نقد / قراءة في نص انبثاقات وحشية
2006-06-04
خاص ألف
بمثابة مقدمة :
عند قراءة هذا النص يداهمك العدم أينما التفت , فهو يلقي بالقارئ في أحضان عوالم ينعدم فيها الزمان و المكان , لكنها في آن واحد مشبعة بالدلالات , حتى أنه يخيل إلينا أننا موجودون ضمن ثقب أسود , ينعدم فيها كل شيء لكن المادة في أعلى حالاتها التكثيفية .
العنوان كمدخل لا بد منه :
يفاجئك العنوان بحركية لا ينبئ عنها النص , فمن صيغة التنكير و التي تفتح آفاقاً للمعنى , إلى المعنى ذاته , فكلمة انبثاقات الكفيلة ببسط غرائزها الدلالية و التي تتمركز حول محور الحركة , و الفوضى الحركية تحديداً , إلى كلمة وحشية التي تزيد من شدة الفوضى المتمحورة حول الكلمة السابقة لها , لنخرج بنهاية المطاف محاطين بهدير صاخب يحملنا إلى عوالم مجهولة .
و من المتعارف أن العنوان يحمل في طياته إخبارية دلالية ما لأي نص , لكنه في هذا النص – كنظرة أولية - غير متقاطع مع روح النص , أو غير منبئ عنه و يعود ذلك في رأينا إلى أمرين اثنين .
- الأول :
أن النص لا ينتمي أو لا يحمل قيماً إخبارية , فهو نص إبداعي معتمد في مجمله على تأملات فكرية فلسفية لا نمطية تأخذ منحاً هذيانياً .
- الثاني :
من خلال إلقاء نظرة تاريخية على الفكر العدمي , و الذي جاء تتويجاً لأفكار الفيلسوف الألماني نيتشيه , إنما كان في مجمله امتداداً للفلسفة الفوضوية و تأصيلاً لها , على حد قول الكثيرين .
إذاً
الكاتب يحاول الولوج إلى العدم ليس من زاوية الانهيار السلبي المرافق لتلك المفردة بل من خلال قمة الحركة , المتمثلة في العنوان , و لربما آلية الصياغة العدمية التي تبناها الكاتب كصياغة شكلية للنص , و المتمركزة حول اجتماع الأضداد - كما سيمر معنا لاحقاً - إنما يبرر ما نصبو إليه , من أن العدم لدى الكاتب ينبع في أصوله من القمة , و ليس من القاعدة حيث الحركة على أشدها .
النص :
يقسم النص إلى ثماني مقاطع رتبت حسب التسلسل الرقمي من واحد إلى ثمانية
( 1 )
يبدأ الكاتب المقطع بكلمة الليلة , و هي محددة بأل التعريف , بالإضافة لما تحمله كلمة الليلة من تقوقع و استكانة و انغلاق و هذا ما أشرنا إليه سابقاً حيث يقول :
" الليلةَ أرقدُ حيثُ قلبي بضآلةِ الشمــــسِ، ضامرٌ مثلَ المعتقداتْ "
و هذا التقابل بين الثنائيات الضدية ( ضآلة / شمس ) و ( ضامر / معتقدات ) نلحظها بشكل متكرر في النص , إذ أن الكاتب يعتمد على هذه التقنية في تقابل الأضداد , و التي لا تكاد تختفي من النص بأكمله , و نعتبره الأساس الذي اعتمد عليها الكاتب للولوج إلى العدم .
إن هذا التضاد المعنوي و التقابل بين الدوال المتضادة غني عن التعريف ما يقدمه للقارئ من انزياح للمعنى .
لكني سأشير إليها بدرجة صفر المعنى , لأن كلا المفردتين تنفي الأخرى , و تخلق معناً جديداً من العدمية الدلالية التي تنشأ من خلال هذا التضاد , إذ أنه من خلال هذه التقابلات الكثيرة , و التي سأدرجها عندما أتناول كل مقطع على حدا , أدى إلى الإدخال الإجباري للقارئ في عوالم عدمية تنعدم فيها الدلالة لتتشكل من جديد .
و يكمل المقطع إذ يقول :
" أصابعي خيوطُ حريرٍ تغزلُ شؤون الكارثـة، عيناي واسعتانِ حتى الانفجار، ضالتانِ مثل شعوبٍ بدائيةٍ، الليلةَ يستيقظُ الكهنةُ، كانبثاقاتٍ وحشيةٍ، كمفاهيمَ مُجرَّدةٍ، من حلمٍ أخير: سبايا يتبادلْنَ ضراوة الأنوثةِ وملوكٌ يناصبون عبيدهم ورداً وزنىً. "
نجد هنا أن بعض التقابلات أصبحت أكثر ألفة , أو أقل تضاداً ( واسع / انفجار – ضال / شعوب بدائية ) على الرغم من وجود التقابلات التضادية ( حرير / كارثة – ضراوة / أنوثة – ملوك / عبيد – ورد / زنى )
و إن دققنا أكثر سنجد جملة انبثاقات وحشية , متوسطة للمقطع و محورية فيها و التي أشرنا إليها عندما تحدثنا عن العنوان و الحركية التي تحملها .
و من خلال هذه الرؤية سنرتب المقطع الأول على الشاكلة التالية
الافتتاحية :
ثنائيات بطريقة صفر المعنى ( عدمية )
المقطع:
و هكذا يبدو أن الكاتب يقوم على إحاطة الحركة بهالة من العدم في هذا المقطع , و إن دل هذا الترتيب على شيء إنما يدل على عدم اقتناع الكاتب بعد بهذه الحركة , أو أنها مازالت في طور عدم التأثير محاطة بالعدم كما يريد أن ينقلها إلينا .
و ما يلفت الانتباه في هذا المقطع صياغة الجمل إذ جاءت كلها جمل اسمية .
أما الأفعال الموجودة ضمن المقطع فهي في محل رفع خبر للمبدأ الذي يسبقها , و هذه التقنية تفيد في التوصيف , و هو ما نحن بصدده , إذ أن الكاتب يقوم بافتتاحية وصفية يصف فيها حاله , و ما يدور من حوله , مهيئاً لنا الجو و منبئً عما سيحدث , و هذا المقطع جاء بمثابة الهدوء السابق للعاصفة .
كذلك الأسماء تكون خالية من الزمانية و الحركة , و بالتالي تفيد فيما نصبو إليه من الحركية المحاطة بالعدم .
( 2 )
إن عدم اقتناع الكاتب بالحركة الموجودة و جدواها , و التي وصفها في المقطع الأول , يجعله باحثاً عن الخلاص في عالم الموتى , حيث يغلق الوقت و الزمن كي يتسنى له استخلاص العبر من ذاك العالم .
و هو عالم لا كما نتصوره يلوذ بصمته , بل يعج برائحة العفونة , حديث الموتى الأزلي .
و هو قلب للمفاهيم المقولبة التي نمارسها , و نظرة تأملية جديدة للموت .
فالياسمين و هي إحدى مفردات الحياة - بل الأكثر حيوية - بدلالتها المتعددة ( ربيع – حياة – جمال – طيب – أريج – تجدد ) تقترن بالظل و ما تستدعيه من دلالات ( سكون – عتمة – تقوقع – هدوء )
فهو يقول : " ظلال مثقلة بالياسمين "
بينما الموت و ما يحمله من دلالة ( اليباس – القماءة – الرائحة الواخزة – السكون ) تقترن بمفردات من أمثال ( ذكية – باذخة – جديرة )
هذا القلب الواضح للمفاهيم , و الاقتران المقصود بآلية صفر المعنى , التي سبق ذكرها , إنما مقصودة من قبل الكاتب , كي ندخل أكثر فأكثر لنغوص في عالمه العدمي , لكن ليس من نظرة تشاؤمية - كما سيتضح لنا فيما بعد – في المقطع الثالث عندما يفتتحها بقوله : " الآن يختلق الموتى أوقات العدم مرة أخرى "
فالخلق هو المبتغى المرجو من أولئك الموتى , فالكاتب يقوم على إعادة النظر في المفاهيم السائدة , و كسر التقليد ابتغاءً لولادة ما .
( 3 )
كما سبق و أن أشرنا أن المقطع الثالث يفتتح بجملة " الآن يختلق الموتى أوقات العدم مرة أخرى "
وهذه الجملة تحمل حركية لا تتوافق مع الموت , بإدراج كلمتي ( يختلق – أوقات ) و هذه الحركية ضرورية , لأن الكاتب سوف يستنطق الموتى الساخرون من الحياة و من الأحياء .
" ويهتفونَ في طبقاتِ الأرضِ السبعةِ، أنتم رطوبةُ الأزليِّ بين أضلاعِ آدم وجدرانٍ لا مرئية، أنتم سيرةُ الوقتِ، سيرةُ الرمادْ، أنتم حيضُ الآلهات الغزير وهي تروي خصية القداسة المخبّأة منذ الأزل في أودية الله. "
و جدير بالذكر هنا كلمتي ( أضلاع آدم – حيض ) و التي تفتح المقطع على أفق أنثوي , لما تحمله الكلمتان من استدراج للأنوثة من خلال أسطورة آدم و تشكل حواء من ضلعه , و العملية الفيزيولوجية التي تخص النساء .
إن هذا المعنى السلبي للأنثى , كما جاء هنا من خلال سخرية الموتى , نرده إلى النظرة السلبية في اللاوعي الجمعي لدى المجتمعات الذكورية .
أو من خلال قلب المفاهيم التي يضعنا الكاتب أمامها في كل مقطع , إذ أنه بات من المتعارف عليه أن الأنثى تحضر القصائد ضمن بوتقة الجمال الخالص , بينما هنا اصطبغت بدلائل سلبية .
كذلك نرد تلك النظرة السلبية ربما إلى واقع مجتمعاتنا , التي تسبح في مستنقع العواطف اللامنتجة , و التي تؤدي إلى حالة من اليأس , و غير خاف على أحد مدى ارتباط القيم العاطفية بالأنثى في الذاكرة الجمعية لمجتمعاتنا , و إننا منحازون إلى هذا الرأي الأخير , بسبب ما سيأتي من تأكيد على هذه الرؤية من خلال المقاطع التي يليها .
( 4 )
في هذا المقطع نلاحظ أمران اثنان .
أولهما :
تحول الجمل من جمل اسمية إلى جمل فعلية , و هذا التحول نلحظه في المقطع السابق أيضاً , لكن في بدايته فقط , و الملاحظ أيضاً أن الأفعال أفعال مضارعة , و بذلك نكون أمام حدث في الزمن المضارع يحمل بين طياته الاستمرارية .
ثانيها :
المقطع يتكون من ست جمل , ثلاثة منها منفية بأداة الجزم لم , و ثلاثة توكيدية , جاءت كأجوبة للجمل الثلاث الأولى , و سأرتب المقطع على الشكل التالي :
لم تأخذني الرغبةُ إلى حيثُ ما شئتْ أرقبُ النصف العاري من ضلالات الثديِّ
لم أدخل كهف أفلاطون ومن بعيدٍ بعيدٍ جدا ًأسمعُ صوتَ ذوبان الشّمع في منازلِ الغربةِ
لم أخرج منه بعدُ أُدَحْرِجُ ميراثَ الإنسانِِ من سفحِ خطيئتهِ إلى أبوابِ مجدهِ
و إن ما جعلنا نرتبها على الشكل التالي , و اعتبار الجمل الثلاث الأخيرة أجوبة للجمل الثلاث الأولى إنما هو الآتي :
نلحظ الترابط بين الرغبة و الثدي العاري , كما هو ملاحظ في الجملتين الأوليتين , كما رتبناها , كذلك عدم الدخول و السماع من بعيد , كمن يبحث عن شيء ما و يهتدي بالصوت , و في الثالثة لم أخرج , و يأتي التساؤل المنطقي , إذا ماذا أفعل؟ و يأتي الجواب عن طريق الفعل أدحرج , كما هو موضح في الشكل السابق .
و سيقول قائل لماذا كل هذا التعقيد , و هذا الترتيب من قبلنا سنقول لأولئك التالي:
إن الحدث كما هو واضح في الزمن الحاضر , و يحمل الاستمرارية بعد , و هذا ما يدل عليه الصياغة المضارعة للأفعال , و غني عن التعريف أيضاً ما يحمله الآن من معاني لدى الفلسفة الوجودية , إذ أن الآن هو الوجود الحقيقي كما أوضحه لنا أغلب الفلاسفة الوجوديون من قبل , و ربما الكاتب لا تنقصه البديهة بالتركيز على الآن من أول النص إلى آخره , لكنها أوضح ما تكون هنا , فهو في المقطع السابق يفتتح المقطع بها , و في المقطع الأول يفتتحها بكلمة الليلة , كما ذكرنا و هي تحمل بين طياتها الحاضر .
و غني عن التعريف ارتباطات الوجوديين بالفلسفة العدمية .
كذلك لو دققنا أكثر في النفي للجمل الثلاث الأولى , و التأكيد الذي أتى فيما بعد , سنلحظ ثنائية العدم و الخلق من جديد حاضرة و بشدة هنا .
و مما نلحظه البعد الجنسي للرغبة و اللاشعور لدى الكاتب , و هو المحرك الأساسي للإبداع و الفن و لحركية الكاتب هنا .
كذلك رفضه للجانب المثالي من فلسفة أفلاطون , فهو لم يدخل الكهف بعد و هناك بعد شاسع بينه و بين هذا الكهف , و الشمع يذوب , فإنه لو وصل ربما لن يدرك الشمع , لأنه ربما يكون قد ذاب , بينما نلحظه مصراً على الجانب الواقعي من فلسفته , فهو يدحرج ميراث الإنسان من بداية الخطيئة في كهف أفلاطون نفسه ,
و لو ربطنا ضلالات الثدي في الجملتين الأوليتين , مع سفح الخطيئة في الجملتين الأخيرتين , لتبين لنا أن الكاتب يرقب الواقع , و هو ما يتمناه , و المتمثل في الخطيئة قبل الصواب .
و هذا ما أود الإشارة إليه هنا إذ أن الكاتب متصالح مع الخطيئة متآلف معها و هذه أيضاً من أحد ركائز الفلسفة الوجودية و لعل أزهار الشر لبودلير خير مثال عما ندرجه .
هذا التآلف مع الخطيئة , يقودنا مرة أخرى إلى النظرة السلبية للأنوثة , و الموضحة في هذا المقطع من خلال ضلالات الثدي , و التي تقودنا إلى التصالح مع الآخر بسلبياته و إيجابياته , و قبول الآخر على أساس وجوده كما هو لا على أساس تخيلنا له .
( 5 )
في هذا المقطع يحدثنا الكاتب عن الماضي و يتضح ذلك من خلال كلمة أمس , مستخدماً صياغة النفي لما هو الآن ( لا يبدو ) مع استخدام الثنائيات الضدية ( أرحب / أضيق ) بينما نجد صياغة توكيدية للأمس و إن توكيد الماضي يعني في نهاية المطاف نهاية له لأن الفعل قد زال حيث يقول :
" هذا العالمُ الخرافيُّ ـ لا يبدو ـ أرحبَ من مخّيلةِ الفراشاتْ، أو أضيقَ من سرير الغربةْ، أمسِ قد هيّأتُ سريراً مباحاً، للحلمِ، للعشقِ، للموتِ، للهزيمة.
و في رأينا أن المقطع لم يأتي إلا لتأكيد ما قد ذهبنا إليه في المقاطع السابقة , من حالة ازدراء للعاطفة و العشق , و اتباعهما بالموت و الهزيمة , و تخطٍ له إلى لحظة الحاضر , ( الآن ) و تقبل الواقع المحاط بقيم العولمة , و تقاسيمها المبنية على لغة الأرقام .
( 6 )
يخدم نفس فكرة المقطع الخامس من حيث المعنى , بتخطي الأمس المبني على العطاء الغير محدود للعابرين , و الاقتراب من الواقع الذي يرفض تلك القوانين المباحة على أساس من العاطفة .
( 7 )
يقوم الكاتب على تأكيد رؤاه , بعدما حضّر الرؤية تلك بالحاضر و الماضي مؤكداً على الخطيئة كأساس لتلك الرؤيا إذ يقول :
" لائقاً ليكن النزفُ، ذريعاً ليكن صوغُ النّهدِ على أنوال اللغة، وكداعيةٍ يعبثُ بالمصائرِ، مُؤيَّداً بالحلمِ، أرفعُ عن كاهل الجمال وسائدَ اللذّةِ، "
مبيناً السبب في ذلك حيث يقول :
" شعوبُ الأرضِ هي ذاتُها متخاصمة حول الرماد، شعوبُ الأرضِ هي ذاتُها متخاصمة حول الرماد. "
( 8 )
يقوم الكاتب بدمج الماضي و الحاضر و المستقبل , بل و المستقبل البعيد , مجيباً على التساؤلات المطروحة في المقاطع السابقة , و كأنه يلخص ما قاله , رامياً نبوءته على وجه المستقبل البعيد , مؤكداً على محور العدمية , التي من خلالها يمكن أن نخلق الجديد حيث يقول :
" ، بعد غدٍ يُشرِكُ الموتى بعزلتهم، بأزلٍ يسرُدُ عبثَ الجمالِ وعذاباتٍ أخرى، بعد غدٍ يرتبكُ الموتى من رأفةِ الحلمِ، لهم أجمعُ رملاً كثيراً، لهم أستعيدُ نضارة السّيف، رعونة الماء، فخصوبةُ الوهمِ. "
-ماذا بعد
هذا النص يحمل الكثير الكثير من القراءات , و الكثير الكثير من الدهشة , من خلال الصور المكثفة بطريقة تكاد تنفجر , مع رؤية حقيقية للواقع , و تآلف مع الخطيئة لاجتلاب الصواب .
النص صياغة تآزرية مع الكلمات في المعنى , مع أجواء تحتفل بتوترية هادئة , تختلس الوقت , كي تندس بين الرأفة و الشراسة , مضرمة النار في أكثر التوازنات استقراراً , معلنةً الحرب على ما هو سائد .
08-أيار-2021
15-آب-2006 | |
30-حزيران-2006 | |
25-حزيران-2006 | |
13-حزيران-2006 | |
04-حزيران-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |