التوحيد التشخيصي المفارق.. و خطر تصنيم الإله و إلغاء الإنسان
رسلان عامر
2017-09-16
*
» إذا كان الصنم المادي أفعى، فالصنم الروحي تنين«
حكمة صوفية
*
الخير الحقيقي هو مقولة مطلقة قائمة بذاتها، و هي تـُستقرأ بالعقل الحر كمسلمات في تجلياتها في واقع الإنسان، لتصبح مفهوما إنساني المضمون، و رديفا لمفهوم الإنسانية، و لا تعارض من حيث المبدأ بين المفهومين، فمقولة الخير في جوهرها تعني "خير الإنسان" بما هو كائن عقلاني الهوية، و لذا لا مجال بتاتا للفصل بين الخير و الإنسان و لا تناقض، فإن حصل هذا، فثمة خطل في فهم هذا أو ذاك، و أي شيء أو فعل أو فكر، صغر أم كبر، يمكن أن يلحق أذى إنسانيا، هو في حقيقته شر، و إن كان مرتبطا بفكرة إلهية، فهذا مسخ لهذه الفكرة، و للمبدأ الألوهي الذي تقوم عليه.
عندما يـُصور الإله شخصية محددة مفارقة، و هو المعتبر مبدئيا في الوعي التـأليهي خيرا محضا، فسيصبح الخير مرتبطا حصريا بهذه الشخصية، و يفقد استقلاليته و معناه الخاص، المفترض فيه أن يكون معنى مطلقا، و بدلا من ذلك يغدو مرهونا بطبيعة و إرادة هذه الشخصية حسبما تصورها الصورة المرسومة لها، و هذا يصبح مشابها على أرض الواقع لحالة الوطنية التي تـُربط بشخصية السلطان، و تتجسد بطاعته و الولاء له، و يغيب عنها المفهوم الذاتي للوطن، الذي يفقد بدوره مضمونه الإنساني و الوطني، و يتم اختزاله في شخص السلطان، و يصبح الوطني هو مولاه و خادمه الوفي و حسب، و بنفس الشكل يفقد الخير في الإله المشخص المفارق معناه الذاتي ذا المحتوى الإنساني، و يصبح أمرا خاصا بشخصية الإله، و يصبح الإنسان منفصلا كليا عن الخير، بموجب مفارقة الإله للإنسان، و انحصار فكرة الخير في الإله، وهذا الفكرة عبر عنها متدين تقليدي في دفاعه عن العدل الإلهي المزعوم، الذي لا يتعارض – برأيه- مع أي شر يصيب الإنسان مهما كان إنسانا طيبا، بأن الأمر يشبه حال مصمم أجهزة كهربائية صمم جهازا ثم دمره.. و هو حر تماما في ما يفعله بالجهاز الذي أوجده، و لا حجة بتاتا في اتهامه بالجور، و في هذا نرى مدى الفصل بين الإله و الإنسان، و تجريد فكرة الإله هذه كليا عن و من الإنسان و الإنسانية.
هذا من ناحية ما يـُفعل للإنسان من قبل الإله و باسمه، و من ناحية أخرى، و هي ما يفعله الإنسان كإنسان مستقل عن الإله، فعند مفارقة الإله للإنسان و أخذه الخير معه، يـُجرد الإنسان من كل من الإله و الخير معا، و بالتالي من المعنى و القيمة الإنسانية، و تلغى فكرة "الخير الإنساني"، و هكذا يصبح كل ما هو إنساني في الآخر عديم القيمة بالنسبة للمتدين التقليدي، الذي لا يرى في الآخر إلا مدى مطابقته لمعيارية الخير المرتبطة كليا بإله هذا المتدين، الذي لا يعبده ذاك الآخر، مما يجعله كافرا عديم القيمة مهما كان طيبا و إنسانيا، فيما يبقى الشرير من نفس الدين محتفظا بموقعه في مبنى الولاء الإلهي.. و لا يعدو كونه عاصيا، يعاقب ربانيا عقابا محدودا- و إن كبر- على عصيانه مهما كبر عصيانه و إجرامه، ثم تعاد إليه مكانته كمؤمن في مملكة الإله في النهاية، فيما تقفل هذه المملكة أبوابها بوجه غير المؤمن بدين هذا الإله من البداية لمجرد كونه غير مؤمن، و يتساوى في ذلك الخير المطلق و الشر المطلق من غير المؤمن ذاك في انعدام القيمة، فلا قيمة لأحد إلا بإيمانه، فإن فقده فقد معه مبدئيا كل قيمته، و حقه بالوجود و الحياة، بل و الأسوأ من ذلك.. فقد حقه حتى بالموت، ليصبح خالدا في الجحيم، و هذه النتيجة الحتمية التي تقودنا إليها فكرة ربط الخير بالإله كليا، وربط خير الإنسان بمدى صحة علاقته بالإله، التي تحدَد حصريا و قطعيا بمبدأ "أن الدين عند الإله هو كذا" (مهما كان هذا الكذا)، و هذا مبدأ جد خطير، فهو مرتبط بشكل الصورة التي يـُصور فيها الإله المشخص، و التي يمكن أن تختزله إلى "قيصر سماوي" و رب متجبر لكل عبيده من الكائنات، فيحفظ حق الوجود فقط لمن قبله ربا و جعل من نفسه له عبدا، وهذا يقتضي الاعتراف بوحدانيته و شخصيته و صورته، حسب ما هو محدد تماما في "الناموس الرباني" الذي يصدره و ينزله، و يفرضه على الناس ليقيموا عليه علاقتهم معه، و من يرفض هذا الناموس أو يصور هذا الإله بصورة أخرى، أو ينفي وجوده، كلهم سواء في الخروج من إطار العلاقة الصحيحة معه و العبودية المؤكدة له، اللتين تحفظا حق العبد بالوجود، أما الخارج عن ذلك فيصبح خارجا على الإله و عدوا له، و هو كافر أو مرتد، و هذه العداوة هي الجريمة الأكبر التي تعطي مبدئيا الشرعية لإلغاء المختلف دينيا كمتمرد على الإله، و تعطي التبرير الشرعي لقتل المرتد، و هدر حياة وعرض و مال الكافر، وهي القيم الحياتية التي لا تتمتع بأي معنى ذاتي مطلق، و لا تربط بحقوق الإنسان بصفته كإنسان، بل تحفظ للمؤمن بصفته كمؤمن.
هذا الإيمان التشخيصي المفارق هو أسوأ ما أنتجته الذهنية الدينية، فقد أسست فيه للقضاء في واقعها على كل من الإله و الإنسان و العلاقة بينهما، فهي برسمها صورة محددة للإله، حددته و هو المطلق، من حيث المبدأ، و قزمته و هو اللامحدود، و جعلت له صورة محددة كلية، و قضت على أية صور أخرى محتملة للألوهة، و كفرتها و كفرت أتباعها، و جردتهم من كل حق و معنى، فعندها لا وجود و لا مكان لأي حق و معنى إلا في موقعهما التبعي لهذه الصورة المحدودة، المجعولة مطلقة.. و ليس باستقلالهما المضموني كقيم مطلقة، و هكذا جعلت الخير بين الناس مجرد ظل للصورة التي يتم تصوير الإله فيها، و هي غالبا صورة يتلاعب بها المشعوذون.
ألا يجعل هذا الشرَّ عنصرا ذاتيا أساسيا كامنا في هذا النوع من المعتقدات، و يفتح له أوسع الأبواب من حيث المبدأ؟!
و لأنه كذلك، فليس غريبا تحول هذا الشر إلى واقع، بين حين و حين و حسبما مواءمة الظروف الموضوعية، و هذه ليست حال دين معين دون سواه، بل حال أي دين يشخص الألوهة في شخص واحد محدد مفارق، أو يعتقد بامتلاكه الحقيقة المطلقة، أو كليهما معا، كما أنها ليست حال الأديان فقط، بل و حتى المذاهب الوضعية التي أقامت أصناهما الأرضية كالنازية و الفاشية، و بعض الحركات الشيوعية، و الأنظمة الديكتاتورية.
كل عقيدة شمولية أحادية، تحتكر و تحصر قيم الخير و مبادئ الحقيقة في داخلها، يمكنها في أية لحظة أن تلغي خارجها الخير و الإنسان، و أن تعطي لنفسها الحق بفعل أي شر مهما كان بحق الخارجي عنها أو الخارج عنها، دون أن ترى في ذلك ضيرا أو تعتبره شرا، و هي في المحصلة ضد إنسانية.
و في الدين، عند احتكار الخير و الحقيقة، و تحديد الإله في شخصيته مفارقة، تكون النتيجة الأرجح واقعيا بامتياز هي تصنيم الإله و تجريده من الإنسان.. و تجريد الإنسان من الإله، و إلغائه كإنسان، و لن يبقى أمامنا إلا ربا لاإنسانيا.. يحكم بناموس لاإنساني، و يجعل من تابعه عبدا عديم الإنسانية.
*
سوريا- السويداء 8-2-2017
هذا المقال منشور على مجلة مسارات ثقافية إبداعية على الرابط التالي:
التوحيد التشخيصي المفارق.. و خطر تصنيم الإله و إلغاء الإنسان
في: /2017/03/10