الدكتاتورية ومشكلة الأقليات
رسلان عامر
2019-07-20
الدولة الدكتاتورية هي دومًا دولة مأزومة، وهي تخلق في بلدها أزمات متعددة الصعد، ويمكن تصنيف هذه الأزمات في ثلاثة أصناف رئيسة، هي: معيشية، هويوية، سياسية.
تحت صنف أزمات المعيشة، يمكن إدراج الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تصيب الجميع في البلاد، بمعزل عن هوياتهم وانتماءاتهم، فيما تندرج تحت أزمات الهوية الأزمات ذات الطابع الديني أو الطائفي أو العرقي أو القومي التي تتعرض لها جماعة محددة، إما من قبل السلطة نفسها أو من قبل جماعة أخرى، أما الأزمات السياسية فهي الأزمات التي تتعرض لها هذه الدولة بحد ذاتها كمنظومة حكم ومؤسسة، ثم تنعكس سوءًا على مجتمعها.
هذه الدولة الدكتاتورية نفسها، يمكن أن تكون دكتاتوريتها ذات طبائع مختلفة، فهي إما أن تكون تسلطية استحواذية، أو انتمائية فئوية، أو سياسية عقيدية.
في الحالة التسلطية، تتحكم في السلطة طغمة ما، لا يجمع بينها رابط هوياتي كالقومية أو الطائفة وما شابه، ولكن تجمعها المصلحة، فيكون كل ما يهم هذه الطغمة عادة هو الاستئثار بالسلطة والثروة في بلدها وتسخيره لمصلحتها، وهذا النموذج من الدكتاتوريات ينطبق على الأنظمة السلطانية التقليدية، كأنظمة الملوك والأمراء، كما ينطبق أيضًا على الأنظمة العسكرية.
في الحالة الفئوية أو الهويوية، تكون الدكتاتورية قائمة على أساس ينتمي إلى مجال الهوية، التي يمكن أن تكون ديانة أو طائفة أو قومية أو قبيلة وما شابه. أما في الحالة السياسية، فالدكتاتورية تقوم على أيديولوجيا، كما كانت الحال في الأنظمة الشيوعية مثلًا.
واقعيًا، يمكن أن تقوم الدكتاتورية على أساس أو أكثر، من الأسس التي تم الحديث عنها أعلاه، فعلى سبيل المثال، يمكن لدولة قومية أن تجمع بين دكتاتوريتي الهوية والسياسية، ففي الوقت الذي تتبنى فيه هذه الدولة مثلًا هوية قومية محددة وتسعى لفرضها على جميع سكانها، يمكنها أن تكون دولة حزبية، بحيث يعتبر فيها الحزب الحاكم نفسه الممثل الوحيد لهذه القومية والمدافع عن مصالحها، ولا يقبل حتى بشراكة قومية أخرى تتبنى الهوية القومية نفسها وتختلف معه في الأيديولوجيا، وإن قبل بوجودها، فهو قطعًا لن يرضى بها إلا مستضعفة تابعة له أو مهمشة غير قادرة على التأثير.
ومن الأمثلة على هذا النوع من الدكتاتورية، يمكننا أن نورد “الدولة الناصرية” التي منعت كل الأحزاب، مبقية على حزبها الحاكم الوحيد الذي كان يحمل اسم “الاتحاد الاشتراكي العربي”، و”دولة البعث” في سورية، التي سمحت بوجود ودور محدودين وهامشيين لبعض الأحزاب غير “البعث”، وكلتاهما جمعتا بين القومية والحزبية والانتهازية المصلحية.
في المحصّلة، كل دكتاتورية تكون عادة منتجة كثيفة للقمع والفساد، ما يؤدي إلى تدهور الأوضاع الشامل في بلدها، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، ليعاني شعبها، في الوقت نفسه، القمعَ والاضطهاد المباشرين، والفقر والحرمان الناتجين عن الاستئثار بالسلطة نفسه، بشكل مباشر أو غير مباشر، مما تتسبب به هذه الدكتاتورية من فساد كبير في قطاعات مؤسسة الدولة كافة.
إضافة إلى ذلك، الأقليات في مثل هذه الدولة غالبًا ما تتعرض إلى المزيد من المعاناة المرتبط بهويتها، فقد تضطهد أو تنتقص حقوقها أو تهمش بسبب هذه الهوية، التي يمكن أن تكون دينية أو طائفية أو قومية وهلمّ جرًّا.
في هذه الأوضاع المتردية، لن تتمكن هذه الدولة من الارتقاء بشعبها إلى المستوى الاجتماعي الحديث القائم على المواطنة، ولن تتمكن أيضًا من تطوير هوية وطنية مرتبطة بها كدولة مواطنة، بشكل منفصل عن كل الهويات الجماعوية الموجودة فيها.
هنا سيفكر كلٌّ من هذه الجماعات بأسلوبه الخاص في الخلاص، ولن يكون من النادر بالنسبة إلى بعض الأقليات أن تفكر في الانفصال عن مثل هذه الدولة الفاشلة، لتنشئ دولتها البديلة، المأمولة لتحقيق أحلام المعيشة الرفيعة وبناء الشخصية الهويوية الخاصة، والخلاص من القمعين العام الموجه ضد الجميع، والخاص الموجه ضد هذه الأقلية الذي تمارسه الدولة الدكتاتورية القائمة أو الجماعة الأكبر فيها، والخلاص مع ذلك من تدني وتدهور مستوى المعيشة فيها. وبالمقابل، قد يجد آخرون غير تلك الجماعات أن الحل هو بالخلاص من الدكتاتورية نفسها، فهذا سيكون عندها خلاص الجميع.
ما تقدّم يعني -نظريًا- أن ثمة حلّين أمام الأقليات، للخلاص من المظالم التي تتسبب بها الدولة الدكتاتورية القائمة، وهما: الانفصال الخاص، أو الخلاص العام من الدكتاتورية نفسها.
عند الحديث عن الانفصال، يجب السؤال عن السبب الرئيس الذي يجعل أقليةً ما تسعى للانفصال: أهو بسبب المعاناة الناجمة عن اضطهاد خاص تتعرض له هذه الأقلية بسبب هويتها؟ أم أنه بسبب المعاناة الناجمة عن الاضطهاد والفساد اللذين يتعرض لهما الجميع، بغض النظر عن هوياتهم؟!
في كلتا الحالتين، يمكن القول إن الحل الحقيقي الأصلح للجميع هو السعي معًا للخلاص من الدكتاتورية، وبناء دولة وطنية ديمقراطية للجميع. ففي الدولة الوطنية الديمقراطية لن يكون هناك أي قمع سببه السعي لتكريس حالة الاستئثار بالسلطة، ولن يكون هناك أي اضطهاد أو تمييز بسبب الهوية.
فالدكتاتور المتسلّط، عندما يمارس القمع، تكون غايته من القمع هي تكريس وترسيخ سلطانه.. والقضاء على معارضيه ومنافسيه، وإرهاب الجميع ليرضخوا له، أما الديمقراطية فهي نقيض هذا، لأن السلطة فيها يتم تداولها بشكل سلمي بين القوى السياسية، ولا أحد يستأثر بها بالقوة ويقمع الآخرين خوفًا من أن ينتزعوها منه.
أما في ما يتعلق بالهوية، فالدولة الديمقراطية هويتها الوحيدة هي الهوية الوطنية الإنسانية، وهي تتموضع على مسافة واحدة من كل الجماعات والهويات والأحزاب والتنظيمات الموجودة في بلدها، وهي بالتالي لن تنحاز إلى أي جماعة أو فئة أو حزب ضد سواها، أو تقربها وتبعد سواها، ما يعني أن هذه الدولة تضمن حقوقًا إنسانية متساوية لجميع مواطنيهم، بمعزل عن هوياتهم وجماعاتهم وأحزابهم وما شابه، ويعني أن هذه الدولة لن تمارس قطعًا أي اضطهاد هويوي أو سياسي أيضًا.
في الديمقراطية، فعليًا، ليس هناك هويات وجماعات وأحزاب في العلاقة بين الدولة والفرد، فالعلاقة بين الدولة وهذا الفرد تتم بصفته الفردية كإنسان وكمواطن، وهي علاقة مؤسسة ومحكومة بمنظومة “حقوق الإنسان”، وفي عداد هذه الحقوق يدخل الحق بالهوية والحق بالدين والمعتقد، والحق بالقومية، والحق بالتجمع والتحزب، وهكذا تصبح قومية ودين وعقيدة الإنسان، وما يبنى عليها من جماعات قومية أو دينية أو سياسية، حقوقًا من حقوق الإنسان في هذه الدولة، أو حقوقًا من حقوقه كمواطن فيها، ومن واجبها كدولة حمايته وحماية حقوقه من أي اعتداء، أيًا كان مصدره.
إذن؛ في الدولة الديمقراطية كلّ أشكال الهوية والاعتقاد والتجمع والتحزب يُعترف بها وتُضمن وتُحمى على أساس إنساني، بصفتها حقوقًا إنسانية، ما يشترط فيها أن تكون جميعًا ذات طابع إنساني سلمي، ولا ينتج عنها أي أذى للفرد أو المجتمع أو الدولة أو غير ذلك، والدولة الديمقراطية نفسها تكون موجودة بضمان وحماية هذه الحقوق لمواطنيها بصفتها دولة مواطنة، وهي عندما تضمن لهم هذه الحقوق وسواها من حقوقهم الإنسانية، تصبح بالنسبة إليهم الدولة الوطنية، أو الوطن، الذي يعني البيت الاجتماعي المشترك الذي يتمكن فيه هؤلاء الناس من تحقيق وعيش إنسانيتهم الحقيقية.
أما في حالة الانفصال، وهي حالة غالبًا تكون نادرة الإتاحة، إما بسبب التداخل الديموغرافي بين الجماعات البشرية الموجودة، أو بسبب عدم وجود الأساس الشرعي الذي يعطي أقليةً ما الحق بالانفصال، كما هي الحال غالبًا بالنسبة إلى الطوائف الدينية، فهذا الخيار ليس من مصلحة الأقليات التي لديها بدرجةٍ ما مثل هذا الخيار.
فأولًا هذه الأقليات لن تستفيد شيئًا؛ إذا كان الدافع للانفصال هو الاضطهاد والفساد العام، إلا إذا ضمنت أن الدولة البديلة التي ستنشئها هي دولة ديمقراطية حقيقية، وهذا ما لم يحصل واقعيًا في العديد من حالات الانفصال الفعلية، كجنوب السودان مثلًا. وإن كان السبب متعلقًا بأسباب هويوية، فالأمر لن يختلف كثيرًا إذا فشلت هذه “الهوية” بإنشاء دولتها الوطنية الديمقراطية الحديثة، كما هي الحال مثلًا في باكستان.
وثانيًا الانفصال نفسه غالبًا ما يتسبب في صراع بين الجماعات المختلفة، إما على الأرض أو على المصالح، أو يعيد إنتاج الأزمات المتعلقة بالهوية، عندما تنفصل منطقة ذات أكثرية هويوية ما، ويكون فيها هويات أخرى في الوقت نفسه.
وهذا لا يعني أن الانفصال يجب رفضه بالمطلق، لأنه قد يكون “أهون الشرين” في الحالة التي تتعرض لها أقلية ما لاضطهاد عنيف بسبب هويتها، وعدم وجود بديل آخر بسبب عدم جاهزية “الأكثرية” للتحول الوطني الديمقراطي، وهذا السبب نفسه قد يكون في بعض الأحيان مبررًا أيضًا حتى في حالة القمع والفساد العامين.
أما إذا كانت المعاناة العامة هي الغالبة على المعاناة الخاصة، وكانت استعدادات الجميع متقاربة للحل الديمقراطي؛ فالحل الصحيح عمومًا هنا هو التعاون والعمل من أجل الخلاص المشترك من الدكتاتورية وشرورها.
الخلاصة هي أن الحل الديمقراطي هو عمومًا الحلّ المنطقي والأخلاقي الجذري لمشكلة الأقليات، ولسواها من المشكلات السياسية والاجتماعية، وهو ما يجب أن يركز الجميع عليه جهودهم.
بالنسبة إلى عالمنا العربي الذي ما تزال تهيمن عليه عمومًا الدكتاتوريات، فواقع الحال يؤكد أن جميع الجماعات البشرية الموجودة لدينا، من عرب وكرد وأمازيغ ومسلمين ومسيحيين، وسواهم من الجماعات القائمة على أسس قومية أو القائمة على أسس دينية، هي شديدة الشبه في ما لديها من مشكلات وعيوب اجتماعية، وجميعها تعاني عمومًا، بدرجات متقاربة، عصبية الانتماء وغيبية الاعتقاد وتفشي الذكورية وذهنية تقديس الزعيم، وجميعها بعيدة بدرجات متقاربة من العقلانية والعلم وثقافة العصر، وأيضًا جميعها مستهدفة ومعرضة للاستغلال من قبل القوى الطامعة المختلفة، وبالتالي فمن الخير لها جميعها التعاون على بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.