فصل من رواية هذيان
2008-05-10
1 عندما اتسعت مساحة الرؤية أمام عيني (مسافر) ، وأخذت مداها الأقصى ؛ انتقل إلى بيت الخيال بلمح البصر ، فطاف في فضاء رحب ، قزحي الأطياف ، وأنزلت عليه الرؤيا قطرات الكلمات ؛ فأحيت عُشْب الصمت ، وأنزلت أنغام علوية تترى سبحة صور مختلفة ألوانها ؛ فانزاحت الغشاوة عن بصيرته ، ورأى ما لا يرى إلا لكل صاحب حظوة عند ذي المقام العالي ، وعلى مدَ البصر نضت الأشياء ثيابها ، وراحت تتصاعد شيئاً فشيئاً في صفاء الرؤيا الصادقة ، ووضوح شمس المعرفة ، بينما كانت السيارة الصغيرة تسابق الريح حرة ، طليقة من كل قيد إلا من قدمي السائق ويده اليمنى القابضة على المقود ، وسط طريق عريضة ، معبدة تحف بها من الجانبين ساقيتان متعرجتان ، وعلى مسافة غير بعيدة يظهر انحناء على شكل نصف محيط دائرة ، ينعطف نحو الجهة اليمنى كالهلال ؛ لذا لم يتجاهله السائق ؛ فيسهو عنه ، أو يغب عن بال (مسافر) الراكب الوحيد معه ، ولا غرابة في ذلك ! فهما يعرفان كل شبر في تلك الطريق الطويلة التي تربط بين مدينتين متقاربتين من حيث التكوين والنشأة . لقد أمضيا عدداً من السنين يسلكانها جيئة وذهاباً ، وهاهي السيارة الصغيرة ذاتها تخترق ضوء النهار ، وتتجاوز الطرق الترابية الزاحفة نحوها من القرى المنتشرة بشكل عشوائي ، يميناً وشمالاً ، وترمي خلفها أشجار السرو والصفصاف التي تحف بالجانبين كحارسين أمينين يقظين . إذاً فلا شيء يدعو إلى القلق ، أو يثير الريب في مثل هذه الحالة ! لا السيارات الصغيرة أو الشحن الكبيرة ، ولا سكان القرى المتناثرة على الجانبين ، ولا الحيوانات الشاردة أو العابرة من الناحية اليمنى إلى الناحية اليسرى ، أو من اليسرى إلى اليمنى ، ولا رعاة الأغنام من البدو الذين يسوقون قطعانهم أيام الحصاد كيفما كان ، في الطول والعرض ؛ فترتفع زوابع الغبار من حولهم كالجيوش الجرارة . فهي طريق مألوفة ، والمألوف كالشيء المعروف ، لا يُؤخذ الحذر منه عادة ، لكن ذلك لا يحول دون وقوع المحذور . فَرُبَّ ضربة من قريب ذي رحم تأتيك بغتة أشد وقعاً من طعنة عدو حاقد ! فالأقارب عقارب ( كما يقول المثل ) ، وأشد الناس عداوة أقربهم إلى المرء . هكذا حَدَّث مسافر نفسه ، ورحل بأفكاره بعيداً بعيداً بين فراشات الرؤى ، وهي تطوف حول أناس مختلفي العادات والمشارب ، والانتماء والتفكير ، وحين تعرفهم حق المعرفة ترى كثيراً منهم في أحلامهم سادرين ، وقلة منهم يتفكرون ... والحياة دون أحلام لا معنى لها ، حتى لو كانت بسيطة ، أو أقرب للهذيان ، لكن إذا طالت غدت مضيعة للوقت ؛ فتورث الخور والسكون ، والاستسلام للمجهول . في تلك اللحظة برز سؤال بين جملة أسئلة طرقت باب مخيلته ، فردده دون أن يدع السائق يسمعه : " هل الهذيان وليد شرعي للوهم ؟ والوهم ابن غير شرعي للعقل ؟ " فأجاب : " قد يكون أو لا يكون ! ليس في ذلك مضرة ، وفي معظم حالاته قد تنفك عقدة اللسان لقول كلمة صدق بصراحة مطلقة ، كما تتجلى المنافع الجمة . فإذا كان كثير من الاكتشافات قد بدأ عند الآخرين كحالة من الوهم أو الهذيان ، فإن خراباً حلَّ بنا عندما نسبنا بعض قول صاحب الرسالة الهادية المهدية ، الصادق الذي لا ينطق عن الهوى ، إلى نوع الهذيان ، فكان للآخرين هذيانهم ، وكان لنا هذياننا . فالمجد للهذيان عندهم ، ولنا التشتت ، والضياع ، والتشرذم . المجد لمن يعرف قيمة المجد ، وكيف يبعثه من جديد حين تحاصره الحدثان " . انتبه إلى نفسه ، فهمس : " يبدو أني شردت بأفكاري ، مالي وللحديث عن هذه الأشياء ، ماذا جرى ؟ " . تلقى جواباً من السيارة على شكل صرير ، أعقبته قفزة مفاجئة ؛ جعلته يودع أفكاره ، ثم ينظر ناحية السائق بطرف خفي ، كأنه يخاف أن يضبطه متلبساً بجرم الشرود ، رغم أن وقوعه بهذا الجرم لا يؤثر عليه من قريب أو بعيد ، أو يغيِّر في سلوكه ، وطبيعة عمله ، فهو معروف بحرصه على إنجاز ما هو مطلوب منه بدقة ، وبأقصى سرعة ممكنة ، لأنه لا يطيق أن يرى أمامه على الطاولة أوراقاً تنتظر تأشيرة ، أو اتخاذ إجراء ما ، وهذا الأمر لا يقلقه بتاتاً ، لكن ثمَّ أشياء كثيرة في عمله تفعل ذلك ، وتترك آثارها بعض الأوقات ، فالحياة لا تخلو من منغصات ، ومشاكل تهبط تترى على حين غرة حيناً ! أو تأتي منجمات أحياناً . لماذا هي حياة إذا لم تستعر منعطفاتها بالخفقان ، والاختلاج ، والرعشة واللجلجة ، والهزهزة ؟ فالحركة دليل حياة ، أما السكون فهو طارئ ، سرعان ما يحمل عباءته وعصاه ، وينطلق .... كما السيارة الآن عبر الطريق العريضة ، وهاهي عند المنعطف تتهادى محاولة كبح جماحها ، تميل نحو اليمين ، تقفز قفزات تترى . تعدل من وضعها ، تعيد سيرتها الأولى كأنها في ميدان سباق عند خط النهاية . فعلاً كادت تصل حافة ... يا لها من حافة ! إنها الهاوية بذاتها ، وما أدراك ما الهاوية ! يصرخ بالسائق ليحذره من سوء العاقبة ، ويثير انتباهه أَنْ ثَمَّ سيارة قادمة بسرعة جنونية ! وما عليه سوى اقتناص فرصة للنجاة بالهروب بعيداً ، أو تفادي الاصطدام بأقل الخسائر ؛ فاستجاب السائق بحركة دفاعية آلية ، وحاول الهرب بمناورة سريعة ، غير معروفة النتائج ، وعلى الرغم من استجابة المقود لحركته الخاطفة نحو اليمين ، وانعطاف السيارة كما هو متوقع ، فإن ذلك لم يكن مجدياً بشكل كامل ، فوقع المحذور . صحيح أن السائق استطاع تخليص مقدمة السيارة من صدمة أمامية ، نتائجها حمراء دامية ، أو موت مثير للدهشة ، لكنه لم يتمكن من منع وقوع تصادم لا مفر منه ، فالتقت مقدمة السيارة القادمة مع مؤخرة سيارتهما ؛ محدثة دوياً ، أعقبه اختراق السيارتين أرضاً غير مستوية ، مثيرتين زوبعة من الغبار ، وصوتاً يشبه الرعد ، قبل أن تستقران في وضع مزرٍ كمن يكشف عن سوأته ؛ فأسرع كل راكب وراجل صادف مروره في تلك اللحظة باتجاه مسرح الواقعة ، ما بين مستطلعٍ ، أو منجدٍ ، وهو يحوقل ضارباً كفاً بكف ، ولاعناً جنون السرعة الذي لا يجلب غير المصائب . هنا ، في هذا القسم من الطريق لم ينتبه أحد من العابرين إلى تلك اللوحة القائمة على ساق ضعيفة ، مائلة ، وغير بعيدة ، التي تقرر بشكل جازم أن القيادة فن وذوق وأخلاق . أما هو فقد استرعت انتباهه منذ سنوات خلت ، عندما كانت منتصبة القامة ، تزهو بصفحة وجهها المضيء ، لأنه حاول مرات عدة إحصاء اللوحات الزرقاء المستطيلة التي ترفع هذا الشعار ، وأماكن تواجدها على مسار الطريق . أما متى كانت القيادة تجمع بين الفن والأخلاق ، فتلك مسألة لم توضحها الأحداث ومجريات التاريخ ! أما شرطة المرور فهي مصرة على جمع الأمرين ، بنصب لوحات معدنية على الطرقات تحمل تلك العبارات ، مع أن نظرة سريعة إلى واقع الحال ، وما يجري ، تدل على حالة من القطيعة بين السلوك والشعار ؛ ولهذا السبب ثمَّ مَنْ استعاذ بالرب من الشرطة ، والعشارين ، ومن كل جبار عنيد ، ومتسلط بغيض ، وللسبب ذاته أيضاً نبتت الرهبة في نفوس البسطاء من الناس ؛ ولهذا فهم لا يطمئنون إلى هذه النوعية من الرجال ، ويتضرعون إلى الله سراً وعلانية ألا يكونوا غرضاً لهم ! الذي حدث أن السيارتين كانتا غرضاً للتصادم في ذلك المكان ، حيث ترفع اللوحة المعدنية رأسها خجلة على ساق مائلة ؛ بعد أن سرى الخور في جسدها ، وأكلتها تقلبات الطقس ، ونال منها عبث الأطفال ما نال من صفعات بالحجارة . كل هذا أمسى كأنه لم يكن له وجود سابق في رأسه لحظة التصادم ، لقد جرت عملية تبخر سريعة أزالت كل ما كان عالقاً بخلايا المخ من ذكريات ! وحلَّت محلها صور وخيالات من نوع غير مألوف ، ونهض عالم جديد لديه من الوقاحة ، والعنف ، والقوة الشيء الكثير ، حيث فرض وجوده ، وقضى على كل مقاومة حاول الخيال مصادرتها ، وبذلها لاستعادة بعض ما فقد من أثر الصدمة ، فأصبح الواقع الجديد يملك مفتاح السيادة ، ويتحكم بتفكيره وعمله ، بحيث لم يعد بمقدوره اتخاذ أي قرار ، أو الإقدام على أية خطوة إلا في ظل هذا العالم ، وموافقته العلنية ، لكن ـ مع هذه السيطرة كلها ـ ظلت ثَمَّ نافذة صغيرة تلوح في الأفق البعيد ، تأتي من خلالها إشارات تومئ بعلاقة توافق ، وتقارب في الرؤى ما بين ماض سحيق وما حدث قبل قليل ، وهو أمر كان خافياً ، لا يظهر في الحالات العادية إلا أمام الباحث المدقق ، ذي النظرة الثاقبة . هذه النظرة يبدو أنه فقدها حيث غاب عن الوعي تماماً ! ومن المحتمل أن ركاب إحدى السيارات العابرة تطوعوا إلى تقديم ما يمكن تقديمه في مثل هذه الحالات ، وأسرعوا به إلى المشفى الوطني ، المطل على المدينة من فوق رابية ، يحف بها نهر قليل الجريان في الصيف . وهناك وضعوه في إحدى الغرف ، وهو ينتفض بين الحين والآخر ، وقد لازمه هذا العارض ، ولم يذهب عنه بعد تلقي العلاج . عندما جاء زملاؤه لعيادته كان بعض من أهله في الممر الضيق ، وبعضهم الآخر في الغرفة ، فحيوهم سريعاً ، وتحلقوا حول سريره ، فوقعت أبصارهم على جسده الواقع تحت سيطرة رجفة متوالية ؛ الأمر الذي دفع بأحدهم أن يسعى باحثاً عن غطاء يدثره به ، لكن عبثاً ، عندئذٍ اقترح أن يسرع الزملاء إلى تأمين ما يلزم ، وبعد نصف ساعة عاد اثنان بمدفأة كهربائية وأغطية ، وعلى الرغم من انتشار حرارة المدفأة ، وتدثره بالأغطية ، فإن الرجفة لم تفارقه إلا بعد حين ، حيث بدا أكثر هدوءاً ، وأصبح يتكلم ببطء شديد ، والكلمات تخرج من فيه متقطعة الأوصال كأنها قادمة من عالم آخر . |
08-أيار-2021
18-أيار-2008 | |
10-أيار-2008 | |
11-أيار-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |