حادثة تحت المطر
2008-11-24
لحظة محددة ما بعدها صار اللون الأسود وحيداً يمرح في ذاكرتي حتى دخلها أحد المنتشرين حولي بمفردات تشير إلى أنه طبيب على الأغلب وهو يلقي علي الأوامر عبر أمي ..
ولكن .. لماذا يجب ألا أرى الشمس ، وبعض الألوان والروائح ؟!. وماذا عنى بالهدوء التام وهو يمرر كفه على شفتيه مثل المشعوذين ؟.
هل تبدو حالتي خطيرة لا أمل في شفائها إلا ببيان ممنوعاته هذا ؟!.
عاد الجميع بعد محاضرة الطبيب ثم انصرافه إلى التحديق مجدداً في وجهي .. وازداد عدد الابتسامات والقبل على جبيني وخدي فأيقنت أن ثمة أمراً غريباً يجري ..
في الواقع لم يكن أكثر غرابة من أحداث اليومين التاليين عندما بدأت أتلقى دهشات تبلغ حد الاستنكار أحياناً بعد كل عبارة أتفوه بها .
ما بال سكان هذا المنزل كأنما أصابهم وباء التعجب !!..
ضحك أخي الأصغر متراجعاً إلى الخلف ينادي أمه لمجرد أن شجعته على اللعب بالطين خارج المنزل حلاً لمشكلة التلعثم في النطق .. وقد تجاوزت أمي هذا التحريض رغم استنكار نظراتها لي .
أما أخي الأكبر فقد تخلى عن هدوئه للغضب بعد أن رآني ألصق ورقة مالية كبيرة بالصمغ على جدار في غرفتي وقد أضفت إلى إطارها بعض ألوان زيتية على سبيل التجميل .. لم أفهم سبب ثورته فأية لوحة أخرى قد تكلف أكثر من هذا المبلغ لتعلق على نفس الجدار .. أين الخطأ في كل هذا ؟!..
يبدو أن الخطأ الحقيقي وقع مساء ذلك اليوم بحق أبي وبسبب البؤساء الذي يقرأ صفحاته منذ أيام .. لم أقصد إغضابه أردت فقط إزالة الحيرة عن أسئلتي .. يعني كيف يتفق أن تكلف السماء السيد فالجان برفع الظلم عن طفلة لكونه عاش مرارته طويلاً بينما يستطيع الله أن يحسم الأمر بثانية ودون الحاجة أصلاً إلى هذه الدوامة التي يتناوب عليها البؤساء فقط دون غيرهم !..
كانت إجابة أبي تحمل إنذاراً مبكراً بالحد من ارتكاب الأسئلة الحمراء .. لم يكن يعلم أن عمى الألوان ربما تمكن من أسئلتي أيضاً ..
طيب هل صاحب القرار في تعاسة كوزيت هو نفس إله الأطفال السعداء في مكان آخر؟.. لا بد من وجود شريك يتلاعب بالحسابات ويفسد الخير القادم من السماء .. وإلا فكيف ؟!..
آه .. يبدو أني عككت بتعليق طائش أصاب مكاناً ما في دماغ أبي فقد خرج من خلف النظارة والتفت بقلق نحو أمي التي نقلت نسخة من التفاتته إلى أخي .. وتداعوا جميعهم إلى غرفة أخرى وكأنهم سينصبون فخاً .. ما الذي يجري ؟!.
******
في العاشرة صباحاً حسب رغبتهما كنا في عيادة طبيب ننتظر ما سيدلي به بعد أن أطال الفرجة علي وعبث برأسي وأطرافي وحصل منهما على بعض الإجابات التي سيستعملها في إصلاحي ..
أهم ما في الأمر أنني عرفت عن حادثتي الغريبة التي لم يعد هناك مهرب من البوح بتفاصيلها أمام الطبيب .
هل حقاً ضربتني صاعقة أثناء وقوفي تحت المطر ؟!. وكيف نجوت منها ؟. ثم هل كنت فتاة مهذبة ومطيعة إلى هذه الدرجة ثم انقلبت الأشياء بداخلي إلى كل هذا التمرد والعقوق كما يصفون ؟.
بدأت أجد تفسيراً لوجودي هنا مع أني كما أرى لا زلت مسالمة باستثناء رغبتي الخفية بأن أعض هذا الطبيب المترهل الذي يؤمن بأنه أمسك بكل تفاصيل الكون ولم يعد هناك من مزيد ليكتشفه .. وهو لا يدري بأنه مجرد فرد من جماعة الوهم المنظم الذين يجنون رزقهم بوسيلة وحيدة هي إقناعنا بأننا مرضى ..
أخرج من درج مكتبه علبة ألوان كبيرة وسألني أن أختار ثلاثة منها تشكل معنى حسب رأيي... وزعها أمامي بطريقة ذكرتني بأصابع الدجالين في سوق المدينة وهم يراهنون على خداع بصرك وجعلك تدفع ثمن دهشتك ..
من الطبيعي أن يلبسه التعجب كالآخرين فهو يتوقع أن أجتاز الاختبار بما لديه من الألوان وأنا ببساطة لم أعثر بينها على اللون الثالث المطلوب بل ربما هو مفقود من قائمة الألوان المسموح بها وهذا يجعل اختياري خارجاً على القانون أساساً بيد أني طلبت منه إجابة لسؤال : ألا يعتمد دخل العيادة على ازدياد حالة المرضى سوءاً ؟..
نظر في وجهي بعدوانية غير معلنة وهو يخبرهما بعبارات معقدة أن جزءاً ما داخل رأسي قد تعرض إلى نوع من الفوضى بسبب الحادثة وأن إعادة ترتيبه ستقتضي جلوسي هنا لعدة مرات بصحبته المملة بعد أن كتب أربعة أسطر مرقمة باللاتينية على ورقة أعطاها لأبي مشدداً على أهمية إقناعي بابتلاع ما جاء فيها بانتظام .
أردت حقيقة أن أبدو متعاونة لكنه في النهاية سيرفض أن أكون مصابة بحالة خارج تصنيفه .. ماذا علي أن أفعل ليحتفظ بلقبه كطبيب وتحتفظون بفضلكم كمربين وأحتفظ بحقي على الأقل في اختيار المرض دون وصاية .
اعترفت لأمي بأمنية خبيثة تطاردني للمرة الأولى .. ماذا لو أننا فقراء هل كان أبي سيتمكن من كل هذا الإنفاق على جلسات الأطباء واستشارات علماء النفس والاجتماع ونصائح الكهنة وجميع من يسعون بإخلاص إلى ترويضي وكأنني فرس أفلتت من حظيرة !!.. يخيل إلي أن الفقر من الأشياء التي تحتاج إليها الحرية أحياناً ..
******
لم تكن درجات الامتحان المتدنية التي حصلت عليها للمرة الأولى وراء زيارة مديرة المدرسة .. كان سبباً آخر استدعى أن تحضر معها أوراق امتحاناتي لتطلع أمي على سابقة خطيرة تهدد الهيئة التربوية برمتها في حال تفشت بين الطالبات .
من جهتها اكتفت باستعراض عشوائي لبعض إجاباتي التي اقترفتها في امتحاني التربية والعلوم :
- المجتمعات المتقدمة هي التي يحترم أفرادها سيادة القانون : (خطأ)
- المجتمعات المتقدمة هي التي يحترم القانون سيادة أفرادها .
- يرقى الإنسان عن الكائنات بسبب امتلاكه للعقل : (خطأ)
- ترقى الكائنات عن الإنسان بسبب امتلاكه للعقل .
- الوطن هو المكان الذي نولد فيه فننتمي إليه : (خطأ)
- الوطن هو المكان الذي يولد فينا فننتمي إليه .
- ما الحكمة من وجوب مساعدة الفقراء والتبرع لهم بالمال ؟.
- للتأكد من أنهم سيستمرون فقراء إلى الأبد .
- ماذا ينتج عن دوران الأرض حول نفسها يومياً ؟.
- هذا ما أحاول فهمه منذ زمن دون جدوى ..
- أين تصيب الأضرار الناجمة عن حدوث الصواعق ؟.
- في كل مكان عدا ذلك الذي تحدث فيه ..
أدلت المديرة بما لديها وحصلت على وعد كانت تنتظره من أمي باتخاذ تدابير رادعة تضع حداً لابنتها الضالة .
******
جولة أخرى من جولات أبي كانت أكثر إدهاشاً حين أتى بزائرين أبيض وأسود نادراً ما يلتقيان معاً باستثناء ما يتعلق بالمال أو بالفضيلة ..
جلسا متقابلين وأنا على رقعة بينهما أنتظر ما علي سماعه .
حدثني سماحة الأبيض عن المحبة مطولاً لكنه اصفر قليلاً حين قلت له إن المحبة ليست فعلاً في حد ذاتها إنما هي تصفيق يحمل الآخرين على المضي في فعل ما نريده منهم ونحن من يبارك هذا ويجعله جميلاً يستحق الاحترام .. أنت مثلاً إلى متى يمكنك أن تستمر في الحب أو الإيمان بمن لا تتوقع منه مقابلاً ؟!..
شمر فضيلة الأسود عن أصغريه وراح يكيل سلسلة من الكلمات المؤثرة على مسامعي .. شعرت به يريد اختصاري وإنهاء الجولة بالحجة القاضية فأوقفت استرساله عند سطر قوة الإيمان ..
لم أكن أسعى إلى النيل من هيبة معانيه ولكن إذا كانت قوتك مرهونة أصلاً بوجود الضعفاء من حولك فماذا لو انسحبوا ؟!.. وأين يصبح موقعك بعد أن تقابل من هو أقوى؟. ألا يبدو الأمر كأننا نقيس المعاني بمسطرة تكمن اللانهاية في طرفيها !.. مفردات كثيرة من المطاط تتسع لكل احتمال يقرّ به مزاجنا مصنعة خصيصاً كي لا نبلغها أبداً ..
ماذا لو استطاع أحدنا الإمساك بالسراب لمرة واحدة هل سيحتفظ بعدها باسمه أو بمعناه ؟..
أدرك الزائران بأن عقدتي ستحتاج ربما إلى توحيد قوتهما لتطهير الظل الملوث الجاثم فوق روحي . اتفقا مع أبي بدايةً على أن طاقة شريرة بثتها الصاعقة في جسدي ونشرت حالة من العصيان على سبيل الابتلاء دون تفسير لذلك لكن الأبيض جزم بأنه شأن تختص به عدالة السماء وليس لأحد أن يبحث في أسراره !..
لم أرغب في التطفل على أسرار الآخرين لكني أعتقد أنه لا يليق بالسماء أن تغضبها أسئلتي فأنا على الأقل لا أتطلع إلى منافستها .
طيب العدالة مثلاً بالمرصاد لقاتل الجثة .. لكنها تتعطل أمام قتل المشاعر .. أو اغتيال مستقبل .. أو اغتصاب كرامة .
هي بالمرصاد لمن سرق أوراقاً نقدية لكن قاموسها لا يطال سارق السنين .. أو بسمة على فم طفل .. أو حلماً كاد أن يتحقق .
إذا كان رمز العدالة على الأرض امرأة مفتوحة اليدين معصوبة العينين فلماذا أمنح الثقة لعدالة يقودها فاقد بصر ؟!..
كانت نقلة خاطئة من الأسود في إقناعي بأن العدل في الأرض لا يشبه مثيله في السماء فذلك يعني أن أحدهم هذه المرة قد قام بتقسيم الكون إلى طابقين لكل منهما عدالته .. إذن فهل أنا مدينة بالولاء لعدالة تقيم في طابق آخر !!..
انضم الأبيض من جديد موجهاً إلى مهمة العقل الجليلة في فهم الفكرة ولم يتقبل مني بأن الفكرة نفسها تولد أساساً خارج العقل بل وتموت بمجرد وصوله إليها لأنه يبتلعها ثم يقطّعها حسب ما يريد ..
تبقى قطرة المطر نقية إلى اللحظة التي تلامس فيها الأرض ثم تنحل في ذراتنا فتفقد عذريتها ونقاءها .. كذلك تطرد الرئة هواء الزفير من بيتها في كل ثانية وهي التي استقبلته للتو استقبال الشهيق المنتظر !..
لم يفلح الأبيض في إقناعي بأنه شخصياً استمر في ولائه لأمه حتى النهاية وأنه لم يكن سعيداً بموتها وقد أصبحت عبئاً ثقيلاً عليه !..
كذلك فعل مثيله الأسود حين أراد أن يحشر في أذني أنه قادر على إيقاف رغبته المتجددة في القتل بأشكاله والسرقة بأنواعها والاغتصاب بمعانيه .. بالطبع لن يفلح .. القذارة لا تغادرنا لمجرد أن نتمنى منها ذلك .. بالنسبة لها ليس سبباً وجيهاً !!.
أحسست بغضبه المكتوم حين طلبت منه أن ينظر إلى بطنه ليكتشف أضخم معمل لصناعة البراز !!..
لم ينجح الزائران رغم جهودهما المخلصة في تحريري من شرك ذلك التمرد العضال فاستأذنا بالانصراف بعد أن أبديا كل الاستعداد لدعم أسرتي المنكوبة ..
أغلق أبي وراءهما وعاد بسؤال يحتبسه في فمه عن سبب نظراتي المستغربة إلى لباسهما ؟. لم يكن سبباً مهماً .. مجرد أنني تذكرت أستاذ الفيزياء حين أخبرنا مرة بأنه لا وجود للأبيض والأسود بين ألوان الطبيعة .
ابتسم أبي .. فضحكت أمي وقهقه أخي وأنا أقف بينهم مثل شر البلية لكن الجميع قرروا عدم الاستسلام للكارثة
08-أيار-2021
09-كانون الثاني-2021 | |
12-كانون الأول-2020 | |
20-تموز-2019 | |
كتاب إبراهيم محمود " وإنّما أجسادنا " : غواية قطافها قبل الأوان |
17-تشرين الثاني-2015 |
24-تشرين الثاني-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |