الشعر السوري خارج مكانه: تشكل علاقة جديدة مع الجمهور
ابراهيم اليوسف
2017-06-24
أقيم على امتداد ثلاثة أيام متتالية وفي الفترة ما بين 30 مايو/ أيار الماضي و1 يونيو/ حزيران الجاري مهرجان أيام الشعر السوري في ميونخ - ألمانيا، والذي شارك فيه 14 شاعرة وشاعرًا، وهم: بكري حنيفة - فايز العباس - حسن شاحوت - محمد زادة - رشا حبال - فادي جومار - رامي العاشق - مها بكر - درغام السفان - إبراهيم اليوسف - فدوى كيلاني - هيفين مشعل التمو - فواز قادري - سعاد الراوي. وقد غاب عن المهرجان كل من: محمد المطرود - إبراهيم الجبين - لينا الطيبي، الذين كان من المقرر أن يشاركوا فيه.
الشعراء المشاركون في المهرجان يمثلون مختلف الأجيال والمدارس الشعرية، وأكثرهم ممن هاجروا إلى ألمانيا بعيد الحرب على السوريين التي لا تزال قائمة، منذ انطلاقة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011 والتي واجهها النظام السوري عبر اللجوء إلى ممارسة أقصى أشكال ودرجات العنف، ما أدى إلى تهجير ملايين السوريين إلى بعض دول الجوار، وإلى أوروبا، وكانت لألمانيا الحصة المائزة من هؤلاء المهجرين والمهاجرين.
وإذا كان الشعر السوري قد واكب الثورة، وتفاعل معها، من خلال رصد حقيقة ما يجري، فإن هؤلاء الشعراء الذين تبنوا الثورة مع أبناء بلدهم في وجه آلة الدكتاتور ظلوا أوفياء لذويهم، بالرغم من كل التحولات التي جرت لتلك الثورة التي انحازوا لها أو انخرطوا فيها. وقد تمت هذه التحولات نتيجة التآمر الذي تم على السوريين، من قبل جهات كثيرة، ما آزر النظام على ديمومة كرسيه، طوال ست سنوات ونيف، ليدفع السوريون أعظم ضريبة في العصر الحديث، إذ إنه لا يزال نهر الدم السوري يجري، كما أن ملايين المنازل تهدمت فوق رؤوس أصحابها، ناهيك عن المعابد، والمؤسسات الرسمية، والمدارس وغيرها، ما أدى إلى هجرتهم خارج مهادهم الجغرافي.
وطبيعي أن ينهض سؤال الشعر أنى كان الشاعر، لا سيما من لدن من يعد نفسه صاحب قضية، وهم، وحلم، وهو ما ظهر جليًا خلال السنوات الثلاث التي مرت والتي شهدت لجوء السوريين إلى مهاجرهم عامة، سواء أكانت دور الجوار المشار إليها، أو أوروبا، وفي مقدمتها ألمانيا. ولا يفتأ الشاعر الأصيل يعبر عن ارتباطه بإنسانه، ومكانه، وهو ما تم التعبير عنه عبر تواصله مع جمهوره الواقعي الجديد، إضافة إلى مدونته الافتراضية، بعد طويل استغراق في عالم هذه الأخيرة التي لم تستطع، بالرغم من شساعة حدودها، أن تغنيه عن جمهوره الواقعي، بعد أن اغترب عن مكانه، ووسطه الحيوي، ووجد نفسه أمام جمهور جديد. هو في الحقيقة جمهور جزئي، إلا أنه لا يستهان به، إذ طالما وجدنا تلك الفعاليات الأدبية والفنية التي حقق فيها التفاعل بين المبدع السوري ومتلقي خطابه ابن مكانه ونخبة مستضيفيه الذروة.
ثمة نويات ملتقيات، ومهرجانات سورية عديدة بدأنا نلمسها لا سيما في ألمانيا، يلقي شعراؤها - في الغالب - قصائدهم باللغة العربية أو حتى الكردية بالنسبة لبعض الأمثلة الكردية، إذ إن هناك من هم سباقون في هذا المجال، واستطاعوا أن يخترقوا حاجز الانزياح المكاني، وهو في حقيقته مغامرة كبيرة، أثبتت جدواها وفعاليتها. وقد أصبحنا نجد أن دائرة إقامة مثل هذه الأنشطة صارت تتوسع، كما أن دائرة أسماء المشاركين فيها باتت تزداد، ومن بينها أسماء معروفة تنتمي إلى أجيال سابقة سبعينية او ثمانينية أو تسعينية، قياسًا بالحضور الجيلي الحالي، ومنها أسماء جديدة تنتمي إلى العقد الأول من الألفية الثالثة، أو حتى منها من ينتمي إلى العقد الثاني من الألفية نفسها.
علاقة جديدة
إذا كان جمهور الشاعر السوري في مغتربه منتميًا إلى مهاده المكاني الأول في أكثره، فإننا لنلاحظ أن علاقة جديدة بين الشاعر وجمهوره باتت تتشكل، ضمن فضاء الحرية، وكسر الحدود بينهما، على صعيدي حجم هذا الجمهور وطبيعته، فقد تم - وبشكل تدريجي - افتقاد المراكز الثقافية الرسمية وفروع اتحاد الكتاب العرب ومركزه لجمهور الأدب والثقافة - بعامة - وجمهور الشعر - بخاصة - إذ أتذكر مقولة لأحد الشعراء الذين زاروا مدينة قامشلي في سبعينيات القرن الماضي - وكانت أزمة العلاقة المذكورة في بدايتها - وهو الصديق الراحل إسماعيل عامود قال فيها: على أي شاعر بعد اليوم أن يصحب لضمان حضور الجمهور راقصة معه، بعد أن لم يحضر الأمسية إلا بضعة أشخاص، وكان جواب أحد أدباء المدينة له، وهو محمد نديم، ملتمسًا العذر عما تم: حدث هذا لأن توقيت الأمسية يصادف توقيت مباراة كرة قدم في الملعب البلدي، على بعد مئتي متر أو أقل من المكان.
أتذكر أنني قلت بعفوية: ثمة أمسيات نقيمها في بيوتنا ويحضرها جمهور كبير ومميز...!
أجل. إن جمهورًا جديدًا بدأ يستقطبه الشاعر السوري، في مغتربه. إنه جمهور الأمر الواقع، لكنه جمهور مختلف عن جمهور الأمس، وإن كان الشاعر هو نفسه الذي خسر رهان العلاقة مع جمهوره المكاني، إلا أننا أمام وجوه جديدة نكاد لم نر الكثيرين منه في أمسيات الأدب والشعر، من بينه ندرة من مكونات جالية ما قبل الحرب، لكن أكثره من طفرة جمهور ما بعد الحرب. جمهور ما بعد الثورة الذي قصد المهجر منذ 2011، وفق خط بياني بلغ أوجه في أعوام 2013-2014-2015.
إن التفاف الجمهور الجديد حول الشعر والشاعر يكاد لا يكون امتدادًا للعلاقة بينه وهذين الطرفين، إذ طالما كانت الأمسية الشعرية الرسمية تعد جزءًا من عقاب الجمهور الذي يبدأ مع سوق ثكنات طلاب المدارس المتوسطة والثانوية والمعاهد والجامعات، بالإضافة إلى الموظفين، تبعًا للثقل الرسمي لشخصية الشاعر ومناسبة الأمسية التي كانت إما استذكارًا لحرب تشرين التحريرية - التي خسّرت البلد جزءًا جغرافيًا جديدًا ولم تحرر شبرًا واحدًا - أو احتفالًا بذكرى ميلاد حزب البعث أو انقلاب آذار/ مارس الذي طالما سمي بالثورة، ناهيك عن الانقلاب الأكبر الذي وصل بموجبه الأسد إلى كرسي الرئاسة وسماه: الحركة التصحيحية "المباركة" التي لا يزال السوريون يدفعون ضريبة وطأتها، أرواحًا، ودمًا، وهجرات، وخرابًا، وبات جواز السفر السوري تهمة ومدعاة عار في مطارات دول العالم..!
تتأسس العلاقة الجديدة من قبل الجمهور مع الشعر والشاعر - في ظني - انطلاقًا من أن هذا الفن يسعى لاستحضار صورة الوطن، ورائحته، ويستشرف مستقبله، بعد أن شهد بأم عينه محاولات نحره، ووأده. هذه النوستالجيا المركبة تجيب عن الأسئلة الروحية التي تتأجج في نفسه، بعد أن يئس من اللازمة المكررة لنشرات الأخبار اليومية التي يتابعها، عبر وسائل الإعلام المقروءة منها، والمسموعة، والمرئية، وفي هذا ما يسجل للشعر، ليس لأنه بات على طريق تجديد دورته الدموية التي تجرثمت خلال عقود ثقيلة الوطء من قبل نظام حزب البعث الذي حكم البلد بالحديد والنار منذ العام 1963، بل وبعد سقوط من ارتدوا قناع ثورة السوريين السامية، لتحقيق أغراضهم، للتعويض عن إحباطاتهم التاريخية المزمنة، وللوصول إلى سدة السلطة، المحلوم بها، من دون أن تتوافر فيهم شروط البديل الثوري، وإنما هم طلاب سلطة فحسب لأنهم، وعلى اختلاف مشاربهم، وتضادها، إنما يعانون من متلازمة التسلط نفسها التي باتت مكشوفة أمام عيني المتابع المحايد.
معادل استعادة الذات
من هنا نجد أن الشعر، في نقلته العيانية، المشخصة، هو معادل الوطن، هو معادل الحلم، هو معادل استعادة الذات، هو معادل انبعاث الحياة من الرماد أو معادل القيامة، في نظر الجمهور الجديد الذي يتشكل خارج مكانه، وربما خارج مسار فضائه الزمني وهو جمهور مغاير. جمهور القهر الذي يريد استعادة نفسه، وذلك لما لدى الشاعر - وحده - وعلى خلاف سواه من إمكان عدم الغرق في تفاصيل لحظة الانكسار وحدها، وإنما استشراف الآفاق، واستعادة فردوس الوطن الذي تحول إلى مستنقع من دماء وأشلاء وحطامات، أمام مرأى العالم الذي يعرف من هم وراء كل ما يدور، لأنه يفوق قدرات مجرد طاغية، أهوج، جبان، لا يستطيع في قرارته مواجهة مجرد جرذ في غرفة نومه..!
لم أرد الاستشهاد بنصوص المهرجان، لأنني اطلعت على بعض نصوص اليومين الأولين من أيامه الثلاثة ورقيًا فحسب لأتابع ما قرئ في اليوم الثالث وحده، حيث كانت مشاركتي الشخصية، وإن كان من الممكن اتخاذ محاور كثيرة من عوالم هذه النصوص شكلًا ومضمونًا، حيث هناك تجارب عديدة لافتة، سواء من قبل الأسماء الجديدة زمانيًا، أو السابقة عليها، وفق المعيار ذاته، إلا أنني آثرت تناول ما يشبه الظاهرة في العلاقة مع هذا الجمهور من خلال أكثر من مهرجان أتيح لي متابعته، والمشاركة فيه، أو الإشراف عليه. ولعل هذه العلاقة الناشئة تستحق قراءة سيميائية، مقارنية، عميقة، حاولت هنا، مجرد وضع بعض أبرز عناوينها، ومحاولة رسم بعض عناوينها لا أكثر.
ومن الملاحظات التي يمكن تسجيلها على هذا المهرجان عدم ارتقاء الحملة الإعلامية المصاحبة له إلى المستوى المطلوب، وذلك لأسباب عديدة، لا مجال لذكرها، وإن كانت هناك لجنة تحضيرية للمهرجان، من أبرز وجوهها الشاعر السوري فواز قادري والقاصة والمترجمة التونسية كوثر التابعي التي ترجمت جميع النصوص المشاركة في هذه الأيام، وقال فيها الألماني كيرهارد الذي كان قد أشرف على الترجمة إنها استطاعت أن توصل فكرة جيدة عن النصوص المشاركة وراح يسمي بعضها، وقد علمت أن هذه النصوص سوف تطبع في كتاب باللغتين العربية والألمانية لتكون إحدى قنوات التواصل بين أيدي قراء اللغتين.
ولئلا أكون مجرد متابع تنظيري، لأيام شعرية حضرها جمهور سوري وألماني، وفي ذروة الصيف الألماني اللاهب الذي لا يطاق، لا سيما في قاعة صغيرة نسبيًا، فإنني سأحاول إيراد مقاطع شعرية لشاعرين مشاركين، شاعر وشاعرة. الأول فواز قادري، الذي كان وراء فكرة المهرجان، والثانية هيفين التمو، ابنة أحد أوائل شهداء الثورة السورية، مشعل التمو، الذي عد من أخلص الدعاة للثورة السورية ودفع حياته على أيدي أجهزة وأزلام النظام السوري بعد أسابيع من إطلاق سراحه من السجن، وبعد أشهر قليلة من عمر الثورة السورية العظمى.
فواز قادري
يقول فواز قادري الذي يعد من أوائل من أصدروا مجموعاتهم عن ثورة السوريين في أحد النصوص التي قرأها وهو من ضمن مجموعته الجديدة "مزاميرالعشق والثورة":
سورية مجزرة البث المباشر
اللعنة أيها العالم، اللعنة..
.... وها أنا حزين وفارغ كناي من القصب
على منوال كل ريح تعبرني أغني
....
يفرك أصابع يديه حيرة
أكتشف أني لست وحيدًا تمامًا
ما دمت أنتظر أن تمر رائحتك من هنا
لأفتح سمائي وهوائي عليها وللطيور...
هيفين التمو
وتقول هيفين التمو والتي صدرت مجموعتها الأولى "حين أضاعت الحرب طريقها" قبل أسابيع ومنها هذا النص المعنون بـ"في الذكرى الرابعة لرحيل أبي" الذي قرأته:
صار عمري أربع سنوات مسيجة بتراتيل قديمة
قبل أن أولد كان لي طفلان
حبلت بهما وأنا معلقة من سرتي
وأم ظلت تلملم أيامها ما بين السجون والمعتقلات
إلى أن فاض بيتها بجثة أبي
أنا 7 أكتوبر 2011
كان الوقت مساء حين انتظرت أبي ليستيقظ من موته
يقرأ لي نصًا من كتاب في السياسة
أعجز عن مجازها
أو يمسح عن جبيني ملامح للحب الذي أتعبني
......
...
صار عمري أربع سنوات يا أبي
وما زلت نائمًا في سريرك
وما زالت أمي تهرول بجمجمة محروقة بالذكرى..
ضفة ثالثة