرجفة، ترتعد فرائصه! لكن ذلك لم يمنعه من إعداد العدة، والتأهب لأي طارئ، دون أن ينسى أن قدرته على المواجهة محدودة، وسلاحه لن يتعدى الرفس أو العض إن أمكنه ذلك، مثل سلاح ابن جلدته الذي كان يكبره سناً، ولديه خبرة في تعاشر أجلاف بني الإنسان، فماذا ينفع هذا السلاح أمام الخنجر والبارودة؟ على كل حال لن يقف ذليلاً، مستسلماً، سيقاتل حتى النهاية، ويدافع عن نفسه بما يستطيع، بعد ذلك ليأتي الموت، لأن موت بشرف خير من موت بذل.
عبر مسارات الزمن لم تكن الشكوى تثير الشفقة، فلماذا يلجأ إليها الآن؟ ففي زمن سحيق وقف أحد أجداده بين يدي حضرة ( بيراست الحكيم، ملك الجان شاه مردان)، واشتكى من الغبن الذي لحق ببني جنسه على يد الإنسان، قائلاً: ((أيها الملك! لو رأيتنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم، مُوقَرة ظهورنا بأثقالهم من الحجارة، والآجر، والتراب، والخشب، والحديد وغيرها، ونحن نمشي تحتها، ونجهد بكدٍ وعناءٍ شديد، وبأيديهم العصا والمقارع، يضربون وجوهنا وأدبارنا بحنق، وعنف، وضجر، وصخب؛ لرحمتنا، ورثيت لنا، وبكيت علينا أيها الملك! فأين الرحمة؟ وأين الشفقة والرأفة منهم علينا، كما زعم هذا الإنسي؟))(1).
لم تنفع الشكوى في رفع الحيف والظلم عن كاهل جده، على الرغم من امتلاكه ناصية الحجة وقوة البيان، فأين هو من هذا كله ؟ مع ذلك سيقف على قدميه، لن تحبط عزيمته أو يستسلم، وله في تصرفات أناسي هذه القرية درساً وعبرة، فقد رأى كيف يفشل كثير منهم عند أول صدام متعللاً بعدم القدرة على المواجهة؛ ويرفع الراية البيضاء، ويفضل العيش ذليلاً على الموت بشرف! هو لن يكون مثل أي من هؤلاء، سيدافع عن حياته بما يملك من قوة، هكذا رأى أخاه يفعل، وهو ليس أدنى منه منزلة، أو أقل شأناً في هذا العالم الصاخب.
لم يمضِ طويل وقت على مقتل أخيه في الحيونة حتى وجد نفسه يحل محله؛ فأثار ذلك في نفسه أشباه نوازع الإنسان الدفينة، وشرع يبحث عن وسيلة انتقام من ذلك الإنسي الأرعن، فوجدها في توجيه ضربة موجعة إلى ابنه الصغير، لعلها تكون رادعة له؛ فتمنعه عن تماديه في غيَّه، وتحقيق الأمر لن يكون بعيداً، لا بُدَّ أن يدفع الرجل ابنه إليه؛ ليحمله على ظهره إلى أرض (السطحيات)، أو(العين)، أو (الكرم)، حينها يعرف كيف ينتقم!
الآن هاهو يصرخ بصوت أوله زفير وآخره شهيق محتجاً على الغبن الذي لحق بالحمير كافة، بما فيهم نوع الشهري (المحترم)، وحاق ـ على وجه الخصوص ـ بأمثاله من ذوي الدرجة الثالثة: ((أيها السادة! كيف تطاوعكم قلوبكم على قتل كائن ضعيف ظلماً وعدواناً، وتجرون جسده دون شفقة أو رأفة، فتقذفونه في العراء، ثم تأتون بغيره ليحل محله قسراً؟ أليس في تصرفكم هذا إسراف في استعمال العنف؟ الرحمة مطلوبة ... قليلاً من الرحمة)).
رغب أن يطلق لأفكاره العنان، ويبعث بشكواه إلى صاحب المقام الرفيع، بطريقة أكثر قوة وجرأة، دون أن يسهو عن تحذير جده من أولئك الأناس الذين يوصدون أبوابهم أمام كل وافد، ولا يبدلون أفكارهم ورؤاهم بتغير الأزمان، لكن قدوم قاتل ابن جلدته بوجه كالح، وعصا غليظة يلوح بها في الهواء، وخلفه ابنه الصغير يجرجر قدميه باكياً؛ أزال من رأسه كل أثر للشكوى، ليس هذا فحسب، بل محا خطة الانتقام التي طالما حلم بتنفيذها، ورقَّ قلبه لحال الصغير، فلم يحرك ساكناً.
ما فتئ يراقب الرجل وهو يجر الصغير خلفه حتى وقف بحذائه، لم يكن بمقدوره فعل أي شيء في تلك اللحظة، تمنى أن يغمض عينيه فلا يرى بقية المشهد: الأب يصفع الابن، يقذف به عالياً في الهواء، فيقع عليه بطريقة لم يتوقعها، ومع ذلك ظل يتمالك أعصابه، لكن ضربة مفاجئة من تلك العصا على كفله؛ جعلته يقفز إلى الأمام، وكانت فرصة مواتية له لينتقم لنفسه ولابن جلدته، لكنه استعاد توازنه بسرعة، وأبعد ما علق برأسه تماماً، فهو لن ينحط إلى منزلة ذلك الرجل!
تمالك أعصابه، مشى بخطوات ثابتة عبر الطريق الترابية، وبين حين وآخر كان يميل برأسه ناظراً إلى الأعلى؛ فيرى الصغير مطرق الرأس، شارداً.
08-أيار-2021
18-أيار-2008 | |
10-أيار-2008 | |
11-أيار-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |