ما هي خفايا “طوشة النصارى”؟
رسلان عامر
2018-12-15
إذا ما تأملنا ما يجري على الساحة العربية، من عنف طائفي أو عرقي الطابع، وبحثنا عن أسبابه؛ فسنجد أن هذا العنف ليس وليد اللحظة الراهنة، ولا من صنع الأيادي الفاعلة فيه حاليًا، وحسب، بل ثمة استمرار بدرجةٍ ما لتاريخ فئوي، شهد -كأيّ تاريخ آخر في العالم- الصراع والتهادن والتصالح. وأن الجماعات الدينية والعرقية التي وُجدت، وما تزال موجودة، في منطقتنا، ليست أسوأ من غيرها من مناطق العالم الأخرى في ذلك، لا من ناحية الكم، ولا من ناحية الكيف.
فنحن في هذا لا نختلف عن غيرنا، إلا في فشلنا -حتى الآن- في تجاوز حالة الصراع، والارتقاء إلى التعايش الراسخ، وإلى ما يعلوها من بناء هوية وطنية إنسانية جامعة، تعلو على الانتماءات الفئوية الأدنى، ولكي نتمكن من ذلك؛ يجب أن نعرف بدقة أسباب مشكلتنا، فلا حلّ لها دون ذلك.
لا بدّ من الاعتراف بأن لدينا قدرًا كبيرًا من الإرث الطائفي المقترن بالعنف والصراع، ويجب علينا أن نحلله، وأن نفهم خفاياه، لا أن نغطّيه ونتستر عليه، كما يتستر الجاني على جنايته، فبهذا الشكل سيبقى كالجمر تحت الرماد، الذي يمكنه أن يتقد في أي فرصة سانحة.
إذا نظرنا إلى تاريخ بلاد الشام، مثلًا؛ فسنجد فيها، أيام الحكم العثماني وقبله، العديد من حالات الصراع الفئوي، منها مثلًا ما يسمى بـ (طوشة النصارى) عام 1860 في دمشق، والصراع الماروني الدرزي في جبل لبنان في العام نفسه، وهما حادثتان مترابطتان، طرفاهما في لبنان طائفتا الدروز والموارنة، وفي دمشق مسلمو المدينة ومسيحيوها، وقد تركت كلتا “الحادثتين” آثارًا كارثية.
لكننا عند التأمل في ملابسات كلتا الواقعتين؛ سنجد ببساطة أن أسبابهما المباشرة لم تكن دينية، وسيذهلنا وضوح الدور الخارجي في كل منهما.
شكّل الصراع العنيف الذي اندلع عام 1860 في جبل لبنان الذي كان حينذاك تابعًا للسلطنة العثمانية، بين الموارنة والدروز، امتدادًا لاشتباكات طائفية أقل حدة، حصلت عامي 1840 و1845 بين الطرفين، بسبب خلاف على منصب حاكم جبل لبنان بين زعماء الطرفين، ما أدى إلى تقسيم المنطقة إلى منطقتين: شمالية يحكمها نائب مسيحي، وجنوبية يحكمها نائب درزي، استجابة لمقترحات غربية في كانون الأول/ ديسمبر عام 1842.
لكن هذا التقسيم الهش أجج أكثر العداء الطائفي الذي كانت تغذيه قوي خارجية، حيث كانت فرنسا مثلًا تدعم الموارنة، في حين دعمت بريطانيا الدروز([1])، أما العثمانيون فعملوا على تغذية الصراع، لزيادة سيطرتهم على الولاية المقسمة، ما أدى إلى تجدده في أيار/ مايو 1845.
ولإعادة فرض النظام الذي طالبت به القوى الأوروبية لغايات خاصة بها؛ قام السلطان العثماني بإنشاء مجالس جديدة مؤلفة من أعضاء يمثلون الجماعات الدينية المختلفة في كلتا المقاطعتين، لمساعدة نائب الحاكم، لكن هذه الإجراءات فشلت في حفظ النظام، عندما تمرد فلاحو منطقة كسروان الذين أرهقتهم الممارسات الإقطاعية التي كانت سائدة في لبنان عام 1859، فقاموا بقيادة طانيوس شاهين([2]) بطرد الإقطاعيين الموارنة من آل الخازن، وسيطروا على المنطقة، وأعلنوا تشكيل جمهورية فيها، وانتقلت العدوى الثورية إلى مناطق أخرى، وبدأ الفلاحون الموارنة، بتأييدٍ من رجال الدين المسيحيين، التحضيرَ لانتفاضة ضد الإقطاعيين الدروز في منطقة الجبل، فقام هؤلاء، بدعم من الوالي العثماني خورشيد باشا، بتسليح رعاياهم من الدروز، وفي المحصلة تجدد الصراع في أواخر أيار/ مايو عام 1860، ومع بداية حزيران/ يونيو، امتد إلى العديد من المناطق اللبنانية الأخرى، وتحول إلى حرب أهلية، وصلت إلى دمشق في تموز/ يوليو، وتسببت فيها بأحداث جد مأسوية، حيث قامت عصابات من الرعاع من الدروز وسواهم من مسلمي مدينة دمشق وضواحيها، بتواطؤ مع السلطات العسكرية العثمانية، بارتكاب مجازر ضد المسيحيين فيها.
عن هذه الأحداث يقول د. متي موسى: “يقع اللوم على الكنيسة المارونية، والقوى الأوروبية الكبرى والحكومة العثمانية جميعًا، في المأساة اللبنانية لعام 1860. كانت الكنيسة المارونية قد شجعت المسيحيين على تحدي إقطاعييهم من الدروز، كما دعمت الحكومة الفرنسية الموارنة، لأنهم كانوا كاثوليك تحت الحماية الفرنسية، ودعمت الحكومة البريطانية الدروز توازنًا مع دعم فرنسا للموارنة”([3]).
في هذا الصراع، يُقدر عدد القتلى في لبنان بين 7000 إلى 11000، إضافة إلى نحو 100,000 لاجئ و20,000 أرملة ويتيم، كما دمر حوالي 3000 مسكن، وتوفي 4000 آخرون نتيجة الفقر الشديد الذي سببته المعارك.
وبنتيجة هذه الأحداث الدامية؛ تدخلت فرنسا وقامت بإرسال قوة مؤلفة من 12,000 جندي، بذريعة إعادة النظام، بصفتها الحامي التاريخي للمسيحيين في الإمبراطورية العثمانية، بناء على اتفاقية عام 1535 مع العثمانيين.
ثم قامت فرنسا بنشر قوة مؤلفة من 6000 جندي، لحماية نظام جديد تم وضعه عام 1861 من قبل لجنة دولية مؤلفة من فرنسا وبريطانيا والنمسا وبروسيا والسلطنة العثمانية، أُسست للتحقيق في أحداث 1860 في بدايات تشرين الأول/ أكتوبر من نفس العام، وتم بموجبها فصل لبنان عن سورية، وتوحيده في متصرفية يحكمها حاكم مسيحي يعيّنه السلطان العثماني بموافقة القوى الأوروبية، ويعاونه مجلس إداري مؤلف من اثني عشر عضوًا، يمثلون مختلف الطوائف الدينية في لبنان، كما تم الاتفاق على إرسال قوات إضافية من دول أخرى، إذا اقتضت الحاجة([4]).
وكما نرى، كان الصراع في بداياته ينشأ كخلاف سياسي على الحكم، بين زعماء الطائفتين الدرزية والمارونية، أما حلقته الأعنف فكانت تتحول من صراع اجتماعي بين الفلاحين والإقطاعيين، إلى صراع طائفي عند الامتداد إلى مناطق تختلف فيها طوائف الفلاحين والإقطاعيين، يستخدم فيها الإقطاعيون الدروز أبناء طائفتهم ضد الفلاحين الموارنة بذريعة طائفية، وهذه هي المرحلة الأولى من التسييس والاستغلال للدين من قبل القوى المصلحية المحلية والأجنبية، وهذه الأخيرة تتدخل في المرحلة التالية لتضمن مصالحها بذريعة دينية شكلية أو بشكل واضح بدونها، فإن كان ثمة شيء من العلاقة الدينية بين الموارنة وفرنسا الكاثوليكية؛ فأي رابط ديني يجمع بين بريطانيا والدروز؟ وهل ثمة رابط ديني متين بين العثمانيين والدروز؟ فهم -وإن تعاونوا في لحظة ما في لبنان- تصارعوا صراعًا عنيفًا في جبل العرب السوري، ختمته الثورة العربية الكبرى، التي شارك فيها دروز هذا الجبل بفاعلية!
لكن أحداث العنف الطائفي في لبنان لا تنفصل عن أحداث دمشق([5])، التي تبدو صورتها والأيادي اللاعبة فيها أوضح، فدمشق كانت في تلك الآونة مركزًا مزدهرًا للتجارة والحرف والصناعات اليدوية، ولا سيما صناعة وتجارة الحرير، التي كانت من أهم روافد اقتصاد المنطقة على مدى قرون، وفي أواسط القرن التاسع عشر، أصيبت دودة القز المنتجة طبيعيًا لخيوط الحرير بوباء قضى عليها تقريبًا، في معظم أنحاء العالم، ولا سيما في الصين، وكانت فرنسا حينذاك تستورد نصف حاجتها تقريبًا من الحرير من الصين، والباقي من سورية، فوقعت أزمة اقتصادية، وارتفعت أسعار الحرير ارتفاعًا كبيرًا في السوق العالمية، لكن دودة الحرير بقيت سليمة في سورية ولبنان، وهذا ما جعل فرنسا بشكل خاص تسعى للاستيلاء على الناتج السوري من الشرانق بأسعار رخيصة، لتقوم هي بعد ذلك بتصنيع الحرير وبيعه في الغرب بأسعار مرتفعة، ولذا كان لا بد من ضرب صناعة وتجارة الحرير السورية المنافسة، التي كانت دمشق تشكل أحد أكبر مراكزها في العالم حتى عام 1860، وكان هذا يقتضي تدمير مركز هذه الصناعة فيها، وهو حي القيمرية الدمشقي الذي تتمركز فيه صناعة وتجارة الحرير، وكان يسكنه المسيحيون، وهم الذين كانوا يعملون في إنتاج صناعة الحرير وتجارته، ولإرغامهم على التخلي عن هذه الصناعة والفرار من سورية؛ افتعلت طوشة عام 1860 التي استهدفت هذا الحي الدمشقي، حيث تآمر قناصلة فرنسا وبريطانيا والنمسا، مع ممثلي السلطة العثمانية، لافتعال المذابح ضد صنّاع الحرير السوري لتهجيرهم، فتمّ جلب غوغاء من داخل دمشق ومحيطها، ودفعت شركات الحرير الفرنسية وغيرها لقادتهم من “بلطجية الحارات” مبالغ كبيرة، وأوعزت إليهم بالهجوم باسم “الدين” على مسيحيي القيمرية، وهكذا كان، فاستبيحت القيمرية بشكل رهيب، وتم تدمير أو تفكيك ونهب كل ورشات صناعة الحرير فيها، وتم قتل الحرفيين والتجار العاملين في صناعة الحرير، وسرقة أموالهم، وبعد ذلك تم إحلال آخرين مكانهم، وحولت ورشاتهم إلى دكاكين صغيرة لبيع البضائع الغربية، وهكذا تمّ تدمير صناعة الحرير السورية، واللبنانية معها، وبعد ذلك تم في عام 1875 افتتاح فرعين لبنك Crédit Lyonnais في كل من سورية ولبنان، ليربط ما تبقّى من صناعة الحرير وتجارته في سورية بفرنسا([6]).
وعن هذا يقول الباحث إلياس بولاد: “.. معظم المؤرخين، غربيين وشرقيين، لم يدركوا أن الهدف من وراء تلك الحوادث كان تأمين الحصول على الحرير، واستهداف الصناعة السورية، وتقويض النهوض الحضاري لها والقضاء عليه، وفي تقديري: لو تمّ تلافي وقوع تلك الحوادث؛ لكنا اليوم، بكل تأكيد، كما في الماضي دولة صناعية كبرى في مجال المنسوجات، وفي مجالات صناعية أخرى، وكنا دولةً لا تقل أهمية عن أي دولة أوروبية!”([7]).
من المهم جدًا هنا أن نذكر أن الحي المسيحي في منطقة الميدان الدمشقية الذي كان سكانه يعملون في تجارة الحبوب، لم تجر مهاجمته في هذه الأحداث، التي اقتصرت على حي القيمرية المرتبط بصناعة وتجارة الحرير([8]).
يبدو أن الوالي التركي حينذاك أحمد باشا الذي عيّن واليًا على دمشق، نتيجة مساع غربية، كان ضالعًا في هذه المؤامرة، وفي هذا الشأن يقول فرانسوا لونورمان في كتابه (الحوادث الأخيرة في سورية 1860) إن هذا الوالي كان تحت إمرته أكثر من 600 عنصر من الجيش العثماني، وأكان بإمكانه وقف تلك الجرائم؛ لو أنه أمر 50 عنصرًا فقط بإغلاق مداخل الأحياء المسيحية بدمشق، لكنه لم يفعل! وقد أُعدم هذا الوالي لاحقًا -على إثر هذه الأحداث- من دون محاكمة، ما يدل على وجود نية خفية بإخفاء أسرار تلك المؤامرة الكارثية([9])، التي تسببت في مقتل وتهجير الآلاف، وتدمير مركز صناعة وتجارة الحرير السورية.
أما ديمتري بن يوسف بن جرجس الدبّاس الذي كان شاهدًا على هذه الفاجعة، فيربط في مذكراته هذه الأحداث، بصلح القرم الذي جرى بين روسيا وتركيا، وكان أحد بنوده يقضي بتجنيد المسيحيين الشاميين في الجيش العثماني، وقد قررت السلطة العثمانية لاحقًا أن تطلب بدلًا نقديًا عن ذلك، فرفض المسيحيون بتحريض من روسيا، فقرر الباب العالي تأديبهم على ذلك، وأوعز بتنفيذ المهمة لأحمد باشا، الذي استغل الصراع الطائفي في جبل لبنان وما سببه من هياج، وأحضر طابور عسكر وأوقفه على أبواب أحد الجوامع في أحد أيام الجمعة في دمشق، وقال للمسلمين إنّ النصارى ينوون الانقضاض عليهم بالجامع، وحرضهم بذلك للهجوم عليهم، وأشعل نار الفتنة.
ويضيف الدباس الذي يتحدث في مذكراته بمرارة، عن الويلات التي عاناها المسيحيون في هذه الأحداث، أن روسيا خذلتهم، وأن ثلاثة أطراف مسلمة لعبت دورًا أساسيًا في حمايتهم، هم هاشم آغا آمر قلعة دمشق، وآغوات حي الميدان الدمشقي، والأمير عبد القادر الجزائري؛ إذ حمى هاشم آغا آلاف المسيحيين في القلعة، أما آغوات الميدان فقد منعوا أبناء الحي من المشاركة في الحملة على المسيحيين، وتصدوا لغيرهم من الرعاع المهاجمين الذي كانوا يريدون المرور عبر الميدان لمهاجمة القيمرية، فيما كان الأمير عبد القادر يرسل الجنود المغاربة الذين كانوا تحت إمرته للطواف في المناطق المنكوبة وإحضار المسيحيين إلى داره وإيوائهم فيها. ويصف الدباس سلوك هؤلاء المسلمين بأنه أعجايب ثلاث([10]).
فيما يقول ميخائيل مشاقة، في شهادته المكتوبة عام 1873، المنشورة في القاهرة عام 1908 بعنوان (مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان) إن الأمير عبد القادر الجزائري اجتمع بأحمد باشا وأعضاء مجلس الشورى، وطلب منهم المساعدة لوقف هذه المذبحة، وساعده في ذلك مفتي الولاية طاهر أفندي والشيخ سليم العطار، والأعيان: أسعد أفندي حمزة، وصالح أغا شوربجي، وسعيد آغا النوري، وعمر آغا العابد، أما أحمد باشا فقد خذله([11]).
في هذه الفتنة، نرى أن العاملين المصلحي والتآمري هما الغالبان بامتياز على المعتقدين، إذ تتآمر دول غربية، يفترض أنها مسيحية على مسيحيي دمشق، مع المسؤولين العثمانيين وبلطجية ورعاع دمشق المعتبرين مسلمين، ويتم استغلال عصبية وجهل وفقر هؤلاء السذج بأبشع الأشكال ولأقبح الغايات. وفي الوقت نفسه، نرى أطرافًا مسلمة تلعب دورًا فاعلًا في حماية المسيحيين من الرعاع المدفوعين لمهاجمة المسيحيين.
هذه الأحداث المأسوية، التي تم اللعب فيها بأخبث الأشكال على الأوتار الطائفية، اعتمدت فيها الأيادي المغرضة الداخلية والخارجية على واقع طائفي شديد التأزم، ينتمي بدوره إلى واقع اجتماعي جد مأزوم هو الآخر، وغارق في البؤس والتخلف.
وهكذا تكاملت في هذه الصراعات عوامل ثلاثة أساسية، هي:
واقع طائفي متعصب، يتداخل فيه تاريخ علائقي، فيه كثير من التراكمات السلبية بين الطوائف، وحاضر يشكّل استمرارًا لذلك التاريخ بما فيه من ثقافة دينية متردية يهيمن عليها التعصب المللي والنظرة التكفيرية للغير.
واقع اجتماعي متخلف بائس، يسوده الفقر الثقافي والاجتماعي والسياسي، وتهيمن عليه القوى السلطانية وممثليها الانتهازيين الفاسدين.
أصحاب مصالح مغرضة داخليون وخارجيون، لديهم من القوة ما يكفي لاستغلال الواقع المتردي لإثارة الصراعات، وتوجيهها بما يخدم مصالحهم.
هذه الصراعات التي جاءت كحلقات متسلسلة في سلسلة من العلاقات الطائفية المتردية، واعتمدت على أرضية كافية من التأزم الطائفي، أعادت إنتاج هذه الأرضية، وجهزت السبيل لحلقات لاحقة من هذا المسلسل المستمر، ما أدى إلى إعادة تجدد الصراع العنيف في لبنان، في سبعينيات القرن الماضي واستمراره حتى تسعينياته، وتسببه في خسائر بشرية ومادية جمة وضخمة، وتضمُنه لأعمال عنف وحشي، كمجزرة صبرا وشاتيلا ضد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، التي نفذتها ميليشيات مسيحية متطرفة، بتدبير ودعم مباشرين من الإسرائيليين الذين كان لهم يد طولى في إثارة هذا الصراع واستغلاله بشكل خاص، لطرد المقاومة الفلسطينية من لبنان، وتراوح تقديرات عدد ضحايا تلك المجزرة بين 700 و3500 قتيل من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العزل.
هذه الحالة الطائفية المأزومة لم يتعافَ منها لبنان حتى اليوم، وما زال يعاني من استمرارها ومفاعيلها، ولا سيما نظام المحاصصة السياسية الطائفي المكرِّس للواقع الطائفي والمنتج للفساد الاجتماعي. وقد شكلت هذه الحالة الطائفية الأرضية المناسبة في سياق الأزمة السورية الراهنة، التي بدأت كاستحقاق وطني سلمي، لدفع هذا الحراك بعيدًا جدًا عن مساره البدئي، باتجاه التخندق الطائفي والعسكرة وإنتاج الإرهاب، حيث تم التلاعب بأقصى وأبشع الأشكال بالأوراق الطائفية من قبل جميع القوى المغرضة الداخلية والإقليمية والعالمية المختلفة.
ما يجري اليوم من عنف طائفي في أكثر من دولة عربية، هو بدرجة كبيرة تكرار لسيناريوهات الماضي المـأسوية، وفيه تُستغل استحقاقات وطنية مشروعة في حراكات الشعوب العربية ضد الأنظمة القامعة الفاسدة في أرضيات غير سليمة من العلاقات بين الجماعات السكانية بما يكفي، ويدخل فيها الجهل والتعصب، والإحساس بالغبن الفئوي، والذاكرة الناقمة، إضافة إلى الأغراض والمصالح الخبيثة لبعض الشخصيات أو المجموعات المحلية، وتستخدم لإشعال الفتن المدمرة وفقًا لمخططات خارجية.
ما نراه اليوم من مساع داخلية أو تدخلات خارجية لإشعال النيران الطائفية والعرقية في المناطق العربية واستغلالها، هو استغلال لوضع اجتماعي شديد التردي، يعود ترديه إلى موروث اجتماعي وثقافي متخلف على كافة الصعد، وله جذور تاريخية ضاربة في القدم، أعادت تنميتها ورسختها مرحلة انهيار الحضارة العربية الإسلامية والاحتلال العثماني الذي تلاها والاستعمار الغربي الذي تلاه، من ناحية، وإلى أنظمة الحكم العربي الدكتاتورية الفاسدة التي خلّفها ذاك الاستعمار أو أنتجها كردة فعل ذرائعية على عودته بشكله الحديث بعد رحيله بشكله القديم، من ناحية ثانية.
إضافة إلى ما يمكن أن يشكله هذا الاستغلال من خدمة للإبقاء على الدكتاتوريات العربية المرتهنة للقوى الأجنبية، فهو -وهذا هو الأهم- يندرج في إطار تصفية الحسابات بين هذه القوى النافذة إقليميًا ودوليًا، وتنافسها على النفط والغاز وغيرهما، وعلى مناطق النفوذ، والسعي من قبل بعضها لضمان “أمن إسرائيل” الكامل، بشرذمة الهويات الوطنية والرابطة العربية، واستبدالهما بهويات عرقية وطائفية، واستبدال الصراع العربي الإسرائيلي، بصراع سني شيعي بشكل أساسي، وعربي كردي إلى حد ما.
الهوامش:
[1] – د.متي موسى، المورانة في العصور الحديثة،: American Foundation For Syrian Studies
http://www.syriacstudies.com/AFSS/drasat_sryanyt_-_3/Entries/2007/10/9_almwarnt_fy_alswr_alhdytht_aldktwr_mty_mwsy.html
[2] – طانيوس شاهين – ويكيبيديا
[3] – د. متي موسى، المرجع السابق.
[4] – مجازر 1860- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
[5]- د. ريم منصور الأطرش، “طوشتا” سوريا من أجل تدمير اقتصادها، ورقة بحثية، 2017-10-15. http://www.rimalattrache.com/show_details.php?Id=81
[6]- المرجع السابق.
[7]- إلياس بولاد، هل كانت فتنة دينية أم مؤامرة سـياسية غربيــة؟!! محاضرة ألقيت في شهر كانون الثاني 2006 في قاعة محاضرات بطريركية الروم الكاثوليك في دمشق. موقع ديوان العرب، 1 كانون الأول (ديسمبر) 2006، موقع “ديوان العرب”.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article6988
[8]- المرجع السابق.
[9]- إلياس بولاد، المرجع السابق.
[10]- الأب جورج مسوح، حوادث 1860 في مذكّرات ديمتري الدبّاس، ملحق جريدة النهار اللبنانية، 7 تشرين الثاني 2015.
-[11] محمود الزيباوي، مثل لؤلؤة في وسط حجارة صمَّاء سوداء، مجلة معابر الرقمية:
http://www.maaber.org/issue_august12/spotlights2.htm