قبل احتجاجات النجمة السينمائية العالمية الحنونة بريجيت باردو " ماما تيرزا الحيوانات" على وحشية المسلمين تجاه الحيوانات بعقد ونصف، حضّ إمام الجامع الكبير المصلين على الصدقات والبر، وذكر ملا سيداي سعد الله كم سبي في خطبة الجمعة تلك ، طائفة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تحث على الخير والإنفاق والإحسان إلى الحيوانات ، منها حديث المرآة التي دخلت النار في قطة حبستها وحديث الرجل الذي دخل الجنة في سقية كلب واقسم انه لولا هذه الحيوانات العجماء لما سقينا ..

وسبب الخطبة وعلتها إن الحمير انتشرت في الشوارع والاسواق تضايق المرور ببلادتها وبطء استجاباتها لزمامير السيارات وصيحات باعة الخضار ولهو الصبية بتعذيبها ودسّ النشادر و الفلفل في مؤخراتها، الأمر الذي أدى إلى
رفستين موجعتين للصبي خير الله والولد الشقي حجازي .. أما سبب تكاثرها الكبير فأنه بعد انقضاء موسم البطيخ عادة ما يتخلى البستانيون وزرّاع البطيخ عن حميرهم لصعوبة رعايتها في الشتاء الذي يقل فيه الكلأ ويصعب تأمين "إقامة" لها، وربما كان احد الأسباب الإضافية في زيادة أعدادها هو سيارات التويوتا اليابانية التي كثرت في ذالك العام الذي فاض بالخير . ورغم حياد نبر الملا فوق المنبر الخشبي ورتابة الإلقاء المعهودة فقد كانت استجابة المحسنين كبيرة إذ تجمع على السجادة التبرع خمسمائة وأربعين ليرة، بل ان فكرة إيواء الحيوانات الشاردة كانت للمصلين أنفسهم، وقد تلت مفاجأة المبلغ الكبير المحصول ان الحاج تخوبي حجز لنفسه قصرا في الجنة فتبرع بأرض عقارية كبيرة تقع على الشارع الرئيس وجعلها وقفا للحيوانات الشاردة والمريضة ثم تلتها مفاجأة ثالثة بأن تبرع المزارع الحاج إسماعيل ابن شمسة الحاتمي بعلفها لمدة عام كامل.. فارتسمت ابتسامة على وجه الملا سيداي سعد الله كوم سبي ودعا لهم بالجنة، واقترح ان يحوّل المبلغ لإغاثة الملهوف وأودع لدى الملا عبد العزيز كاكا، وهو من الوجوه البلدة المعروفة وأفاضلها. ولأنه يقضي نهاره في محلته في بيع الأقمشة في وسط شارع ( المال فاتورة) والمفاجأة الرابعة ان الطبيب أحمد خالص تطوع لمعالجة جروحها سرا دون ان يخشى إيذاء مشاعر البشر كونه طبيب بشري أولا، ولما اقترح الملا منحه ليرتين مقابل مداواة كل بهيمة من بهائم الله قال الطبيب ان هناك من دفع له اكبر من هذا الأجر، وقد قبضه وحوله إلى حسابه في البنك الإلهي فابتسم الملا الوسيم لجوابه الكريم، وافتر ثغره عن ابتسامة بيضاء و لحية اقصر من قبضة اليد ومرسومة بإتقان شديد تبدو فيها لمسات أنامل زوجته الجميلة السيدة ديا عبد السلام سيدا وضربات منقار مقصها المزقزق.بنى البنّاء هوستا عيسى باللبن الطيني حائطا في علو اليافع لما سميناه نحن الصبيان حديقة الحيوانات، و صنع النجار ملا رشيد بابا عريضا للحديقة ،تستطيع عربة عبوره مرتاحة، وامتلأت الحديقة بالحمير والبغال، وقد انضم اليهم تاليا حصانان عجوزان بلغا سن التقاعد هما حصان يوسفي صور وفرس بائع المازوت حجي اميني كورمي .
كان في كل بيت من بيوت البلدة تقريبا حديقة حيوان صغيرة فيها غالبا او احيانا نعجة او بقرة أو ديك ودجاجات وإوزا أرانب ووبطا ، وطبعا قططا مشتركة " الملكية" بين بيوت الحارة ، لكنّ سعادتنا بمشاهدة كل هذه الحيوانات في صعيد واحد كان كبيرا. كنا نهرب من المدرسة ونقف لنتفرج وكأننا لم نر في حياتنا حميرا، وقد سعدنا أكثر بمشاهدة عروض (التكاثر) وقد علّق خضرو، بائع النُقْل، قائلا انه يخشى ان تكسد بضاعته من مجلات البلاي بوي التي كان تهرب له من بيروت بعد تلك العروض البورنوغرافية المجانية .ثم طالت وقفاتنا بعد ان ولد بغل صغير يقفز وينط مرحا فتنط معه قلوبنا، بل ان الصبي صلاحي قوب كان يمارس هواية ركوب الخيل بالقفز من فوق الحائط على ظهور الحصان العجوز مباشرة ويلكزه لكزا عنيفا دون ان ينجح في إقناعه بالمشي فيكتفي بمتعة الركوب الساكن أو ما يسمى في لغة العلوم (بفروسية السيموليشن).. كما استفاد اوسي رشاد من الروث الذي صار يجمعه بيسر ، ويبيعه سمادا للحدائق أو وقودا للشتاء .كان من المتوقع ان تزداد أعداد الحمير إلا أنها نقصت بعد قدوم خبراء روس مختصين في مص النفط من باطن الأرض بممصات أنبوبية معدنية ، وقد انتبهوا إلى كنوز اللحم الكثيرة المنتشرة في الدروب و القرى المجاورة فاقتادوا ليلا ما (تعثرت) به سيارتهم ( النيفا والراف) إلى مخيماتهم مسبقة الصنع وخزنوها في المجمدات وتنعموا بلحمها شيا على الغاز الذي تزفره الأرض عبر مداخن عالية. بعد ان تلاشت الحمير الشاردة من أنحاء المخيم وقلّت (حوادث) السيارات الروسية، اقنعوا الشاب باسطي بتهريب حمار أسبوعيا مقابل عشر ليرات (ما يساوي يوروين) فطار من الفرح على ظهورها إلى سيارات الروس ليصطدموا بها ؟ تودد باسطي إلى الصوفي صالح راعي الحديقة والمكلف برعيتها وتطوع لمساعدته في تعليف الحمير بتفريغ اجولة التبن الجاف ، ومتح الدلاء من البئر لسقايتها. سمع صالحي متأخرا ان باسطي يستغل ضعف بصره في سرقة الحمير الشابة إلى مسلخ الخبراء الروس ، باسطي أسرّ لأصحابه انه مستعد لسرقة الحمير مجانا للروس ، ويقول بخبث: اجري اقبضه سلفا من رؤية الروسيات المصقولات العوارض والأفخاذ ،ثم يلحس شفتيه بلسانه اللعوب وقد سخط عليه كثيرون بعد سرقة مهر صغير ولد في كنف الوقف فاقسم انه قد سرقه للرياضة ولهو الأولاد الروس لا للطعام و(الحوادث).
كانت الكلاب تتكاثر في بلدتنا ايضا، إلا ان علاج (القنبلة السكانية الكلبية) كان بيد رئيس البلدية ، ما ان تزداد أعداد الكلاب حتى يكلف شرطيا اسمه عيسكا باعدمها، كل الكلاب كانت تعرفه ، وتطلق ساقيها للريح ما ان تراه ، كان صعبا اصطياد الكلاب ، كما ان المؤمنين كانوا يتحرجون من لمسها ، بعد سنوات أصيب عيسكا بمرض صيره نحيلا مثل العود وقد اجمع الناس ان الله انتقم للكلاب منه.
استفاد الأولاد من وقف ( إغاثة الملهوف) أكثر من مرة في الذهاب إلى السينما عدة مرات مثل دلو ابن وضحة الذي احتال على الملا عبد العزيز مرتين مدعيا انه كسر الوعاء الزجاجي الذي طلبت منه أمه إحضار اللبن فيه، فأعطاه في المرة الأولى ثمن الوعاء واللبن المهدور و في المرة الثانية لعب الفأر في عب الملا فاشترى للغلام المحتال وعاء فأخذه دلو وباعه ودخل بثمنه فلم " الزهرة والحجر" ثلاث مرات ثم قطع الملا عهدا إلا يصدق ولدا بعد ان تكاثرت عليه طلبات تعويض الأوعية الزجاجية المكسورة : كذابون ..من أين جاءتكم الأوعية البلورية يا رؤوس العجور، إذا كانت أوعيتنا كلها من الجنكو والبافون والستيلو..
حاول رضوان إقناع الملا سيداي كم سبي تحويل بعضا من مال الوقف لدعم مكتبة الجامع فرفض لأنه كان فقيها شافعيا يحرّم (الاستبدال) فما أوقف للحيوانات فهو لها وما أوقف للملهوف فهو له. لكنه وعده خيرا، وبعد أيام تبرع للمكتبة بمائة ليرة من زكاة ماله وصدقات أصحابه فدعم رضوان المكتبة بعدة تفاسير جديدة للقرآن الكريم ، ومجموعة من الكتب مثل كتب عبد الحميد جودة السحار، وكتاب الصورة الفنية في القرآن لسيد قطب و كتابا المنفلوطي، وكتابا للرافعي، وابن الجوزي، وعبد الودود يوسف، وكتاب وحيد لنجيب محفوظ عنوانه دنيا الله، ومجلة مسلسلة مصورة للأطفال اسمها إسراء ، كانت تتميز ببراعة رساميها والتي تفوق أخراجا مجلات هذه الأيام التي تصدرها الدولة فلا تستطيع ان تفرق فيها بين الديك والثور لرداءة التصوير والرسم، ومجلة حائط بمسابقة شهرية يعدها ويحررها رضوان الطالب في كلية الآداب في السنة الثانية ويرصد لها جائزة غالبا ما تكون كتابا قيما.
لم يدم تمتعنا بحديقة الحيوانات سوى عامين. في الشتاء الثالث ظهر جهاز سميّ (بالفرع)، والذي كان سريا في السابق، ينتقم من خصومه بالطريقة الروسية ، (طريقة الحوادث) وقد وقف رئيسه المعين لتوه المكنّى بأبي نضال أمام الحديقة التي استحسن موقعها ورحابتها وسأل عن ملكيتها فقيل له بأنه وقف؟ لم يستوعب أبو نضال معنى الوقف؟ فسأل، فعرف له احد العارفين: بأنه مال الله، الوقف معناه الحبس ، الأرض مال موقوف لخدمة المسلمين . أمر أبو نضال "عناصره" بالنضال فجلبوا الملا الوقور موجودا مخفورا، فعنفه لعبثه بأموال الناس والاحتيال عليهم وأمر بإعدام الحمير أمام عيني الملا ، وبشّره بانتهاء عهد الصدقات والتسول والرجعية وان عصر الجماهير والثورة والاشتراكية قادم.. ولم يعرف سبب دموع الملا على وجه التحديد هل هي على الحيوانات الوديعة أم على الإهانة التي تعرض لها في شيخوخته. ولكنهم لحماقتهم أعدموها في الحديقة فتعذبوا في نقلها! راكموا الجثث قرب مقبرتي المسلمين والمسيحين المتجاورتين دون دفن فجرّت الجثث ذباب البلدة والقرى و الدول المجاورة إلى درجة ان الموتى تضايقوا من طنينها و(نضالها)، وسرعان ما جرفت ارض حديقة الحيوانات بشفرة البلدوزر الوحيد في البلدة دون دفع أجرته ، فأزيلت روائح الروث "الزكية"، التي تفوح منها ذكريات نباتات عطرية لم تهضم جيدا ،واستقدمت غرف مسبقة الصنع في شاحنات طويلة وأقيمت في الأرض . ركبت الغرف بسرعة وبني "مطب" أمام المبنى، لتخفيف سرعة السيارات عند العبور والمطبات كانت توضع أمام المدارس عادة ، كما أقيمت غريفة خشبية للتدقيق في المجلوبين و رفعت صورة عملاقة لـ(ـه) في أعلى ما كان وقفا، ثم بدأت إجراءات (نضالية) سريعة لتعقيم البلدة من الأفكار الرجعية:مصادرة المكتبة سوى القرآن ثم أحرقت. تشجيع غير مقصود لأداء الصلوات في أوقاتها، بإغلاق الجامع في ما خلا أوقاتها ( تقنين العبادة في ساعتين في اليوم تقريبا) اعتقال رضوان بتهمة إصدار جريدة حائط دون ترخيص و توقيف أحمد خالص بتهمة اقتناء كتب ممنوعة في عيادته.
تحولت الحديقة إلى( أبو غريب) محلية مبكرة، أول أصوات الم تعالت منه كانت ولاويل الدكتور احمد خالص والأستاذ رضوان ثم انضم إليهم جورج عبد الأحد الذي كان اخترع طائرة صغيرة لمشروع التخرج من كلية الهندسة وكانت بحجم ديك رومي تطير بالريموت كونترول والذي كان في حجم خزانة، وفي العام نفسه ولدت صبحية دلوفان ولدا أصم أقسمت ان السبب في عاهته هو أصوات التعذيب الذي كانت تسمعه من بيتها المجاور للحديقة. وصودرت أموال (إغاثة الملهوف) حرصا على إنفاقها في محلها ..تحول الوقف إلى مكان توقيف لنخبة أبناء البلدة و إلى حديقة تعذيب تسمع منه استغاثات وعويل على أنغام العصي و ألحان الكبل الرباعي والرقص على الدولاب والطيران على بساط الريح بدون أجنحة إلى ان صدر قرار بعد أربعة وعشرين سنة من (النضال)! بضرورة ترحيل الموقفين فورا إلى العاصمة، إلى (الأصل) على ان لا يتجاوز توقيفهم في (الفروع) أكثر من أربعة وعشرين ساعة وذلك لوقف مسلسل (الإساءة) إلى الموقوفين؟
في هذه الفترة الطويلة بالنسبة لجيل، القصيرة بالنسبة للتاريخ، جفت مآقي الغيوم من الدموع، بل ان السحاب غير سكته، وكفت البلابل والشحارير من العبور فوق البلدة المنحوسة، وتصحرت السماء تماما، واختنق نهر البلدة في منابعه وتحول مجراه الذي كانت تلمع فيه الحصى كالجواهر و"تغرد" فيه الضفادع، إلى مجرور للأوساخ والأوبئة، ونهبت المخازن المائية الجوفية نهبا وتشققت الأرض من الوحشة والكمد ويبست الأشجار وتحولت إلى أعمدة لتزيين أيام الثورة وأعراسها والى قضبان وعصي للتعذيب، ولم يعد احد يتصدق بقرش على إنسان فكيف بالحيوان؟ لكن ، شهادة لله، فقد بقي أمر واحد في مكانه واقفا ، صامدا، ثابتا، مقدسا، وهو الشاخصة الحديدية العملاقة، إلى جانب صورتـ(ـه) في أعلى "الفرع" والمدون عليها بخط رقعة بدائي؛ أهداف الثورة ..المباركة.