المقاربة السرديّة في تأصيل الهويّة ومواجهة التطرّف
ابراهيم اليوسف
2018-12-15
يُعوَّل على السرد، بوصفه أحد أصناف الإبداع الأكثر تأثيرًا وفاعلية، بعد توسع دائرة حضوره، على نحو عالمي، بأنه قادر على أداء رسالته الرؤيوية الجمالية، بعد أن استطاع امتصاص أشكال فنية وإبداعية عديدة، خلال صعوده المعروف، ناهيك عن عالمه الخاص الذي بات يتطور هو الآخر، عبر قوانين تكاد تكون مرئية، لذلك فإنه بات بمثابة الموشور الذي يمكن من خلاله استقراء اللحظة، ضمن منظوره الوظيفي- في ما إذا اتفقنا على ذلك- بالإضافة إلى أنه حمَّال أدوات عديدة، من بينها ثيمة الحرص على ديمومة ذاته، وذوات ناصه، ومتلقيه، بل ومحيطه المجتمعي، إذ غدا يعزز دلالات مفاصل خطابه، كصورة عن واقع معيش، وتحديات جمة، لا بد من أن تجند في سياق التفاعل معها سائر الأدوات المعرفية، وفي مطلعها الإبداع عامة، والسرد منه، على نحو خاص..!
وإذا كان السرد انعكاسًا للبرهة، من دون فصلها عن بعدي الماضي والمستقبل، بحسب درجة رؤية أي عمل ضمن إطاره، فإن هذا العالم السردي يكون صورة تستمدُّ قيمتها من خلال مقاربة الواقع، أو اغترابه عنه، و ما ينوس بين هذين التوصيفين، ومدى نجاحه هنا أو هناك، إلا أننا أمام أي تنظير غير معتمد على ما هو تطبيقي ننصرف إلى النص الذي يستوفي شروطه المتوخاة، بعيدًا عن أية أمثلة أخرى- وما أكثرها- تجنح عن ذلك، ما يجعلنا نتشبث بهذه المعيارية، إزاء تقويمنا للنص الذي يجسد سمات جذبه لقارئه، وتأثيره فيه، وهو افتراض لا يجافي الواقع أمام وجود نصوص طالما استطاعت توفير جملة شروط حضورها.
وإذا كان الحديث عن تأصيل الهوية جزءًا من عنوان النص، فإن هذا العنوان قد يبدو ملتبسًا، أمام مفهوم الهوية الذي ينطلق من جذور محددة له، كانت ابنة تراكمات زمانية مكانية عديدة، بيد أن ما يطرأ له من تأصيل، وهو نتاج الوعي، إنما ينوس بين: الماضي- الحاضر- المستقبل، كما أشرنا من قبل إلى السرد كمُنتج، له تأثيره، بهذا الشكل أو ذاك، إلى جانب مؤثرات أخرى، تتفاعل معها، في مختبر الوعي الإنساني، بما يكفل خصوصية الذات، بمفهومها المجتمعي، أو الوطني، أو القومي، أو حتى الكوني. إن الهوية- هنا- هي الأخرى، وبقدر تمكنها ونجاحها في ممارسة التأثير إلى جانب التأثُّر، فإنها تستطيع الحفاظ على ذاتها، وتأصيل حضورها، لئلا يكون التأصيل تحليقًا في الهواء أو تجذيفًا تنظيريًا باهتًا- فحسب- من دون أية مقوِّمات تحقق له دورة فعاليته، بما يعنيه من علاقة بالمعني به، وهو يمركز نفسه في فضائه، ضمن معادلة حقيقية، لا يمكن الإخلال بأحد أطرافها، أو أدواتها الفاعلة.
ولا بد من الإشارة، إلى أن هناك إشكاليات كبرى أثناء الحديث عن الهوية- كما يؤكد ذلك على سبيل المثال الباحث أحمد عزيز الحسين-لا سيما عندما نكون أمام جملة هويات، تتبارى كل منها على أنها المعنية، كما أن السلطات السياسية كانت ترى في هويتها هوية دائرة حضورها، ولطالما عمدت إلى قمع الآخر في إطار فرض هذه الهوية، وفي هذا أحد أهم منابع التطرف، لأن مفهوم الهوية يحدده المواطن، وتأتمن عليه مؤسسات قيادات المكان، ولم أقل السلطة بسبب ابتذال هذا المفهوم، نتيجة سوء استخدام هذه السلطة لأدواتها.
وما دام مفهوم الهوية-هنا- على منصة التشريح، فإنه لا بد من ذكر حقيقة أخرى، وهي أن مكاننا يعج بهويات أخرى، وإن كانت غير رسمية، إلا إنها حاضرة، وتمارس خصوصيتها، من دون أن يتم ابتلاعها، إذ لا بد من وضعها بعين الاعتبار، لتكون الهوية وفق هذه الصياغة نتاج ما هو معيش، أو نتيجة انعكاس صورة فسيفساء الخريطة، في أكثر من عنوان حولنا، وهو أمر لا يمكن القفز عليه، ما دمنا بصدد حل كل الإشكالات التي نعاني منها.
ثمة تحديات كثيرة باتت تواجه الهوية، أو لنقل: الوجود، وفي مطلع ذلك التطرُّف الذي تتصاعد وتائره، تدريجيًا، وعلى نحو غير معهود، وصار يغدو بيئة للعنف، وما بعد العنف، لا سيما بعد أن أصبحت ثورة التقانة والاتصالات من ضمن ألفباء العنف، وبخاصة منذ بدايات الألفية الثالثة التي غدا عقداها اللذان مرّا، ويكادان أن ينتهيا، فضاء من التوترات المتلاحقة، كما يشير إلى ذلك الخطُّ البياني للأخطار المحدقة بجغرافيا المكان، بل وبالعالم كله، وإن كان هناك من يتحكم في هذا العالم، بمسارات هذه الأخطار، من خلال استثمار البؤر التي تظهر تترى، أو حتى تلك التي توجدها، على نحو اصطناعي، سرعان ما تتحول فقاعاتها إلى سيول من دماء تكاد تغمر أجزاء من محيطنا، ما يدعو لقرع الأجراس، واستنهاض الهمم، لا سيما من قبل منتجي الثقافة عامة، كل من موقعه، لاستبيان ما يدور، والحذر مما يخطط له، بعد أن علمنا أن لا أحد في منأى عن الدائر، بما في ذلك هوياتنا، وخرائطنا، كما كائننا، ومكاننا، على حد سواء..!
القدرة على تناول التناقضات
من هنا، فإن السرد، وانطلاقًا من قدرته على تناول هذه التناقضات، في أطر جمالية، من شأنها إغواء المتلقي، والتفاعل معه، عبر شريط لغوي، يكاد يكون مختلفًا، وبعيدًا عن أية فجاجة بل أي تجييش، أو استنفار، مجانيين، ما عادا مجديين أمام متلقي الخطاب، قد غدا في الخطِّ الأول- ومن دون أيِّ تنازل عن أطره الجمالية هذه- ومن دون أن نتجاهل قيمة وأدوار مجمل أدوات الوعي، التي تستطيع أداء وظائفها، ببراعة، أنى كان هناك اشتغال مدروس، في هذا المجال، بعيدًا عما كانت تُقْدِم عليه السلطة التقليدية التي طالما كانت تستغرق في بريق الشِّعار، ما أدى إلى سقوط سطواتها، في عناوين كثيرة، بعيد ثورات الربيع العربي التي أشعل أوَّراها البوعزيزي، ولما تزل ألهبتها متفاقمة، وإن أخرجت عن مساراتها، في أكثر من مكان، نتيجة لما تعرضت له من تحريف في مساراتها، هذه، وفي مآلاتها أيضًا، وهو موضوع آخر، ليس هنا مكانه..!
إن الخطاب السّردي، الآن، في لجة حرب ضروس، أوَّارُها يتوهج، يتفاقم، وهو يهدد أخضرنا ويابسنا، على حد سواء، وإن كان المجال الحيوي لميكانيزمات تأثيره- أي الخطاب- ضمن إهابين: لحظي، ومستقبلي، إلا أنه من الممكن أن يكون قادرًا على تمثيل أسئلة كائنه ومكانه، لطالما استطاع عبر مدى من بضع سنوات- فحسب- أن يتجاوز التوثيق والرصد، اللذين يمكن أن يتما عبر أدوات معرفية أخرى، وذلك بدفعه إلى المواجهة، والاستشراف، لا سيما أن الجيل الجديد الذي غدا مستهدفًا من قبل أدوات التطرف، هو الأكثر تفاعلًا مع هذا العالم السردي، وما أكثر اعترافات هؤلاء الشباب الذين تأثروا بهذا العالم، وانصرفوا إلى الاغتسال في محيطه من هواجس ضبابية غزتهم، في مرحلة زمنية انشغلنا عنهم، تاركين إياهم في مواجهة مصائرهم، بعد أن وجدنا في هذا الجيل ذاته العماد الفقري للتغيير المحلوم به، والذي أحدث اهتزازات كونية كبرى، وكان لها فعلها العارم، في مهادها الأول، وفي محيط هذا المهاد، ما أدى إلى اشتغال جهات كثيرة على عملية إفراغها من جوانبها الأكثر أهمية في عمليات التغيير.
تجربة شخصية
وهكذا، فإننا لنجد أن التحديات التي تتمُّ مركّبة، بطبيعتها، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو موضوعي، وهو ما يجعل الحاجة إلى السَّرد جدَّ كبيرة، بل هو ما أستطيع أن أمثل عليه من خلال تجربة شخصية، إذ انطلقت في أزمة هذه الأحداث الجارية إلى كتابة أعمال سردية عدة، بعد أن كنت أشتغل على الجانب الآخر منه: الشعر، ولي في عالمه تجربتي المتواضعة التي تزيد - زمنيًا- عن ثلاثين عامًا. أجل. هذا التحول الشخصي، لا أفسره، إلا في إطاره الصحيح، هو مقدرة السرد، اللامتناهية- الآن- على طرح الكثير من أسئلتنا، التي ربما لا مجال لأدوات أخرى، على طرحها البتَّة..!
*ورقة مقدمة إلى ملتقى الأدب المغاربي في القيروان- تونس؛ 9 و10 تشرين الثاني/نوفمبر 2018
إيسن/ألمانيا