Alef Logo
ابداعات
              

فصل 2 من رواية هذيان

فتحي فطوم

2008-05-18

2

لم يمر طويل وقت على إسعاف مسافر إلى المشفى الوطني ، ومعالجة الرضوض والكدمات التي وُزعت في جسده بشكل عشوائي ، وعلى الرغم من أن حالته العامة لا تزال حرجة ( كما قال الطبيب المعالج ) فإن ذلك لم يحل دون قيام الشرطة بالتحقيق معه لمعرفة ملابسات الحادث وظروفه .
لقد بدا هذا الاهتمام في غير مساره الطبيعي ، كأن المصاب من أصحاب النفوذ ، أو ابن أحد كبار المسؤولين ! لو كان الأمر كذلك فلا مشاحة في ذلك ، لكنه غير ذلك ، وهذا كان مصدر تعجب لدى كل مَنْ عاده في المشفى .
عند دلوك الشمس دخل عليه الغرفة شرطيان لأخذ إفادته ؛ فأحدث دخولهما خللاً في حركة الموجودين ، حيث اضطر جلهم إلى مغادرة الغرفة ، بما فيهم امرأة غريبة الهيئة ، شاحبة ،

زائغة البصر ، ( عرف ـ فيما بعد ـ مَنْ يجهلها أنها زوجه) ، ووقفوا في الممر الطويل الضيق يتحدثون عن الحياة والموت ، وهكذا أتيح للشرطيين أن يمارسا حريتهما ، فقعد الأول بتثاقل على حافة السرير المجاور ، وفتح دفتر الضبوط ، في حين انتصب الثاني قريباً منه ، بحيث بدا كأنه يشرف على رأسه مباشرة ، ثم تنحنح ، ووجه إليه السؤال الأول بلطف أهل الشرطة ، ومودتهم المعروفة ، وابتسم ابتسامتهم ذات الميزة الخاصة ، طالباً إليه أن يذكر ما شاهده قبل وقوع الحادث ، والأسباب التي أدت إليه ؛ فأجابه مسافر دون تلكؤ ، وبثقة بادية مثل مذيع نشرة الأخبار الرئيسة :
ـ إني رأيت بالعين المجردة أحد عشر خيالاً يشقون عباب الصحراء ، يطيرون فوق الكثبان الرملية ، يطاردون السراب ، شاهرين سيوفاً خشبية تلمع كالبرق في عتمة الليل ....
لم يدعه الشرطي يتابع سرد حكايته ، فلوح بالقلم إلى الأعلى والأسفل ، وهو يكز على أسنانه ، وفي الوقت نفسه يحاول أن يبدي حناناً من النوع الذي يمزج بين مهمة الشرطة وواجب الأبوة ، ثم قال له :
ـ يا أخ مسافر اهدأ وركز ...
وقبل أن يكمل عبارته رفع مسافر سبابته ، وهتف متسائلاً :
ـ مَنْ هو مسافر ؟
أجاب الشرطي :
ـ أنت اسمك مسافر .
تساءل مرة ثانية :
ـ هل حقاً اسمي مسافر ؟ وأنت ما اسمك الكريم ؟
قال الشرطي :
ـ حتى لا نطيل الحديث في شيء لا يقدم ولا يؤخر ، أقول لك إن اسمي هو ( مقيم ) .
ضحك مسافر ، وقال :
ـ غريب هذا الذي أسمع ! أنا مسافر ، وأنت مقيم ، يا محاسن الصدف ، بل الأضداد !
أجاب الشرطي وهو يضفي على وجهه مسحة من الحنان :
ـ تصور يرحمك الله ، أنت مسافر ، لكنك الآن مستلق على السرير ، وأنا مقيم ، لكني سأذهب فور انتهاء التحقيق ..... على كل حال هذا ليس هو الموضوع الذي يعنينا . الآن أنت مصاب ، خلينا مع الحادث وملابساته ، دعنا نعرف منك حقيقة ما جرى .
أجاب مسافر بطريقة غنائية :
ـ فعلاً خلينا مع الحادث خلينا خلييينا .... سأصف لك ما رأيت ....هذا يا أيها الشرطي المحترم مقيم ! سأروي لك ما حدث بالضبط ، دون زيادة أو نقصان ، وأطيع رؤسائي بكل ما يتعلق بذلك ، والسلطة التي تعطيها مسؤولة عنها .
فما كان من الشرطي إلا أن رفع يده إلى أقصى مدى معترضاً ، وقال :
ـ ما هذا الكلام ؟ أية سلطة ، وأية مسؤولية ! يا أخي ! إروِ لي حكاية ما جرى عند وقوع الحادث ... أرجوك .
نظر مسافر إليه بعينين نصف مفتوحتين ، ثم قال :
ـ طبعاً سأروي ، ولماذا لا أروي ؟ كنت عطشان ؛ فبحثت عن نبع ماء أروي عطشي ، أو جرعة تطفئ لظى الأحشاء ...
فقاطعه الشرطي مرة ثانية :
ـ عمَّ تتكلم يا أخي ! أرجوك ... لو سمحت اسمعني جيداً . أنا في مهمة محددة ، لا أريد أن أدخل في متاهات . أرجوك ركز معي جيداً ، وكلمني عن الحادث فقط ..... حادث التصادم ، ولا شيء غير الحادث .
حينها رسم مسافر ابتسامة واهنة على شفتيه ، وقال :
ـ اسمع أيها الشرطي المبجل ! مع أني لا أحب رؤية وجه أحدكم وهو كظيم ، سواء في وقت السلم أو الحرب ؟ لكني ـ من باب الإنسانية الخالصة ، واحتراماً لمشاعرك ـ سأتكلم . أنت قلت لي إنك في مهمة رسمية محددة ، هذا حسن ، اسمع إلى ما أقول جيداً ، ودونه في محضر الضبط ، دون زيادة أو نقصان ، لكن انتبه لن أوقع على المحضر إلا بعد أن أقرأ كل كلمة . أنا أعرفكم ، أحياناً تكتبون ما يحلو لكم . أنتم شرطة ، والشرطة في خدمة الشعب ، وليس الشعب في خدمة الشر ....
قاطعه الشرطي نزقاً :
ـ ما هذا الكلام ؟ أنت تريد أن تعلمني عملي !
وأضاف ساخراً :
ـ قل لي إن قريحتك انفتحت ، وتريد أن تسلخني بخطبة من تلك الخطب التي تقرع آذننا في الطالعة والنازلة ! يا عيني ! خلصني . يا روحي ! خلصني ، وبقْ تلك الجوهرة ، وأخبرني عمَّ جرى وصار .
ضحك مسافر ، ثم سأله :
ـ هل أنت واحد من كتاب الأغنية الجديدة ؟
تعجب الشرطي من سؤاله ، وحسبه يسخر منه ! فألقى عليه نظرة يتطاير منها الشرر ؛ فأسرع مسافر إلى القول :
ـ أرجو أن تفهمني ، فأنا جاد في سؤالي . أراك تقول كلاماً شاعرياً ، لو نظرت إليه من هذه الزاوية لأصبحت في عداد شعراء الأغنية الجديدة . أنت شاعر دون أن تدري ، انظر إلى قولك : " خلصني من عذابك خلصني ، يا روحي ! يا عيني! خلصني .
ردَّ الشرطي باستنكار :
ـ أنا لم أقل هذا يا رجل ! خلصني ...
هتف مسافر :
ـ ها قد قلت خلصني ... شفت !
عندئذٍ توترت أعصاب الشرطي ، فكور قبضته ، وأخذ نفساً عميقاً وهو ينظر حوله بغيظ ، لكنه لم يستمر على هذا الوضع طويلاً ، حيث أطبق أجفانه ، وظل ساكناً بعض الوقت ، ثم قال محذراً :
ـ انتبه إلى حالك ، وتكلم عن الموضوع .
أجاب مسافر :
ـ اطمئن ، سأخبرك حسب ما تسعفني الذاكرة . هذا يا مرحوم الوالدين ! بينما كنت أسوق السيارة ، متخذاً يمين الطريق ، رأيت ـ بالعين المجردة ـ سيارة مثل الفيل الأبيض قادمة من الاتجاه المقابل . كانت تطير بسرعة جنونية ...
قاطعه الشرطي مرة أخرى قائلاً :
ـ يا عيني ! يا مسافر ! ركز معي ، وقل كلاماً معقولاً . الفيل الأبيض وغير الأبيض لا يطير ، لا بسرعة جنونية ولا بغيرها . هذه من البديهيات ، فالفيل ليس من ذوي الأجنحة ، ثم إن حجمه كبير ، له خرطوم طويل ، وذيل قصير .
حملق مسافر في وجهه ، وزم شفتيه قبل أن يقول ساخراً :
ـ أنت يا مقيم ! قليل المعرفة . الفيل يطير ، ويطير بسرعة جنونية أيضاً .
ـ كيف يطير الفيل يا راعاك الله ؟
ـ هم جعلوه يطير . انظر حَوَالَيك سترى ـ بالعين المجردة ـ الفيل يطير ، والجمل يطير أيضاً .
هتف الشرطي :
ـ والجمل أيضاً !
ُثم همس متسائلاً :
ـ طيب .... والبغل ؟
أجاب مسافر :
ـ ها قد بدأت تفهم ، وتعي حقيقة ما يدور حواليك من أشياء ! كنت تحاول نكران حدوثها ، وأزعم أنك رأيتهم يطيرون في عرسه .
تساءل الشرطي :
ـ عرس مَنْ ؟
ـ عرس البغل طبعاً .
عندئذٍ امتلأ الشرطي غيظاً ، فرفع قبضته ، وضرب شيئاً وهمياً ، تخيله يقف قبالته بتحدٍ ! والتفت إلى الجهة اليمنى ، ثم إلى الجهة اليسرى وهو يحدر في كلامه :
ـ شغلة مثل البغلة ، فايته ببعضها ! أبوها حمار ، وأمها كديشة ، وهي عاقر لا تنجب .
وصمت قليلاً قبل أن ينحني فوق السرير قائلاً :
ـ يا مسافر ! اتركنا من حديقة الحيوانات . هذا ليس موضوعنا ، إن شاء الله كل دابة تطير ما تحط ، أنا ما علاقتي ؟
ثم استرد أنفاسه ، وأرسل كلمات هادئة متباعدة الحروف :
ـ أخـ بـررررني ، هل أنت مَنْ كان يسووووق السياااارة لحظة التصاااادم ، أم كنت بجاااانب الساااائق ؟
أجاب مسافر مستنكراً :
ـ أنت لا يحق لك أن تشك بصدق كلامي ! أنا هو الشخص الذي كان يقعد بجانب السائق ويسوق السيارة ، وقد رأيت ـ بالعين المجردة ـ تلك السيارة قادمة ، يسوقها رجل أهوج ، مجنون . أنا أقول الصدق : لقد رأيته بالعين المجردة ، إي نعم رأيته بالعين المجردة .
التفت الشرطي إلى زميله حائراً ! ثم أعاد النظر إلى السرير يتأمل جسد مسافر الممدد ، وقال نافد الصبر :
ـ كلامك على الرأس ثم العين . لو تكرمت وتعطفت قل لي : بربك كيف يمكن أن تفهمنا هذه المسألة المعقدة ؟ كنت تقعد جانب السائق ، هذه فهمناها ، لكن أن تكون في الوقت نفسه خلف المقود ، فهذه صعبة علينا أن نفهمها !
ـ لا صعبة ولا ما يحزنون ... المسألة بسيطة ، لا تحتاج إلى تفكير . سأشرح لك : هناك نوعان من السيارات ، سيارة يسوقها ـ في وقت واحد ـ اثنان وعشرون راكباً ، ليس بينهم امرأة ، وسيارة أخرى .....
قاطعه الشرطي صارخاً :
ـ أنت تريد أن تجعلني مجنوناً ! ما هذه السخافة ؟
ـ على مهلك يا رجل ! أنت ذكرت لي أن اسمك هو مقيم ، إذاً لا تستعجل عليَّ يا مقيم ! الكلام أخذ ورد ، كما يقولون . صدقني يا رجل ! أنا رأيت ـ بالعين المجردة ـ السيارة . إي نعم رأيت بالعين المجردة ...
وظل يردد هذه العبارة هنيهة ، ثم بدا كأنه تذكر شيئاً على درجة كبيرة من الأهمية ، فخاطب الشرطي :
ـ يا رجل ! أنا أحمد الله على أن السيارة لم تتابع انطلاقها ، وتعبر الحدود الشرقية .
هتف مقيم متعجباً :
ـ لم أفهم كيف تعبر السيارة الحدود !
ـ من قوة اندفاعها ، عندها ستحدث كارثة .
تساءل مقيم :
ـ ما نوع الكارثة ؟
أوضح مسافر :
ـ أنت لا تعلم حقيقة الأمر ، سأقول لك : لقد كان لدينا دولاب احتياط وكمية من الثلج . حلو الكلام !
مرة أخرى تساءل مقيم :
ـ ماذا تعني ؟ أوضح بحق الله .
ـ يعني كنا سنلاقي الموت ، وجهاً لوجه بكل تأكيد ، وعلى وجه الدقة ، كنا سنقتل ذبحاً كالنعاج بكل بساطة .
فغر مقيم فمه قائلاً :
ـ من أجل دولاب احتياط ، وكمية من الثلج ! هل هذا معقول ؟
أجاب مسافر وهو يضغط على كل كلمة تخرج من فيه :
ـ إي حبيبي ! من أجل دولاب احتياط وكمية من الثلج .
وصمت ، في حين رفع مقيم رأسه وهو يكاد يتميز من الغيظ ، ثم ضغط على الكلمات وهي تخرج من بين أسنانه شبه المطبقة :
ـ خلصني ، ماذا تريد أن تقول ؟ فما سمعته منك هو مجرد ترهات ! يعني أشبه بكلام المجانين ، لا بل قل كلام مجانين بحق وحقيق ! تتكلم عن دولاب ، وثلج ، وقتل ، وذبح . أنت تتخيل نفسك تعيش في غابة مليئة بالوحوش الكاسرة !
فما كان من مسافر إلا أن طلب إليه أن يهدئ من روعه ، ويتماسك قليلاً ، ويفكر معه بعقل سليم معافى ، ثم خاطبه قائلاً :
ـ يبدو لي أنك لا تعرف ما يحدث خلف الحدود . هناك يمكن أن يقوم بعضهم بقتل كل سائق يحمل في سيارته شيئاً مما ذكرت لك قبل قليل ... يعني دولاب احتياط ، أو قطع من الثلج . تقول لي : لماذا ؟ أنا أقول لك : إنهم يحسبون أن وجود دولاب احتياط في السيارة يعني انعدام التوكل على الله ، والإيمان بقدرته على حماية المسافر ، أما حمل الثلج فدليل على مخالفة السنة ، فالرسول كان يسافر ، ويغزو أيام القيظ ، يتحمل لهيب أشعة الشمس الحارقة ، والصحابة كذلك ، دون ثلج أو ماء بارد . ألم أقل لك قبل لحظات إنك لا تعرف ، والذي لا يعرف أنه لا يعرف ، فتلك مصيبة كبرى !
ثم أضاف بصوت خافت :
ـ يبدو لي أنك جاهل فعلاً بالتاريخ ، والجغرافيا ، والمناخ ! اصغِ إليَّ جيداً ، وفكر فيما أقول يا رجل ! ما لك فاغر فمك الذي يشبه المغارة العامرة بالصواعد والنوازل ؟ انظر إلى نفسك في المرآة . لو نظرت ستجد قدامك شرطياً أشبه بتمثال من الشمع ، له نظرات ساهمة ، وجسد جامد لا يبدي أية حركة .
كالمأخوذ أمام هذا المشهد ظل مقيم جاحظ العينين بعض الوقت ، ثم ما لبث أن شرع يرقص ، ويردد : " اثنان وعشرون راكباً ، ليس بينهم امرأة ، يسوقون سيارة ، والسائق لا يسوق سيارة ، والسيارة طيارة ، والطيارة سفينة .... " .
إذ بالشرطي الثاني يهب واقفاً ، ويصفق بحماسة وهو يرسم بنظره دائرة وهمية في فضاء الغرفة .
ضحك مسافر ، وهزَّ رأسه ، وقال بصوت أقرب إلى الهمس :
ـ هذا رقص مجانين ! ماذا يمكن أن يحدث لو قلت إن الطائرة تطير ، والقافلة تسير ، والشمس تشرق في النهار ، وتختفي في الليل ؟ سيفقد مقيم عقله بكل تأكيد ، ويشول بالبرية بعيداً بعيداً ، وربما تتقطع به الأوصال ، وتتشعب أمامه الدروب ؛ فيصبح اسمه في مكان ، وجسمه في مكان !
ثم أطبق شفتيه ، وصمت قليلاً يسترد أنفاسه . في هذه اللحظة تحرك أحد الموجودين من مكانه جانب الباب ، واقترب من الشرطي بحركة سريعة ، وانخرط يواكبه ، مقلداً حركاته الراقصة ، وظل على هذه الحالة بعض الوقت ، ثم راح يهمس في أذنه راجياً منه أن يتوقف عن الرقص ، ويؤجل موضوع التحقيق معه إلى وقت آخر ، يكون ملائماً له وللمسكين الملقى على السرير ، الذي ـ على ما يبدو ـ غير مدرك لما يقول ، ولفت نظره إلى أن سائق السيارة ذكر ظروف الحادث وملابساته بشكل دقيق . عندئذٍ توقف الشرطي عن الرقص ، وأطرق هنيهة ، ثم أشار إلى رفيقه أن يتبعه .
هكذا خرج الشرطيان من الغرفة على عجل ، تدفعهما رغبة بالفرار بعيداً بعيداً .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

فصل 2 من رواية هذيان

18-أيار-2008

فصل من رواية هذيان

10-أيار-2008

قصة / شكوى إلى صاحب المقام الرفيع

11-أيار-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow