صادق جلال العظم وماهية الحب العذري
2007-02-14
يقول ابن حزم الأندلسي: الحب ــ أعزك الله ــ أوله هزل وآخره جد دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف.اذ القلوب بيد الله عز وجل، وقد احب من الخلفاء والأئمة الراشدين كثير (....) وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه انه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع (....) وقد علمنا ان سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال، ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب ألا يستحسن ألا نقص من الصورة ونحن نجد كثيراً ممن يؤثر الأدني،ولا يجد محيداً لقلبه عنه" وهكذا، نجد ان قضية الحب قد شغلت الأدباء والشعراء والكتاب منذ سالف العصور وحتي الآن،مثلما شغلت الانسان: أي انسان كان،ولعله من المواضيع التي لا يمكن أن تستنفذ، فهو موجود بوجود الانسان والطبيعة والحياة،بل ويسهم في استمرار دورة الحياة نفسها، وذهب الدارسون عبر التاريخ الي تحليل الحب، وتبيان، علاماته، وضروبه، ودرجاته.... الخ.
في كتابه (في الحب والحب العذري) وفي دراسة تعد فريدة من نوعها عن الحب يأتي الدكتور جلال صادق العظم مستنداً الي المنطق والتحليل والاجتهاد بالبرهان علي حقائق ربما كنا نغفل عنها أو اننا لم نلق لها بالاً اعتقادا بانها أمور ليس بمقدور أي شخص أن يناقشها لأنها لا تعمم.الكتاب مقسم الي أربعة فصول: الفصل الأول من كتابه ممهد لدراسته ويري فيه ان الباحثين والمفكرين وكل من اهتموا بظاهرة الحب ان كانوا يحاولون جدلاً، أن يضعوا تعريفاً للحب متضمناً كافة جوانبه حيث يري ان (العلم به قائم علي التجربة الحية والمعاناة الوجدانية الشخصية المباشرة) ويري انه إذا لم نستطع أن نجد تعريفاً للحب فان ذلك ليس يمنعنا من خصائص له، وان الذي مر بالتجربة الحقيقية والحية يغنيه ذاك عن الآراء السابقة أو الفلسفية. وينتقل الدكتور العظم الي بيان الخلاف بين الرغبة الجنسية والحب فيري ان الحب علي خلاف الرغبة الجنسية يتصف بانه ينتقي ويميز، أما الرغبة الجنسية فانها تعتبر الموضوعات الجنسية هي الأهم من دون تمييز أوانتقاء، ويذهب الي أبعد من ذلك حيث يري أن موافقة بعض الأشخاص علي علاقة الحب عائدة الي مظاهر الكبت التي فرضت علي هذا الشخص وحينما وجد بريقاً من الأمل والحياة حاول جاداً ان يتمسك بهذا الحب (الذي هو يعده حباً) مع انه في الحقيقة لو حاول الشخص أن يفسر حالته تلك،فان ذلك لا يمس الحب بشيء، انما هو مصادفة فحسب، وأري أن التفكير هو أسرع الوسائل الي الحب حيث ان الشخص الذي يكثر التفكير في المحبوب يفرض علي نفسه حالة الحب.
كذلك يري الدكتور العظم ــ وأوافقه علي هذا الرأي ــ ان الحب يزدهر بعد المرور بمرحلة الانجذاب الجنسي وتخطيها وان المحب يجعل محبوبه الوحيد الذي يسيطر علي تفكيره في البداية برغبة منه ان يجعل نفسه عاشقاً، ثم تحت ضغط الحب الذي فرضه علي نفسه أي لا يكون طواعية.
ويذهب الدكتور العظم الي انه حينما نعشق فذاك ليس بالالزام الذي يقتضيه الواجب بين الزوجين وهو ان يقدم الواحد التنازلات للآخر،فعشقنا هو الطواعية في التقديم للمحب ما عنده، ويؤكد انه لما كانت الآراء تتفق بان الجمال الجسماني له دور في الحب فان ذلك ليس البتة صحيحاً، وانه لا يوجد تناسب موزون مع محاسن المحبوب ومفاتنه،ويري انها مفارقة حقيقية الدمج بين الحب والصداقة برغم كل مايجمع بينهما،فكلاهما قائم علي المودة والثقة والتعاطف، ولكن الصداقة لا تميز ولا تتأثر بالصلة التي تميز المحبين من حيث الشغف والانقياد لبعضهما بعضاً.
وفي نتيجة مهمة أستخلصها يري ما مفاده ان الحب الذي خُلّد وبقي في فكر الانسان هو ذاك الذي تكون نهاياته تعيسة وحزينة، وان هذا النوع من الحب هو الذي ألهم خيال الأدباء والشعراء فنادراً ما يتناولون نهايات الحب السعيدة،حيث ان الحب الذي لا تتجه نهاياته قارعة أبواب السعادة لا يترك أثراً عميقاً في الفكر ولا يلهب الخيال.
وينهي هذا التمهيد بعد أن يكون قد أعطاه حقه من الشواهد التي ان دلت علي شيء فإنما تدل علي ثقافته الواسعة التي تمكنه من شواهد تسعفه في أفكاره، للدلالة علي براهين سواء أكانت حديثة أم قديمة.
يأتي الفصل الثاني تحت عنوان مفارقة الحب : وفيه يخص الحب بخاصتين أو بعدين رئيسين كونه كغيره من المشاعر أو الانفعالات الانسانية،الخاصة الأولي:هي الامتداد في الزمان وكما يقول: هوكيفية شعورية متجانسة لا تطرأ عليها التغيرات النوعية الا ببطء وعلي نحو تراكمي ويأتي بمثال للدلالة حيث يري ان علاقة الحب أحياناً تبدأ بصداقة بين شخصين وحينما يحصل التقارب في وجهات النظر أو.... فلا يلبث ان يضحي حباً، وحين لا يتفاهم المحبون تقتضي الظروف بان يتحولا الي صديقين.
والخاصة الثانية: الاشتداد،مع ان العلاقة بين الأولي والثانية ليست تتصف بالبساطة علي حد تعبير الدكتور، اذ ان الزمن الذي يمضي بالحب قد يقود الي فتوره وانزياحه نحو العدم،وان العلاقات التي تؤدي الي الزواج مع مرور الزمن ستتحول بالتدريج الي علاقات ثابتة ومستقرة بعدما تفقدها الأيام عنفها.
يمضي الدكتور العظم في بحثه ويري انه لو كانت المجتمعات أكثر قابلية في أن تتيح للفتاة حرية التعبير عن الرأي (مجتمع متحضر) في ذاك الوقت الفتاة قادرة علي ان تحب وتُحب وان المرأة التي يعرض عليها الحب سواء استجابت أو رفضت أو تكون مع شخص أو تنتظر شخصاً فترفض ذلك، فان سعادتها تكون بالغة اذ انها تُختار وبغض النظر عن المتقدم شكلاً وثروةً ومنزلةً.
والأمر كذلك بالنسبة للشاب حين تختاره فتاة حتي ولو لم يرغب بها.
ويصل الدكتور الي ان الحب ظاهرة روحية لأن النفس الانسانية لا تخضع لعبارات التذكير أو التأنيث الا مجازاً وان عناصر الرجولة والأنوثة يشترك فيها كل من الرجل والمرأة بعد أن يظهر تأثره الواضح بشخصية دونجوان في مسرحية الكاتب المسرحي الفرنسي موليير وأطلق مصطلح الدونجوانية التي يراها انها المثل الأعلي للحب والدونجوان شخص ذو وجدان شقي كما يراه بناءً علي نظرية الفيلسوف الألماني هيغل، وهو شخص مراوغ وكذاب وقادر علي اجتذاب أكثر من امرأة (ثلاث) في موقف يخدع الثلاث بوقت واحد وهن مجتمعات ويسعي لأخريات كما استشهد هو بكلام المسرحي موليير في كتابه والدونجوان شخص يكره الزواج وشريعة الامتداد وقيمها ومعاييرها ويستخدم كلمة الزواج بغية كسبهن وعاجز عن اشباع نزعات الحب.
وأشار الدكتور العظم الي الصراع بين العقل والنفس الذي تطرق القدماء اليه وذكروه،ويري ان المجتمعات المحافظة تكثر فيها حالات الكبت، والشخص في مثل هذه المجتمعات تقذفه العادات والتقاليد التي يتمسك بها المجتمع والدين ويتهم بالانحراف الخلقي ان هو اعلن عن حبه، وان النزعات الكامنة تتحقق بتحرير الكبت،ويبدي استهزاءه بشريعة الامتداد التي تعد الحب جنوناً،وانه خارج عن اطار العقل والرغبة الجنسية (الوضيعة أو الدنيئة)، ويري ان العاشقين يزداد حبهما للآخر حين يجدان انهما يواجهان المغامرات والمفاجآت ويتصوران انهما خارج اطار الزمان وفي حالة صراع مع الحياة.
وبخصوص المجتمعات المحافظة أو العاشق الدونكيشوتي كما سيأتي معنا أري ان الحب سلاح الانسان في مواجهة صعاب الحياة ومشاكلها، لذلك فإنه علي العاشق المباشرة في اخبار المحبوب بحبه قبل ان يزداد الحب ويحمل مستقبله للماضي ويذهب في سديم من الأحزان اذ ان الحب هو الوسيلة الوحيدة التي نواجه بها شدائد الزمن وحينما ينقلب الأمر الي تصور عكسي يكون الحب رصاصة الرحمة في قلب السعادة.
وجاء الفصل الثالث تحت عنوان الحب العذري والذي يعد الناشر انه (يمزق القناع عن وجوه العشاق العذريين... وانهم كانوا في حقيقتهم شهوانيين) ويعد هذا الفصل أهم محاور الكتاب فهو بمثابة الومضة التي تزيل الغشاوة عن العشاق العذريين معتمداً الدليل والبرهان والحقائق ويهاجم فيه الذين يدافعون عن الحب العذري أمثال: د.يوسف خليف ويصل الي اعلان ان الحب العذري ظاهرة مرضية في أساسها ويضع الدكتور نفسه في مفارقة كبيرة حين يدافع عن الوشاة العذال والأب الظالم للعاشقات العذريات متذرعاً بانهم يتمسكون بالتقاليد والقيم والأعراف، واسأل الدكتور العظم: أي أخلاقٍ هي التي تئد الحب وتدفن المشاعر وتسفك العواطف وماذا كان سيكون موقف الدكتور العظم لو تبادل هو مع جميل الدورأو مع قيس أو...؟
ولقد أوضح الدكتور العظم شيئاً مهماً لنا ولكنه من الخطأ أيضاً أن يدافع عن الوشاة والعذال برغم انه لا تخفي عنه معني كلمة (الواشي) معجمياً أو دلالياً،أو كما يراها هو وهل بحق ان الوشاة كانوا يضحون بحياتهم في سبيل ايجاد حل كما يدعي..؟
كان علي الدكتور أن يتمهل قليلاً قبل اطلاق الحكم والاجتهاد وان العظم أيضاً يحتاج الي عنصر العاطفة التي غالياً ما تقودنا الي مثل هذه القصص كما يفهم من ذلك.
ثم انه في دراسته هذه يصل الي مصطلح العاشق الدونكيشوتي وان هذا النوع من العشاق المازوكيين يسعون الي تعذيب أنفسهم ويجدون في ذلك لذة ويخفون ما يختلج في صدورهم ليتعذبوا وفق طرق يفضلونها، فهم يستلذون بهذا الألم وهو أعمي في تصرفاته ويبني في مخيلته قبل ان يصارح محبوبته سلسة من النتائج وسديم من الحسابات وهالة من البوح، وكل ذاك لأجل مصارحة المحبوب،والعاشق الدونكيشوتي متمسك بمواقف غير مقصودة من المحبوبة ويجعل من دارها كعبة يطوف بها، واستغلال الفرص التي تمكنه من أن يقرأ عليها ما كتب وهم يستمرون في مسيرة الألم والشكوي ومناجاة الطبيعة هذه مدة من (3 ــ 5) سنوات كما يراها الدكتور.
ويذهب الي شئ جد فريد بمقاربة العاشق الدونكيشوتي (مصطلح من الحاضر) والعاشق العذري (مصطلح من الماضي) فكلاهما يود تأمل الحبيبة بدلاً من النظر اليها مع انه قد ذكر ان الدونكيشوتي يتمني الجنس مع حبيبته أوذاك هدفه، وفي موقف جري بين جميل وبثينة استفاد من ان كليهما لا يرغبان بالجنس (وذهب الي اطلاق اجتهاداته) حين حاول جميل طلب الجنس من بثينة واختبارها وقوبل بالرفض فهل يا تري هناك ما يجمع؟
وينتقل الي وضع نفسه في مفارقة اخري حين يخطئ أحد الشعراء صاحب البيت القائل:
نقل فؤادك حيث شئت
فما الحب الا للحبيب الأول
وهل من المعقول ان تكذب الحالة ويصدق الاجتهاد أو يؤلف شاعر نتاجاً يعرضه للنقد وسبب خطئه كما يري الدكتور انه يحاول المزاوجة بين نقيضين لا وسط بينهما الوفاء والوجدان الشقي ولكن الشاعر يستقر في حبه اذ يعود الي حبه الأول بعد سلسة من التجارب ولا يترك حبه الأول لأنه يكرهه ومن ثم يعود لحبه الأول بعد تجارب لا يعرف ان كان سيمر بها أم لا، كما استفاد الدكتور من هذا. ويعود عدم توفيق الدكتور في اجتهاده الي ان الحب لا يعمم بل يعيه شخص، فكل الأشياء تعمم الا الحب لأنه لو عمم ذكرنا مواقفنا نحن أيضاً من الحب العذري.
ويأتي الفصل الأخير بعنوان خواطر أخيرة والذي يعد بمثابة اراء شخصية له، اذ انه يري ان الاتجاهات والقوي الفاعلة في طريقها الي تحقيق ثلاث غايات:
1 ــ خلق أوضاع اجتماعية واقتصادية جديدة تؤدي الي تحرير العواطف والرغبات المكبوتة في الفرد.
2 ــ تحرير جسم الانسان (الناحية الجسمية) من النظرة التقليدية التي كانت تربطه دوماً بالخطيئة والتهلكة والشهوة.
3 ــ تحرير الرابطة الزوجية من قيودها الزوجية. حيث يري الدكتور انه يتم بها الحرية للزوجة في اختيار الزوج وهذه اراء نترقبها جميعاً بفارغ الصبر ويقع الكتاب في (128) صفحة من القطع المتوسط.
08-أيار-2021
15-كانون الأول-2018 | |
24-حزيران-2017 | |
31-تموز-2009 | |
14-شباط-2007 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |