نقد المقدس أم الدعوة لفرقة دينية جديدة؟
نزيه كوثراني
2017-03-03
قرأت باهتمام كبير ما كتبه الأستاذ حسن أوزين حول العبودية وفك الارتباط بين الخطاب الديني والإسلام ورغم ما يبدو على النص من تحليل نقدي فإنه يعيد بطريقة أخرى إنتاج الخطاب الديني نفسه فما قدمه إلى حد ما من جرأة نقدية حول العبودية عاد فأخذه بطريقة سلفية في الجزء المعنون بفك الارتباط بين الفكر الديني للجهل المقدس والإسلام. لقد ظل طموحه النقدي مجرد وعد صعب عليه تحقيقه لأنه حاول خوض صراع النقد بالأدوات نفسها للخصم إذ أنه في دعوته لفك الارتباط بين الفكر الديني للجهل المقدس والإسلام يستعيد الأطروحة السلفية نفسها للخطاب الديني سواء كان معتدلا إصلاحيا أم متطرفا جهاديا. فهما أيضا يتحدثان عن نزع الشوائب والخرافة والجهل والشعوذة والعادات الجاهلية التي حجبت الإسلام الحقيقي عن المسلمين في صفائه ونقائه السلفي كما عاشه السلف الصالح. لذلك نرى أن الأستاذ حسن أعاد إنتاج من حيث لا يدري الرؤية النمطية التكرارية نفسها للفكر الديني تجاه الواقع الاجتماعي السياسي التاريخي المغيب سياسيا في ممارسته السياسية والفكرية الثقافية. فلو أن الأستاذ حسن عمق أسئلته في قراءة العبودية في النصوص الدينية للإسلام وفي الواقع التاريخي للمجتمعات العربية الإسلامية لما تبنى الدعوة لفرقة دينية جديدة تحاول تصفية الإسلام من شوائب الجهل المقدس للخطاب الديني. وهل يمكن حقا تصفية تاريخ المجتمعات من الصراعات الإيديولوجية في صورتها الفكرية الثقافية والتي هي في حقيقتها التاريخية صراعات اجتماعية سياسية؟
1 حدود التفكير الديني؟
لم يكن ممكنا نقد المقدس من وراء حجاب الخطاب الديني لأن تلك الاستراتيجية في الرؤية والتفكير لا تتميز في شيء عن نوع من التفكير الديني الذي يمارسه الخطاب الديني بعشق جنوني في تكفير ليس الأفراد فقط بل المجتمعات وهو يخفي المضامين والأهداف السياسية لأن عين ممارسته لا تفارق الرغبة في الاستئثار بالسلطة. والفكر النقدي لا يقبل بهذا النوع من الذكاء التحايلي التكتيكي الذي يتقن الفكر الديني ممارسته وتكريسه عبر التاريخ العربي الإسلامي دون أن يرف له جفن الضمير المعرفي الأخلاقي . فنقد المقدس لا يقبل بهذا النوع من التنازلات والتسويات أو الترضيات بتعبير أبوزيد في نقده لفكر محمد أركون. فإذا كانت نصوص المقدس كقرآن وسنة صريحة وواضحة في وقف وحصر مفهوم الإنسان ومبادئ حقوقه وقيمته الإنسانية في ما يسمى الأحرار والحرائر أي أن فئة العبيد بمختلف أسمائها ومستويات ودرجات رسوخها في العلاقة العبودية لم تكن معنية بشكل إيجابي مركزي حاسم وقاطع بتغيير أسس علاقة السلطة التي تستغل وتضطهد وتبيح حصانة كرامة العبيد. فالإسلام مهما كانت نصوصه القرآنية والحديثية وهي تشير إلى تحرير العبيد كخيار أخير ومستبعد لأن الحر مخير بين الصوم وفك الرقبة. أحيانا لا يتجاوز الصوم أكثر من ثلاثة أيام. فانه – الإسلام - كمعتقد ديني رسخ وكرس العبودية لأنها لم تكن من أهدافه الرئيسية التي تتطلب نصا إلهيا حاسما يعلن نهاية علاقة السلطة العبودية. لم يكن ذلك ممكنا لأن الإسلام في أسسه الاعتقادية والثقافية الاجتماعية يؤسس لجدلية المالك والمملوك السيد والعبد و للسمع والطاعة والخضوع والخنوع والاضطهاد يؤسس لأحادية السلطة بين الأحرار فما بالك بالعبيد. بل عمل الإسلام على استرقاق الأحرار من شعوب البلدان التي تعرضت باسم الحق الإلهي الشرعي للغزو ظلما وعدوانا تحت شعار عنصري يناقض كليا مبادئ حقوق الإنسان – كنتم خير أمة أخرجت للناس- مما أدى إلى تضخم فئات العبيد الذين حرموا من حريتهم وكرامتهم وقيمتهم الإنسانية. وفي واقع اجتماعي تاريخي مثل هذا لم يكن ممكنا أن ينتج معتقد الخضوع والسمع والطاعة وذم النقاش والسجال والجدال وفتنة السؤال والاختلاف والشك والاعتراض نصوصا وواقعا يتحرر فيه الإنسان من سطوة اضطهاد المهيمن والجبار والقوي والمعذب والقاهر والسيد الرب. الدين بطبيعته عبودي ولا يمكنه أن يكون إلا كذلك إذ يمثل نوعا من التصعيد والتسامي للعبودية من خلال التعبد والعبادة أي الطاعة والخنوع والخضوع. لذلك كان من الصعب أن يحقق العبيد تحررهم انطلاقا من لاهوت التحرير. وهذا ما تؤكده النصوص الدينية والواقع التاريخ العربي الإسلامي. فأنت تعرف ربما بأن الذي طعن الخليفة عمر بن الخطاب هو عبد بشكل أو بأخر لأن الفكر الطائفي للإسلام حرمه من العيش بكامل حقوقه كأعجمي في المدينة التي كانت وقفا على العرب. والخطير في الأمر أن هذا العبد المظلوم كان عاجزا عن التظلم. فقد اشتكى مرارا همجية الاستغلال التي تعرض لها من قبل سيده. لكن الظلم في الإسلام ليس حالة فردية معزولة بل هو نظام مقدس لسلطة عبودية يمارسها الأشراف مهما اختلفت مناصبهم السياسية والإدارية والاجتماعية أو الدينية من الفقهاء والعلماء والقضاة استنادا الى شرعية المقدس في تملك وتأديب وبيع وشراء العبيد أو في استرقاق الأحرار من الشعوب التي تعرضت للأسر. فكم من الثورات التي خاضها العبيد بشكل فردي وجماعي باءت بالفشل لأن الوعي الديني مهما كانت خدعة مثاليته في مبادئه الصورية والشكلية لا يستطيع إلا أن ينقل العبيد من عبودية إلى أخرى. والسر في ذلك أن الموقع الاجتماعي الاضطهادي والاستغلالي للعبيد في ظل عبودية الدين كمعتقد إيماني بشرعية قداسة الخشوع والخنوع أمام السيطرة والهيمنة والقوة والتغلب يتناقض كليا مع وعيهم الذي يشكل الدين خلفيته والإطار المرجعي النظري لرؤيتهم السياسية في كدحهم اليومي النضالي من أجل تحررهم. فالدين وهو يصير قوة مادية فاعلة في التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي كلغة وفكر ووعي وممارسة اجتماعية يعيد إنتاج العلاقة الاجتماعية السياسية للسيد والعبد من خلال السمو والعلو والشرف والقوة والظلم والاحتقار والقهر والتبخيس. بمعنى يعيد إنتاج الفعل المجتمعي العبودي كأساس لمنطق العلاقات الاجتماعية العبودية على كل المستويات وفي كافة المجالات والقطاعات البنيوية والوظيفية والتفاعلية إلى درجة لا تخلو حركات وسكنات الإنسان في المجتمعات المتدينة من نوع من هدر الحرية بكامل الفرح والطمأنينة والرضا الذاتي. إذن فالمشكلة لا تكمن في الفكر الديني أو ما حدث في التاريخ العربي الإسلامي من ظلم وتعسف وانتهاك وهدر ليس للحرية فقط بل أيضا استباحة الدم البشري قلت فالمشكلة تكمن في الواقع الأرضي الأساس الذي أوحى للسماء بتكثيف وتسامي وتصعيد إلى السماء بنية العلاقات الاجتماعية العبودية كصورة انعكاسية لما يحدث على الأرض. إن ما يقال عن السماء من خوارق ومعجزات وجنات وعذابات وملائكة وشياطين ...أنتجته الأرض لذلك كانت النصوص الدينية دائما مرتبطة في وجودها بأسباب النزول من الأرض. كما لم يكن أمام الدين أي نموذج أخر في الطقوس والشعائر والعبادة والتقرب والخضوع والتزلف والخوف والقهر غير منطق السلطة في العنف والقوة والتملك المحدد للعلاقة بين السيد المالك وبين العبد المملوك بيعا وشراء وتزلفا وعبادة. وفي هذا السياق نفهم ما تعنيه “ملك اليمين” لغة وثقافة في الإطار التاريخي الاجتماعي إذ تعني ما تملكه الأحرار بقوة يمين السيف والمال والجاه التي تنحني لها الرقاب خضوعا وسجودا وطاعة وحظوة وعبادة وعبودية. ولمن يشك في هذا أن يعود الى التاريخ العربي الإسلامي ليس القديم منه فقط وإنما أيضا في واقعه الحديث والمعاصر. وفي تراثه الرسمي ليرى كيف كان أهل التقوى والورع الديني من الصحابة والسلف الصالح ليس فقط يملكون عبيدا بل يقدمونهم لبعضهم في صورة هدايا. هل هناك ما هو أبشع من أن يقدم الإنسان في صورة هدية؟ أو تضرب الأمة لأنها تجرأت على لبس الحجاب والتشبه بالحرائر من طرف الخليفة الفاروق. فماذا لو سألنا أولئك العبيد رجالا ونساء عن جدارة العدل والإنصاف والحق والثقة والورع وغير ذلك من القيم النبيلة السامية الرفيعة التي تملكها الأحرار و الحرائر بشرعية النص التمييزي العنصري الطائفي والتمايزي التراتبي الاجتماعي والاثني والديني كأهل الذمة.
إن الأسطوانة المشروخة بكثرة بلادة التكرار النمطي للاختباء وراء العودة إلى الينابيع الصافية والعذبة للدين وتنقيته من الشوائب والتقاليد والشعوذة والجمود وما شاكل ذلك من الوصفات الرديئة لتزييف الوعي واغتيال الفكر والعقل ليست أكثر من مجرد بكاء على العاجلة المدنسة الميتة - وليس الفردوس المفقود للعصر الذهبي – للحضارة العربية الإسلامية. فهذه الطريقة في التفكير والتعبير عن عنف داخلي متكدس ومتراكم إلى درجة تخشى الذات العاجزة عن فهم ومقارعة أسباب عنفها وتصلبها وتخلفها من انفجارها تدفع هذه الذات إلى أسطرة و شيطنة الخصم مع افتراض الصواب والصحة والحق المطلق في النص الديني. بناء على هذه الملاحظات نرى أنه عوض أسطرة الخطاب الديني والدعوة إلى فرقة دينية جديدة تعمل على احياء الإسلام بفك الارتباط بينه وبين الخطاب الديني من أجل أن نتعرف على الإسلام الصحيح ينبغي التوجه بالنقد الصريح للمرجعية الدينية في نصوصها التأسيسية التي تعتبر بمثابة الأرضية الخصبة لشرعنة مقدس علاقة السلطة العبودية . إن النقد والفكر النقدي كما يقول مهدي عامل إما أن يكون نقدا حقيقيا أو لا يكون وهو بعيد عن تلك الاستراتيجية في الكتابة التي تتحصن وراء نوع من مسحة الكتابة الدينية في نقد الدين وهي تتوجه باللوم والعتاب إلى الفكر الديني في نشر الجهل المقدس. نقصد تلك الكتابات التي تتحايل سياسيا داخل جبة دينية خوفا من ردة فعل الجمهور الغارق في طروحات الفكر الديني. و هذه الحيلة الايديولوجية في الاستقطاب السياسي تراهن على وهم التطلعات الايديولوجية التنويرية العقلانية للقيم الميتة الثقافية والمعرفية والاجتماعية والسياسية في الإسلام وتراثه الحضاري. هذا النوع من النقد سرعان ما يخسر المعركة التي خاضها بسلاح الخصم. إن ممارسة النقد من خلال تقديم زكاة التنازلات والترضيات كنوع من التقية في ممارسة الكتابة النقدية تنتهي بالفشل والإحباط والخيبة. وهذه الممارسة الايديولوجية لا تفلت من تكريس منطق الفكر العبودي والعلاقات الاجتماعية العبودية في الواقع والفكر. ولا ننسى أن الدين مهما كان في انفتاحه وعقلانيته لا يمكن أن يؤسس للفكر الحر والفعل الحر ولواقع تبنيه وتؤسسه الحرية وهي تفتحه على أفق صيرورة الهدم والبناء والحياة والموت والتنوع والتعدد والاختلاف....
2 انفتاح تفكير الحرية
إن فك ارتباط الفكر الديني للجهل المقدس بالإسلام هي إشكالية خاطئة في الطرح والتحليل النقدي لأنها تفترض سلامة الأصل الذي تعرض للتشويه من قبل الفرع لذلك لا بد من العودة إلى البدايات الأولى تفاديا لتراكمات الجهل الذي تلبس المقدس فأزاحه عن مكانته وغيبه عن حضوره وألغى فاعليته ونقاءه. والعودة إلى الوحدة والانسجام والتناغم المحتضن لكل الكلام وكل ما يمكن أن يقال لأن جميع الأسئلة حسمت إجاباتها من طرف النص المقدس وامتداداته الحاكمية من الخلفاء والسلف الصالح إلى رجال الدين اليوم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. لم يكن للفكر الديني أن يكون جهلا مقدسا إلا لأنه يجد في الإسلام مبررات وجوده وأدوات إنتاج معرفته وفكره وهيمنته وتسلطه وسيادته ونمط عبوديته. فإن التفكير في الحرية بمختلف أشكالها لا يمكن أن يتأسس على أرضية العبودية الدينية التي ترسخ وتكرس سلطة مقدس العلاقة العبودية في أبشع صورها الاستغلالية والاضطهادية أو في مرونة تسلطها باستعذاب العبيد لمعاناة وألم عبادة عبوديتهم بالحلول والذوبان بخشوع أعمى في القلب والعقل في قهر السيد الأعلى في السماوات الذي يسقط ظله في الأرض على أهل الفضل والورع والتقوى من الأسياد والحكام والولاة.
إن فك الارتباط الذي نحن في أمس الحاجة اليه هو الذي ينطلق من القدرة على ممارسة الانفصال والابتعاد ما أمكن عن الأوهام وأشكال الجهل التي تلقيناها في صور مثالية ساحرة بآليات سبات العقل و قداسة إيقاف التفكير والنقد والشك والخيال والفن والعشق والتساؤل... كمفاهيم اعتبرت وسواسية من آفات الشيطان. في حين أن هذه المفاهيم هي الوسائل والأدوات لإنتاج المعرفة والعلم و تحقيق التقدم والتطور لفك ارتباطنا بعبودية المقدس كأسر لذواتنا واسترجاع نعمة العقل والبصر والبصيرة كمدخل للحرية.
وهل نستطيع اليوم حقا أن نتحدث عن أنفسنا وتراثنا وإسلامنا بهذه البساطة الأقرب إلى الجهل والغباء ونحن نحلم بإزاحة الالتباسات والتحرر من الجهل المقدس للفكر الديني وبالتالي معانقة الآفاق الدلالية للإسلام؟ فإذا كنا نتحدث عن التدين كمعتقد إيماني تمارسه الشعوب العربية الإسلامية وفق منظورات مختلفة ومتعددة الوجوه في التصورات والممارسات كطوائف ومذاهب واثنيات فتلك مسألة سوسيولوجية ثقافية عادية لا نختلف فيها عن شعوب العالم المتدينة أما إذا كنا نقصد جثث مضامينه المعرفية الفكرية وطموحاته السياسية القيمية فإن ذلك يعبر عن طوطمية قديمة في عبادة الماضي والموتى والأجداد. والأخطر في هذا أن الإسلام اليوم سواء الإعلامي والسياسي والجهادي لا علاقة له إطلاقا في أسباب نزوله وفي وضع أرضيته المادية المالية والرمزية الثقافية والعسكرية في تهريب السلاح والرجال والنساء وفي التخطيط والتوجه والمنطلقات والأهداف بالمعتقد الإيماني الذي تمارسه الشعوب الإسلامية باختلافات متفاوتة. فهذا المثلث الإسلامي الإعلامي والسياسي والجهادي هو من وحي المراكز والمعاهد والمباحث الغربية إنه في التفكير والبحث والتخطيط والتنفيذ والمتابعة وليد السيطرة والهيمنة الغربية بمعنى أن هذا المثلث الإسلامي هو نتيجة السوسيولوجية السياسية والانتروبولوجية الكولونيالية التي تضمن تجدد السيطرة والهيمنة. فهذا المثلث الإسلامي يمثل الوجه البشع للتحكم الامبريالي في راهن ومصير مجتمعاتنا. لقد أنتج الغرب معرفة علمية وعميقة بمجتمعاتنا في رأسمالها الرمزي الثقافي والاجتماعي الحضاري فأدرك حجم الشر الداخلي والإبادة الذاتية التي نحملها في داخلنا كمقدس لا يأتيه الباطل. ونتيجة همجية مصالحه في السيطرة والهيمنة قرر أن يحرقنا ويبيدنا بأيدينا باستثمار شرنا الداخلي المقدس. إنني أفكر بعيدا عن أسطورة المؤامرة لأنني أعرف جيدا الوجه البشع الدموي للتراكم الرأسمالي. الوجه الهمجي لتقدمه وتطوره ولحريته وديمقراطيته الداخلية ويا للمفارقة فإننا مثلما نحمل شرنا داخليا يحمل الغرب في داخله أيضا الخير المعرفي والفكري والعلمي الثقافي الذي يهدم ويقوض شر الغرب الهمجي الامبريالي.
عن موقع الأوان