نقد / تاريخيّة بعيون أدبيّة
2006-06-24
خاص ألف
"الأحمر والأسود" لستندال
حين تصبح الرواية أكثر صدقا من التاريخ
على سبيل البداية :
الرواية كفنّ قديم بمفهومه الواسع(كتابة ومشافهة)، تجسيد للحياة بكلّ تمظهراتها واستغوار للذات الإنسانيّة في أدقّ دقائقها وأقصى/ أقسى تفاصيلها. وهي كجنس أدبيّ ترد وتستفيد من باقي الأجناس الأخرى، فتقطف من الشعر عذوبة لغته وماء صورته، ومن القصّة دقتها وتقنيّة استثمارها المركّز للأحداث، ومن المسرح حواريّته وتفاعل شخوصه قولا وجسدا، فتنزع (أي الرواية) بذلك إلى إخراج فنّيتها في دقّة التصوير المتناهية، والاحتفاء المتواصل بالتفاصيل والجزئيّات، وبراعة سبك الظروف الذاتيّة
والموضوعيّة المحيطة بشخوصها، ثمّ النسج والتوليف بين هذه التقنيّات بتوسّل لغة شفيفة تجيد الانتقال بين الشعريّة الراقية والنثريّة المباشرة، بما تمليه الضرورة الفنية أو الخِطابيّة، فتعرف متى توجز ومتى تفيض، متى تصمت ومتى تثرثر، متى تشرح ومتى تلوذ بالبياض..
إنّ الرواية بكلّ هاته الهالة التي تملكها، تكاد تكون هي الجنس الأدبي الوحيد الذي يجيد تصوير الحياة ومحاولة فهمها أيضا كما يقول ميلان كونديرا : ( الأمر الوحيد المتبقي لنا أمام هذا الفشل العضال الذي أسمّيه الحياة هو أن نحاول أن نفهمها، وذلك مبرّر وجود فنّ الرواية)، وهي بتعبير د.هـ. لورنس ( أعظم اختراع اجترحته البشريّة).
وعليه فإنّ كتابة الرواية تعدّ مغامرة غير مأمونة العواقب،لاسيما حين يتعلق الأمر بغياب إحدى تقنياتها أو سوء توظيفها، أو حين يكون منجزها صالحا لأيّ جنس آخر إلاّ الرواية، هذا ناهيك عن خطورة انعدام الّنضج الحياتيّ واللغويّ، والاطلاع المعرفيّ الواسع في شخص الروائيّ، واللذان يجعلان الإقدام على المغامرة الروائيّة قد تتكشف - في حالة توافر الشروط الحقيقيّة- عن تحفة ترتفع إلى مرقى "الأدب الكوني" بتعبير غوته، أو تنخسف
- في حالة العكس- إلى درك " اللاّأدب" بتعبير الفشل..
وعلى ذكر "الأدب الكوني"، فقد سجّل لنا التاريخ أعمالا روائيّة تجاوزت زمكانيّتها بنفس الألق والإشعاع، بل وأصبحت تتجدّد تأويليّتها كلّ مرّة بشكل يشي بعظمة أصحابها وندرتهم،
يقول نيتشه:( تبقى الأشياء العظيمة للعظماء والأغوار للسابرين والارتعاشات الرقيقة للمرهفين وجملة وتفصيلا: يبقى كلّ نادر للنّادرين) وهي مقولة تنطبق جملة وتفصيلا
-أيضا- على الرّواية.
من بين هذه الأعمال الخالدة، يمكن الحديث على سبيل المثال لا الحصر عن " أنا كارينينا"
و " الحرب والسلم" لتولستوي، " دون كيشوت" لميغيل دي سيرفانتيس، " مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير، "الآلهة عطشى" لأناتول فرانس،" البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، " أوليسيس" لجيمس جويس، و"الأحمر والأسود" لستندال، التي نخصّها بهذه الدراسة، راجين أن تكون في مستوى تطلعات المتلقي.
وقفة مع التاريخ :
يعتبر ستندال من بين أهمّ الأدباء الواقعيّين في القرن 19م، إلى جانب أسماء أخرى من قبيل: بلزاك و هوجو وغيرهما، وقد قال عنه أحد المفكّرين: " لا يوجد من استطاع أن يعلّمنا كيف نفتح عيوننا وننظر أفضل من ستندال".
ولد ماري- هنري بيل، (أو ستندال، وهو بالمناسبة اسم مستعار استعمله الكاتب من بين ما يناهز مئتي اسم مستعار آخر لظروف سياسية/ قهرية تاريخئذ) في غرينوبيل الفرنسيّة في 23 كانون الثاني 1883، وتوفي في باريس في 23 آذار سنة 1842، تلقى تعليمه في مسقط رأسه، كان ضابطا في جيش ناب
ليون أولا في إيطاليا، ثمّ في ألمانيا، وروسيا، والنمسا، من عام 1800 إلى عام 1802، وكذلك من عام 1806 إلى عام 1813.
بعد أن أمضى في إيطاليا سبع سنوات متابعا اهتمامه بالفنّ، والأدب، والموسيقى، أجبر على تركها سنة 1821، لأنّه كان حسب تقارير البوليس النمساوي " عدوّا للدين، ولا قيم له، وخطرا على النظام". كرّس نفسه للكتابة الجادّة في باريس ما بين 1821 إلى 1830، بما في ذلك الكتابات النقديّة في الصحف البريطانيّة، والسيرة الذاتيّة، والرواية، عيّن قنصلا لفرنسا في تريستا، وبعدها في ميناء صغير على مقربة من روما، وذلك في أعقاب ثورة تمّوز 1830، وبقي هناك إلى حين وفاته.
وقد لعبت الحقبة النابليونيّة دورا كبيرا في تكوين شخصيّته، وانعكست في رواياته كلها تقريبا، بل إنّ حياة ستندال كانت تمشي جنبا إلى جنب مع حياة نابليون، انخرط في حملات هذا الأخير الموجهة للنّمسا كملازم ثان، ثمّ الحملة الموجهة إلى روسيا، فألمانيا، ومن ثمّ استطاع ستندال التعرف على العالم، والدنوّ من مثاله الأعلى وقدوته الشخصية " نابليون"
( سينتقد حكمه في ما بعد لأنّه خيّب آماله و جنح بالثورة عن مبادئها وروحها، وهو السبب الذي من أجله هام به بداية). وقد مكنته تجربة الحرب التي شارك خاضها في هدم بعض يقينيّاته في ما يتعلق بالمغامرات العسكرية، حيث كان يتصوّرها مفعمة بالبطولات والأمجاد، فإذا به يكتشف أنها قد تنطوي على العكس، وهو الأمر الذي سيتناوله بالذكر في يوميّاته سنة 1808.
كان ستندال قارئا نهما وكاتبا نشطا، ترك الكثير من الآثار، منها ما نشر في حياته، ومنها ما جمع ونشر بعد وفاته مثل: " يوميّات معجب بذاته"، و " تاريخ فنّ الرسم في إيطاليا"،
و" يوميات سائح"، و " حول الحبّ". أمّا رواياته فهي: " أرمانس" 1827، و " الأحمر والأسود" 1831، و " دير بارم" 1839، ومجموعة قصص عن إيطاليا 1839، ومخطوطتا الروايتين الناقصتين " لامييل" و " لوسيان لوفان".
لقد عرّى ستندال بفلسفته الساخرة (ظهرت إرهاصاتها منذ روايته الأولى" أرمانس") المجتمع الفرنسي وشرّحه، فأعمل فيه مباضع النقد ومشارط الفضح من خلال مجمل أعماله، وفي قائمتها روايته الأشهر "الأحمر والأسود" أو كما ذيّلها بعنوان فرعيّ " وقائع عام1830"، وقد بدأ هذه الرواية عام 1829 تحت عنوان " جوليان"، حيث استقى أحداثها من وقائع حقيقيّة لمحاكمات شهيرة عرفت على نطاق واسع في فرنسا، خاصّة محاكمة شابّ
( ابن حدّاد) حدثت سنة 1827 في مسقط رأسه بغرينوبيل.
ماذا تقول الرّواية ؟
إنّ "الأحمر والأسود" - كما ورد في الكتاب- يعبّر عن الصّراع بين روح الثورة العسكريّة
( التي يرمز إليها اللون الأحمر)، وروح التقوى الدينيّة( كما يرمز إليها اللون الأسود)، وبين هذين الحدّين يتأرجح بطل الرواية "جوليان سورال" وهو ابن نشار، نشأ في وسط فقير جدّا إلاّ أنّه استطاع- بفضل دهائه وسعة حيلته- أن يفرض نفسه على الأوساط الراقية في المجتمع الفرنسيّ. ثقافته ونزوعاته الشخصيّة تتوزع بين محاولته ولوج السلك الكهنوتي، واستلابه من قبل الحياة العسكريّة(نموذج نابليون)، بين هذا وذاك عمل كمربّ للأولاد عند عائلات ميسورة في الريف أوّلا، ثم في باريس. في هذه المدينة يحقق جوليان طموحه، فيصبح ضابطا في الجيش، ويعتزم الزواج، لكنّ مشغلته وحبيبته الأولى تتدخّل بدافع الغيرة، وتحطم أحلامه، فيفقد أعصابه ويطلق عليها النار في لحظة غضب، وتنتهي الرواية بإدانته والحكم عليه بالموت.
إنّ ما يهمّنا هنا، وبعد هذه النبذة الموجزة عن مضمون الرواية هو مقاربة الأسئلة التالية:
إلى أيّ حدّ استطاع ستندال أن يكشف الوجه الحقيقي لإنسان القرن 19 الفرنسيّ؟ وهل تمكّن من رصد مظاهر الزّيف والنفاق ، وادّعاء المكانة والحصانة الاجتماعيتين والسياسيتين ، اللتين تخفيان وراءهما خواءً ثقافيّا وأخلاقيا ودينيا فادحا؟ ثمّ إلى أيّ حدّ كان ستندال بارعا في بث أفكاره ومواقفه من مجتمع القرن19؟ وهل تحقق لرواية الأحمر والأسود- فعلا- ما قيل عنها من كونها أوّل تراجيديا عصرية بأسلوب روائيّ، وأوّل كوميديا لاذعة؟
وقد ارتأينا في قراءتنا المتواضعة هذه، المرور عبر النقط التالية:
1- " الأسود" في رواية ستندال، أو مظاهر الحياة الدينية في المجتمع الفرنسي إبّان القرن19:
لقد ابتنى ستندال شخصيّة بطل روايته بناء سايكولوجيّا محكما، وجعلها تنطوي على مظاهر الخبث والاحتيال، رغبة منه في تمزيق القناع الذي يلتحم به إنسان المجتمع الفرنسيّ، فالدين ليس إلاّ وسيلة لتحقيق المآرب وتفادي الضرر المادّي والمعنوَي. يخاطب السّيد رينال، جوليان بطل الرّواية:
" ولكنّك نظرت إليها أيّها الحقير؟" (يقصد زوجته السيّدة رينال)،فيردّ عليه جوليان:" أبدا فأنت تعرف أنّني لا أرى في الكنيسة إلاّ الله، أضاف جوليان بشيء من الخبث الهادف إلى تجنيبه عودة الضربات على رأسه" ص38، وكسبا لودّ الراهب شيلان ثمّ ضمانا لمستقبله
" حفظ(جوليان) عن ظهر قلب كلّ "العهد الجديد" باللاتينيّة، وكان أيضا يحفظ كتاب عن "البابا" لجوزيف دوميتير، ولم يؤمن بأحدهما أكثر مما يؤمن بالآخر" ص42، ونزوعا إلى المجد والثروة " لم يكن جوليان يظهر أمامه(أي الكاهن) سوى مشاعر التقوى، من كان يمكنه أن يتنبّأ بأنّ ذلك الوجه الشاحب والناعم كوجه فتاة كان يخفي تصميما راسخا على أن يجازف بالموت ألف مرّة لكي يحصل على الثروة" ص52، والانخراط في الدين(السلك الكهنوتي) ينفي بالضرورة ما عداه، هذا جوليان يردّ على السيّد رينال حين سأله،إن كان يحفظ شيئا للشاعر هوراس:" لقد منعتني الكنيسة من التي أكرّس نفسي لها من أن أقرأ شاعرا دنيويّا كهذا" ص80، وشيئا فشيئا يكتشف جوليان مظاهر استغلال الدّين وتوظيفه من قبل رجاله وحماته، فيثور: " أيّ احترام حقير لرجل ضاعف ثروته مرّتين،بل ثلاثة منذ أن بدأ يشرف على أموال الفقراء، إنّني أراهن أنّه يجني أرباحا حتى من الأموال المخصّصة للأولاد اللقطاء(...) إنّهم وحوش،وحوش" ص84، ويدرك "أنّه يعيش في المدرسة الإكليريكيّة تناقضات رهيبة : هناك مظاهر التقوى والفضيلة والمحبّة من جهة، والحقد والكره والطمع من جهة أخرى، التعاليم المتسامحة من جهة، والخصومات التي تبلغ حدّ العداوة الشرسة من جهة أخرى" ص284، ويظلّ جوليان(أو ستندال بالأحرى) على لهجته الساخرة من الحياة الدينيّة حتى وهو قاب قوسين أو أدنى من الموت، حين يتحدّث إلى صديقه: " إنّ أعضاء أخويّة بيزانسون الرهبانيّة الطيّبون يكسبون المال من كلّ شيء، فإذا عرفت كيف تتعامل معهم فإنّهم يبيعونك جثتي.." ص610.
لقد استطاع ستاندال النفاذ إلى أدقّ التفاصيل والممارسات الفصاميّة التي يعيشها رجال الدّين في المجتمع الفرنسيّ وقتئذ، بأسلوب لاذع وساخر يثير الهزء والشفقة في نفس الآن، متمثلا بذلك مقولة لافونتين " أعملُ على أن تبدو النقائص مثيرة للسخريّة مادمت لا أستطيع أن أهاجمها بساعدي هرقل".
2- "الأحمر" في رواية ستاندال، أو مظاهر تأثير الحياة العسكريّة على الحياة العامة في مجتمع القرن19:
لم يخفِ ستندال تعلق وهيام إنسان المجتمع الفرنسي بالحياة العسكريّة باعتبارها مظهرا من مظاهر السلطة والوجاهة الاجتماعيّتين، ومجلبة للاحترام والحبّ والرهبة في نفس الآن،ويظهر ذلك من خلال استحضار النموذج العسكري التاريخي(نابليون)،فقد عمّر ستندال قلب بطله بهذه الحياة وهذا النموذج " في جميع مراحل شبابه الورديّة كان قد تخيّل بأنه ما من سيّدة حقيقيّة ستتكرّم بالحديث معه إلاّ بعد أن يلبس البزة العسكريّة" ص64، فأصبح يجدّ ويجتهد في قراءة كلّ ما يتعلق بالحياة العسكريّة بشكل خفيّ، لاسيما و أنّه معروف وسطه الاجتماعيّ بأنّه سليل تربية دينيّة صارمة " عندما رنّ جرس الغذاء كان قد نسي في خضمّ قراءته ل" يوميّات الجيش العظيم" كلّ انتصارات الأمس" ص146،فكان لا يجرؤ على الحديث عن الحياة العسكريّة بأيّ شكل وفي أيّ ظرف كان، كما لم يكن يقدر على التخلص من حبّه لنموذجه " فإنّ أحدا لم يكن باستطاعته أن يكشف تعلق جوليان القديم بنابليون، وهو لم يكن يتحذّث عنه إلاّ بالسّوء" ص82.
سيظلّ جوليان على عشقه للسلك العسكري إلى أن ينتقل إلى باريس، فيسقط في حباله ابنة إحدى الشخصيّات العسكريّة المرموقة في المجتمع الباريسي، ومن خلالها يتسلق سلم المجد ويحقق طموحاته بالانخراط في الحياة العسكريّة، والتعبير - دونما خوف- عن ميولاته إلى السلطة والوجاهة، وسوف لن يتردّد ستندال في تحميل شخصيّة بطله بأبعاد ثوريّة وفيّة في عمقها لروح الثورة الفرنسيّة 1789، رغم ما قد يبدو للوهلة الأولى من أخلاقيات تناقض ذلك من خلال الرواية مثل الاحتيال، والخبث، واللاوفاء، وهي الضمانات التي تعضد نجاح جوليان في مساعيه، على عكس شخصيّة ستندال في الواقع، والتي كانت جريئة، مواجِهة، بشكل جعله يتعرض لمضايقات شتّى.
عموما، رغم أنّ ستندال أبرز بشكل واضح تعلق بطل روايته بالحياة والنموذج العسكريين، فإنّ ذلك لم يمنعه من انتقاد الخواء الثقافي، والمعرفي، والقيميّ، والإنسانيّ الذي تمتلئ به هذه الحياة العسكريّة، الأمر الذي جعلها تؤسّس اعتباريّتها على مظاهر الزيف والنفاق والترهيب بالسلطة، وهو ما يكشف أنّ احتفاءه بنموذج نابليون لم يكن حاضرا إلاّ باعتباره نموذجا للطموح القوي، والسلطة الواحدة، والإقدام الجريء في سبيل تحقيق الغاية( أشرنا سابقا إلى أنّ ستندال سيعيب على نابليون تنكره لمبادئ وروح الثورة، بإعلان نفسه إمبراطورا وتجاوزه للدستور و حقوق الإنسان اللذين جاءت بهما الثورة الفرنسية)، وهنا تتكشف لنا الرواية على مبدأ " الميكيافيليّة" الذي يطبع توجهات ونزوعات البطل، رغم أنّ ستندال لم يصرّح به مباشرة، إلاّ أنّ المتلقي يمكن أن يقرأه بسهولة بين ثنايا الأحداث.
في الحقيقة لم يكن ستندال الروائيّ الوحيد الذي تناول مظاهر الحياة العسكريّة الفارغة والمزيّفة في مجتمعه ( خاصة النموذج النابليوني)، فهناك أدباء عالميّون برعوا كذلك في تصويرها، ويكفي أن نشير إلى تولستوي في رائعته " الحرب والسلم"، ولو أنّ هذا الأخير يختلف في نظرته لنابليون عن ستندال بالرغم من اعترافه بتأثير ستندال عليه.
3- الميكيافيليّة تبرّر الانتقال بين "الأحمر" و" الأسود" في مجتمع القرن19:
بعد الوقوف على الحياة الدينيّة والعسكريّة في "الأحمر والأسود"، بقيت الإشارة إلى مظاهر التأرجح والتقلب التي عاشها بطل الرّواية بين تًيْنِكَ الحياتين، تبعا لما تفرضه- ليس القناعة والمبدأ- وإنّما الغاية والمصلحة والطموحات عموما، فبينما كان جوليان شابّا في الرّيف، وكان يسعى إلى التخلّص من سلطة والده ومن قبضة الفقر، وبما أنّ مهنة "المربّي" التي عرضت عليه تتطلب التزاما وانخراطا دينيّا معيّنا، فقد " توقف جوليان عن الحديث عن نابوليون، وأعلن عزمه على أن يصبح راهبا، وأصبح يشاهد على الدّوام في منشرة والده، منكبّا على أن يحفظ غيبا نسخة من التّوراة باللاتينيّة، كان قد أعاره إيّاها الكاهن" ص54،
وبما أنّ غاية طموحه تحقيق الثراء السريع، فقد أصبح من السّهل تغيير اختياراته بين اليوم والآخر" عندما جعل بونابارت الناس يتحدّثون عنه، كانت فرنسا خائفة من أن يحتلها أحد، كانت الجدارة العسكريّة ضروريّة، وكانت الموضة السائدة، أمّا اليوم فإننا نرى رهبانا في الأربعين من عمرهم يتقاضى واحدهم(…) ثلاثة أضعاف ما يتقاضاه قادة الجيش عند نابوليون(…) يجب إذن أن أصبح راهبا" ص54،وبما أنّ المواضعات الاجتماعيّة تحدّد وتتحكّم في اختيارات وتوجهات الفرد، بل وطموحاته، تبعا للغة العصر والموضة السائدة(كما عبّر عنها ستاندال) فإنّ جوليان لا يخجل وهو يقول: " صحيح أنني أستطيع أن أكسب هنا بعض الآلاف من الفرنكات، وأنّني أستطيع أن أستأنف بنجاح مهنة الجندي أو الراهب حسب النمط الذي يكون سائدا حينها في فرنسا" ص186.
4- المرأة والحبّ في "الأحمر والأسود":
إنّ نموذج حضور المرأة في رواية ستندال هو مرآة لوضعها الحقيقي في المجتمع الفرنسيّ إبّان القرن19، فالحبّ قد يصبح محظورا في تقاليد الأرياف بأمر من السّياسة " منذ سقوط نابليون استبعدت بشدّة كلّ مظاهر ملاطفة النساء من تقاليد الأرياف خوف من فقدان المناصب" ص112، والزواج هو ما يهمّ في قانون المجتمع ولا دخل للعواطف في ذلك
" والسيّدة رينال تلك الوريثة الغنيّة لعمّة تقيّة، والتي تزوّجت في سنّ السادسة عشر من رجل نبيل، لم تشعر في حياتها، ولم ترَ شيئا يمكن أن يشبه الحبّ ولو من بعيد" ص112،
و " كانت ترى في الحبّ الذي قرأت عنه (…) نوعا من الاستثناء، أو أمرا خارجا عن الطبيعة" ص112، ولم تخلُ شخصيّة جوليان الانتهازيّة من استغلال خبيث لهذه العاطفة النبيلة على سبيل التقليد الذي تفرضه الغاية " ولكن الحبّ في باريس هو ابن الروايات(…) كانت الروايات سترسم لهما الدور الذي يلعبانه والنموذج الذي سيقلدانه، وعاجلا أم آجلا، كانت التفاهة ستجبر جوليان على تقليد تلك النماذج حتّى وإن كان ذلك من دون لذة" ص 94،
وقد يصل الأمر بهذا المجتمع الذكوري إلى " تشييء" المرأة وسلخها من إنسانيّتها " هكذا هنّ النساء جميعا، قال السيّد رينال وهو يضحك.. هناك شيء دائما يتوجّب إصلاحه في تلك الآلات" ص126، وما يزيد من تأزيم وضعيّة المرأة وتقزيمها، توظيف الكاتب لحكمة شهيرة خلال عصره، جاءت على لسان إحدى شخصيّاته " ما إن تبتعد عن عشيقتك حتى تجد متأسّفا أنّها تخونك مرّتين أوثلاثة في اليوم".
وحتى عاطفة الحبّ في " الأحمر والأسود" لم تكن حاضرة بالمعنى الإيجابي، أي في جانبها الصّحّي(من لدن الطرفين)، فبطل الرّواية جوليان استغلّ حبّ المرأتين اللتان دخلتا حياته في الريف وباريس من أجل بلوغ مآربه، وتحقيق طموحاته لا أقلّ ولا أكثر، وهو الأمر الذي لن يثنيه عن إطلاق النار على المرأة الأولى (السيّدة رينال) واضعا بذلك حدّا لأحلامه ، بل ولحياته. كما أنّ حضور الخيانة الزوجيّة واتخاد العشيق في رواية ستندال وفي المجتمع الفرنسيّ بصفة خاصّة، وباقي المجتمعات الغربية بصفة عامّة ( تناولها بشكل بارع وعميق كلّ من فلوبير في " مدام بوفاري"، وتولستوي في " أنّا كارينينا") ، يكشف عن عمق الاختلالات الاجتماعيّة والعلائقيّة، وغياب كلّ أثر للعاطفة والشعور الحقيقيين، واعتبار الزواج مؤسسة ومشروعا للاغتناء، والربح ، والارتقاء في سلم المراتب الاجتماعيّة،ممّا جعل المجتمع يغضّ الطرف - وقتئذ- عن هذه الخيانات ويقبلها، بل ويسير بها في اتجاه "الشرعنة"، إن لم يكن قانونيّا، فأقلّه من باب القواعد الاجتماعيّة (المعاملات وحضور الحفلات المجتمعيّة الرسميّة وغير الرّسميّة).
5- "الأحمر والأسود" بين الإدانة الصريحة والرمزيّة للقرن التاسع عشر:
لم تخلُ رواية ستندال من فضح وتعرية للمجتمع الفرنسيّ طيلة صفحاتها، إلاّ أنّ هذا النقد يشتدّ ويتكثف في بعض المواضع والمواقف، حتى كأنّك تحسّ بأنفاس ستندال تنحبس بين السطور، وتخاله يصرخ قلقا ومضطربا من سلطة تلك العلاقات والمظاهر الشائهة.
هذا أحد المدعوّين في حفلة يخاطب جوليان: " إذا استطعت رغم جهود الأمير دارسلي الخيّرة، أن أنجو من الشنق ، وأن أستطيع الاستمتاع بثروتي في باريس فإنّني سأدعوك إلى العشاء مع ثمانية أو عشرة قتلة مبجّلين ويعيشون دون أيّ ندم" ص344، و " ستكون أنت وأنا الوحيدين اللذين يتمتّعان بدم نقيّ " ص 354.
ويواصل ستندال إدانته المريرة وسخطه القويّ " علينا التخلّي عن كلّ تحفّظاتنا، إنّ هذا عصر يختلط فيه كلّ شيء، ونحن نتّجه نحو الفوضى العارمة" ص536.
وتظلّ الصفحات الأخيرة من الرواية - في اعتقادنا- أروع جزء استطاع ستندال أن يكثفه بالمرارة المشوبة بالثورة حينا، وبالحكمة والرّمز حينا آخر، فجوليان يقف أمام هيئة المحكمة يصيح فيهم برباطة جأش وشجاعة نادرتين ( وهي وقفة ستندال وصرخته في وجه مجتمع القرن التاسع عشر الذي اعتبره قرنا نفاقيّا و ريائيّا على نحو مقزّز):
" إنّني أستحق الموت إذن أيّها السادة المحلّفون، ولكنني حتى وإن لم أكن مذنبا إلى هذا الحدّ، أرى رجالا لا يهتمّون بما قد يثيره شبابي من شفقة، بل يرغبون في أن يحاكموا من خلالي ويحبطوا تلك الفئة من الشباب التي نشأت في طبقة دنيا واضطهدت بسبب فقرها فحاولت اكتساب تربية جيّدة وجرأة على الاختلاط بما يسمّيه غرور الأغنياء بالمجتمع(...) تلك هي جريمتي أيّها السادة، وسوف يحكم عليها بكثير من القسوة لكوني بكلّ بساطة لا أحاكم من قبل أمثالي، فأنا لا أرى على مقاعد المحلفين أيّ فلاّح اغتنى، بل بورجوازيين غاضبين وحسب...) ص582، ولا ينفي جوليان بعض الصفات الخبيثة التي اكتسبها من مجتمعه وعصره " إنّ تأثير أهل عصري عليّ كبير جدّا، قال بصوت مرتفع وبضحكة مرّة، فأنا أتحدّث وحيدا، وعلى بعد خطوتين من الموت، ولكنّني مازلت مرائيا.. آه يا أيّها القرن التاسع عشر" 604، ويوظف ستندال نظام "الترميز" في نهاية روايته بشكل فلسفيّ/ تأمّليّ بارع وجميل، الأمر الذي يجعل أفكاره وآراءه عابرة للعصر والمرحلة، وملأى أبدا بتلك "الجماليّة" الفنية، و"الموقفيّة" الجريئة (وهي بذلك تحقق ما أجمع عليه النقاد من كونها رواية مستقبليّة، ومصدر قوّتها أنّها تخاطب القارئ العصريّ أيضا)، وكمثال على ذلك يقول في ص 604: " يطلق صيّاد رصاصة من بندقيّته ، تسقط طريدة، فيهرع لالتقاطها، يصطدم حذاؤه بقرية نمل بارتفاع قدمين، فيدمّر مساكن النمل وينثر بيوضها بعيدا عنها.. لا تتوصّل أشدّ النملات فلسفة إلى فهم ماهية ذلك الجسم الأسود الضخم الرهيب: حذاء الصّيّاد الذي دخل مسكنها فجأة وبسرعة البرق، والذي يسبقه ضجيج هائل صحبته شرارات نار حمراء"، ويضيف أيضا على لسان بطله : " تولد ذبابة عابرة عند السّاعة التّاسعة صباحا في أيّام الصّيف الحارّة، وتموت عند الخامسة من بعد ظهر نفس اليوم، فكيف يمكنها أن تفهم كلمة " ليل"؟ امنحها خمس ساعات إضافيّة من الوجود، فتفهم عندها ما هو الليل" ص 604، وقبيل تنفيذ الحكم عليه بالموت، ينبس جوليان بهذه المقولة الحكميّة العميقة: " ... وهكذا الموت، والحياة، والخلود، إنّها أمور بالغة البساطة لدى من يمتلك الأعضاء الكافية لفهمها" ص604.
على سبيل الختم :
بهكذا أثرٍ فريد، فتح ستندال السّتار والنار على "لاأخلاقيّات" عصر ينتمي تاريخيّا للقرن 19، وينتسب جغرافيّا لفرنسا، ويغرق مجتمعيّا في وحول المراءاة والنفاق والمظاهر السّالبة/ المستلِبة، والأفكار الضحلة/ الفارغة، كما استطاع أن يمرّر حنينه إلى عصر الثورة ومبادئها الإنسانيّة في شخصيّة/ سايكولوجيّة بطله النوستالجي جوليان، وقد برع هذا الروائيّ والأديب الثاقب - في نهاية المطاف- أيّما براعة في سكب مواقفه، وبث مبادئه وآرائه في وثيقة روائيّة تكتب التّاريخ بأدقّ تفاصيله، لكن بسلطة أدبيّة يتفاعل فيها داخلُ الإنسان بخارجه، وهو بذلك حقق ما كان يؤمن به من أنّ الرواية أكثر صدقا من التاريخ. ألم يكتب في يوم من أيّام سنة 1830 على حاشية صفحة من كتاب كان يحمله : " ... لقد قال لي السيّد تراسي مرّة: لم يعد الآن الوصول إلى الحقيقة ممكنا إلاّ في الرّواية..." ؟
08-أيار-2021
16-أيار-2007 | |
24-نيسان-2007 | |
26-تموز-2006 | |
24-حزيران-2006 | |
14-حزيران-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |