كتاب إبراهيم محمود " وإنّما أجسادنا " : غواية قطافها قبل الأوان
أحمد عمر
2015-11-17
يعمل الكاتب السوري إبراهيم محمود في مجال الكتابة الإناسية، وله أكثر من ثلاثين كتابا منها: البنيوية كما هي، الفتنة المقدسة، أقنعة المجتمع الدمائية، الشبق المحرم.. في هذا الكتاب ( إصدار وزارة الثقافة السورية- 2007 ) يحاول استنطاق الجسد وتأويلاته المختلفة من زاوية انثروبولوجية. قبل الكلمة كان الجسد، الجسد يمنح الإنسان هويته، وهو يضج بالمعاني والأسئلة .معجميا الجسد يعني الجسم والزعفران والدم اليابس واللون الأحمر والبدن..
وهذا يعني أنه يعني الظاهر والباطن، العلني والسري. ولا يمكن مقاربة الجسد، إلا من خلال اسم أو عنوان، ويمكن الحديث عن جسد إسلامي أو جسد مسيحي. كما يمكن الحديث عن جسد سنّيّ وجسد شيعي.. يبدأ الكاتب ببيوغرافيا الجسد منذ الاسم. الاسم يؤمّم الجسد، الاسم من السموّ والارتقاء، الإسم يجعل الجسد معترفا به، أما الوشم فهو نذر للجسد وتغير لمعالمه وتحكم به، تبديد له أو تصعيد له أو رغبة في استهلاكه أو امتلاكه والسيطرة عليه وإخضاعه. الوشم عصيان للجسد على ذاته، أما الشعر فهو الحارس للرأس وزينته أيضا أما بالنسبة للمرأة فهو مبعث فتنتها، وهو يرتبط لغويا بالعرش والعشرة والرعش والشِعْر، وحتى العرس. الشَعر رمزيا يعني أثمن الأشياء على الإطلاق، قوة شمشون كانت في شعره، والشعر هو الشيء الوحيد الذي يبقى من الإنسان بعد ترمم عظامه. لحية الرجل مقابل شعر المرأة. لكل جنس علاماته الجسدية. العين هي التي تقرأ الجسد وهي شاهدته، فالعين معجميا هي الجاسوس والماء والنبع.. إنها مستودع ذاكرة الجسد بانفعالاته ومقاماته وأحواله. الفم بوابة الجسد، حده الأول، وهو للكلام والطعام. الأفواه درجات.
الفم له وظيفة اجتماعية أكثر من العين. الفم عنصر إحيائي بعثي، لكن العين يمكن أن تكون قاتلة ( الحسد، ميدوزا).
الفم فرج رمزي ويحبل لكن بالكلام والشهوة..الفم رسول الفرج .والقبلة جماع فموي، اللعاب منيّه، القبلة خلق من نوع آخر، وله علاقة بنفخة الروح وكلمة الخلق الأولى.
اللباس يضمن فورا معنى اللبس والالتباس والمشاكلة والإخفاء. اللباس ثقافة وموقف ودين. اللباس الذي يخفي المرأة يبرزها أكثر، يجعلها مشتهاة، وذلك أحد معاني اللباس. العطر وشم عابر زائل، انه إحدى مظاهرات الجسد وصراخه في إعلان نفسه. بين الوشم والعطر علاقة كالتي بين الأنف والعين.ولأن للجسد أنفا واحدا وعينين اثنتين فالوشم أكثر ثباتا، ومن هنا ارتبط بالتحريم الإسلامي قطعيا، لأنه احتلال للأمانة الإلهية وتعيين حدود على ممتلكات الله وعبث بها. العطر، إسلاميا، يعري المرأة جزئيا، انه يحول المشموم إلى مشاهد.
انه دعاية بشكل من الأشكال. الكاتب يرى أن الإسلام سمح بالكحل للعين والحناء لليد لأنهما مادتان سكونيتان، الكحل أسود والحناء حمراء. الأسود كتيم والأحمر لون تضحوي خاص بالأنثى المنذورة، إنّه شهادة عذرية رمزيا، شهادة حياة أو دعوة لها واستبشار بها.
الجسد يرتبط باللذة والحاجة. اللذة تخرب الجسد. المتعة تدمره، لذلك كان الرهبان المسيحيون يحاربون لذائذ الجسد ويعتبرون حواء أصل الخطيئة. وقد تصدق في حقهم مقولة علي زيعور ( إن رافضي الجسد هم المحرومون منه، أو المقدسون له بلاوعي)، إلا إنّه تمّ قمع الجسد وتقييده وتحجيبه في ديانات كثيرة. ويفتتنا هنا قول علي حرب (إن الجسد هو حقا فروج إذا نظرنا إليه من منظور اشتهائي، وموضع الغواية فيه ما يومض من وراء حجاب، أو ما يسطع عبر شقوق الرداء، وما ينشق وينفرج عن الجسد نفسه، وفي أيّ حال ما يفتن هو ما ينفرج فالرغبة في التعرية هي في حقيقتها تشوق إلى مشاهدة فتحات وشقوق.واللذة هي سد فراغات الجسد ملء شقوقه). تصدق هذه المقولة على اللذة الجنسية، وتحيد عن لذات أخرى مثل لذة اليقظة ولذّة الحياة أو لذّة التنفس أو لذّة الولادة، حتى للقيء والتغوّط لذّة ( فرويد).
ثمة علاقة بين الرقص والجسد. الرقص لغة الجسد وفصاحته وله دلالة اجتماعية هي المشاركة، ودلالة سياسية هي استجواب للجسد وتعرية له، واقتصادية باعتبارها قوة منتجة للجمال أو فائضا العمل. وثقافيا هي لغة مجتمعية خاصة. الجسد في الرقص مسرح وضحية. الرقص الصوفيّ هو محاولة للتخلص من الجسد أو توزيع له أو تحييد لجاذبيته الأرضية. إنها مرافعة بالحركة لتحرير الجسد من أثقاله. الرقص أجنحة لجسد محروم من الريش.
كم نوعا للجسد الإنساني؟ الجسد الامبريالي، الذي هو الجسد الاستعراضي، الإعلاني العابر، الذي يتحول طعما لجسد آخر كي يوقعه في حبائله. الجسد هنا علامة من علامات القوة، الجسد الرأسمالي هو جسد الاستهلاك واللذّة. ويذكر الكاتب أمثلة عن الجسدانية الإنجيلية الرأسمالية مثل جسدانية كورتز في قلب الظلام الذي عندما باشر بتأليه جسده قضى عليه. الجسد الستاليني نموذج بروليتاري مقلوب للرأسمالية، انه جسدانية البهرج ( البهرج هو الباطل والرديء من الشيء معجميا) وهو غير الجسد الماركسي الذي زعم أن إنسانية الجسد تنهض على تحرير الجسد من تفاوت القيمة.
لم لا نشير إلى جسدانية نيتشه والإنسان السوبرمان.التي تطرح جسدانية المسيح المتألّه من مقلب مختلف. يقول الكاتب إننا في عصر تدويل البهرجة، عصر الأغنية الاستعراضية ونجوم الرياضة والأفلام فقد باتت المسافة طويلة بين الإنسان كجسد فعلي وبينه كجسد مؤلف. يبقى رأي الكاتب في ما يسمّيه ميتافيزيقيا الجنابة إيديولوجياً فهو يعتبر الغسل الإسلامي تطهيرا من دنس المرأة، وعقابا إلهيا وله علاقة بالإثم!! كيف يمكن أن يعتبر الماء سر الحياة عقابا إلهيا؟ لم لا يعتبر تخصيبا جديدا للجسد الذي أنتج زرعا في دورة جديدة، ثم كيف يستوي حكم الكاتب والمرأة والرجل مكلفان بالغسل الإسلامي من الجنابة سواء بسواء. والجماع الحلال مثاب عليه في الإسلام (وفي بضع أحدكم صدقة).
كتاب إبراهيم محمود صعب الهضم رغم ثراء غواية العنوان والثقافة التي يوحي بها الكاتب وهو مثل معظم كتبه، مقطوف قبل الأوان، المادة الخام أكثر من الثمار الناضجة. الكتاب مرتجل، وغزير، تنزلق الأفكار من السطور بسبب زحامها وعدم تخميرها.