تاريخ سوريا الحضاري بين قدسية الحجر و لعنةِ البشر
أحمد عزام
خاص ألف
2017-11-25
قد يكون التاريخ هو الفخ ..! فما تشهده سورية اليوم من حربٍ همجية تمتد لتصل إلى جوهر الروح الحضارية لا يقتصر على حكمٍ دكتاتوري انتفض شعبه ضده لكي يخلعه و حسب , بل هو الثقل الاستراتيجي للجغرافية التي خلقت الإنسان الأول و جعلته ينسلخ عن أجداده القرود و يمشي منتصب القامة لينشئ حضارة امتدت حتى آلاف السنين , فسورية هي جنة علماء الآثار كما يقول عالم الآثار الألماني "أوبن هايم" و وقوع سورية على ملتقى ثلاث قارات "آسيا و أفريقيا و أوروبا" مهَد لحضاراتٍ عديدة أبدعت في كافة المجالات من فن و علوم و آداب و عمران و غيرها فكانت أول المدن المأهولة و أول أبجدية و أول نوطةٍ موسيقية و أول تطويرٍ لأدوات الصيد و تصميم الأزياء ... الخ , و هذا ما أعطاها زخماً حضارياً جعل من أرضها حلماً لإنشاء الكثير من الممالك عليها لذلك تناوبت الحروب على أرضها و تغيرت الأجناس و تماهت و قد ترك الإنسان آثاره فيها إلى ما قبلَ مئةِ ألف عام , و حتى الآن تم اكتشاف ثلاثةٌ و ثلاثون حضارة في سورية إضافة إلى عشرة آلاف موقع أثري بينهم أربعة آلاف موقع أثري مسجل , و المهتم بعلم الآثار يدرك تماماً أن لكل موقع أثري يمكن أن نفرد دراسات طويلة فالحديث عن الإرث الإنساني و الحضاري لسورية يحتاج إلى مجلدات .
إن من أهم الحضارات التي تعاقبت على حكم سورية هم الأكاديون و الآشوريون و العموريون و الآراميون و الفينيقيون و العرب , و قد غزاها الفرس و اليونان و الرومان و التتار و الأتراك و الصليبيون
أما أشهر ممالكها , مملكة "ماري" , " دورا أوروبوس", "تدمر" ,"إيبلا" , "عمريت" , "أوغاريت" و غيرها .
هذا التلاحم و التطاحن الحضاري على أرض سورية هو ما أورثها علةَ وجودها و إرثها التاريخي و الديني فكانت بحق مهداً للحضارات و أرشيفاً لها .
الحملات الأوروبية و بداية التنقيب في سورية
لا تزال الحملات الأوروبية التي بدأت على بلاد الشام (م1798) تفعلُ فعلها حتى اليوم و سورية كانت من أخصب المناطق في التي تم التنقيب فيها و سرقة الكثير من قطعها الأثرية المهمة , و قد بدأ التنقيب منذ عام 1860 على يد عالم الآثار الفرنسي "آرنست رينان" و الذي بدأ عمله في تدمر و الساحل و قد نقل الكثير من آثار تدمر و غيرها إلى فرنسا و إلى دول أوروبية أخرى ولا يوجد توثيق بعدد القطع المنهوبة لعدم وجود أرشفة رقمية لهذه القطع فبالنسبة للدول الأوروبية لم يكن هذا فعلاً محرماً كما يقول "إدوارد سعيد" فأوروبا كانت خلال هذه الحملات تعتبر نفسها مركز العالم و منشأ الحضارة و ذلك من أجل تبرير النهب و الاستعمار و بالتالي كان من حقها أن تأخذ ما هو لها .
و مع ظهور المسألة اليهودية و بداية نشوء المستوطنات في فلسطين تم التأكيد على مركزية التوراة في الحضارة الأوروبية و من ثم ربط العهد القديم بالعهد الجديد و الذي كان وبالاً على تاريخ بلاد الشام عموماً و فلسطين خصوصاً و التي كانت جزء من سوريا الكبرى حينها , حيث و كما يرى الكاتب "محمد الأسعد" أن الغرب قد توجه إلينا بأسطورتين الأولى هي حق القوي في الهيمنة و الثانية هي أسطورة تاريخية تعتبر ملائمة لفهم المنطقة .
من هنا فقد كان علم الآثار ليس للتنقيب و البحث عن الآثار القديمة و التعرف على هويتها فهذه الهوية معروفة من داخل النص التوراتي مسبقاً و الهدف الوحيد من التنقيب هو استعادة الجوهر المطمور و إعادته للحياة من خلال استعادة أرض التوراة , ولذلك و كما سنوضح فيما بعد نجد أن أكثر القطع الأثرية التي نُهبت من سورية الثورة أصبحت الآن في المتاحف الإسرائيلية التي كلما ضُحِدت رؤيتها التوراتية ازدادت متاحفها بشواهد تنتمي لجغرافية سورية , و الغريب في الأمر أن وزارة الثقافة و مديرية المتاحف و الآثار في دولة المواجهة و الممانعة كانت تسمي بعض المواقع المكتشفة حديثاً بأسماء يهودية رغم وجود معادلها العربي مثل تل الكزل الذي يطلقون عليه "سيميرا" و هو اسم لعشيرة توراتية و جبل النبي مند الذي يطلقون عليه "قادش" و غيرها الكثير .. فلمصلحة من كان يتم هذا الأمر ؟
تاريخ إنشاء المتاحف
يبلغ عدد المتاحف في سوريا ثمانية و ثلاثون متحفا (يتضمنها متاحف الفنون الشعبية) و بالرغم من أن تواريخ تأسيس المتاحف في سورية قديم العهد إلا أنه لم يكن يحقق الغاية المرجوة منه لقلة الوعي الشعبي بمعنى الهوية الحضارية التي حاولت الحملات الأوروبية طمسها في كامل المشرق العربي , و بدأ الاهتمام بإنشاء هذه المتاحف بشكل عملي مع ازدياد انتقال القطع الأثرية الى اسطنبول و الدول الأوروبية في فترة حكم الدولة العثمانية و من أجل أن نفهم تاريخ تطور المسوحات الأثرية لا بد لنا من أن نتطرق إلى تاريخ نشوء أهم المتاحف و تطورها
• المتحف الوطني في دمشق
يتربع عند ضفاف بردى و يعتبر عميد المتاحف السورية و هو مرجع توثيقي هام على المستوى المحلي و العالمي .
بدأ إنشاؤه في تاريخ الاستقلال عن الدولة العثمانية في عام 1919 , و في عام 1939 تم تدشين القسم الشرقي منه ببوابة قصر الحير الغربي الذي بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في بادية الشام ثم تم تدشينه بشكله النهائي في عام 1950 و استمرت عمليات التحديث فيه بشكل متقطع حتى بداية الثورة السورية في عام 2011
يحتوي متحف دمشق الوطني مقتنيات تعود إلى أكثر من سبعة آلاف عام قبل الميلاد حتى العهد العثماني
• متحف حلب الوطني
أنشئ المتحف في عام 1939 و هو متحف سوري بامتياز حيث يحتوي على كنوز أثرية تخص مدينة حلب التاريخية و قد كان المتحف عبارة عن قصر عثماني , و في عام 1966 تم هدم القصر بقرار أحمق من أجل توسيع المتحف , و تُثبت مقتنيات المتحف القيمة الحضارية لمدينة حلب التي تُعد من أقدم المدن في التاريخ
• متاحف حماه
• متحف حماه الأثري
بُني في عام 1983 و يعتبر من أغنى متاحف سورية باللقى الأثرية القديمة (البيزنطية و الرومانية) الآتية من حضارة أفاميا , و كذلك اللقى الأثرية التي تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد و الآتية من تل حماه , و فيه كثير من الشواهد على بداية العصر الحجري و البرونزي في هذه المناطق .
متحف أفاميا *
يعتبر متحف الفسيفساء الأول في سوريا حيث تعج به اللوحات الفسيفسائية التي تعود إلى منتصف القرن الرابع للميلاد
• متحف حمص
تم تأسيس المتحف في عام 1974 في الطابق الأرضي للمركز الثقافي في حمص , و في عام 1994 تم نقل محتويات المتحف إلى بناء تاريخي هو بناء مقر بلدية حمص في عام 1922
و أهم مقتنيات المتحف تعود إلى العهد البيزنطي و الاسلامي , و قد بلغ عدد القطع المعروضة في المتحف 731 قطعة من أصل 5000 قطعة من مقتنيات المتحف
• متاحف إدلب
متحف المعرة
يقع في ساحة المعرة و قد بُني في خان مراد باشا في عهد الدولة العثمانية و يحوي على ألواح الفسيفساء الرائعة التي تحكي قصص بيزنطية و أساطير يونانية , و بعض اللوحات كُتِبَ عليها باللغة الآرامية
متحف إدلب
أنشئ عام 1987 و يحوي على آثار مواقع تل مرديخ و إيبلا و داحس و تل مسطومة و تل آفس و مدافن سراقب و قد عرضت محتوياته منذ الألف الثالث قبل الميلاد و حتى العصور الاسلامية .
• متحف تدمر الأثري
يتربع في أول المدينة في ساحة الملكة زنوبيا و هذا المتحف يذكرنا بالمتاحف المصرية من حيث طقوس محتوياته بالإضافة إلى طابعه الروماني حيث توجد المومياءات و المدافن و المعابد و السرر الجنائزية و كتابات تذكارية على الجدران بالإضافة إلى المسارح الرومانية و وجود متحف للفنون الشعبية التدمرية
• متحف السويداء
فيه منحوتات منذ العهد الناباثي و حتى العهد العربي و يتميز بلوحاته الفسيفسائية
• متحف الرقة
تأسس عام 1981 , و تعتبر المناطق الشمالية بالعموم من أغنى مناطق سورية بالأثار و مع ذلك فقد اقتصرت مقتنيات متحف الرقة على الآثار الاسلامية و التراث الشعبي فقط .
• متحف دير الزور
أكبر المتاحف السورية يوجد فيه مقتنيات تمتد منذ العصر الحجري حتى العصر الاسلامي و قد تم إعادة بناء بعض المواقع داخل المتحف .
• متحف اللاذقية
يعود تاريخ بناءه إلى نهاية القرن السابع عشر و شيد طابقه العِلوي عام 1904 و فيه آثار الشرق القديم (مكتشفات أوغاريت) بالإضافة لآثار إبن هانئ و يحتوي على مقتنيات بيزنطية و رومانية و مقتنيات من العهد الاسلامي
سوريا مقبرة الحضارات "فترة حكم البعث"
ليس بالأمر اليسير توثيق السرقات و الانتهاكات التي تعرضت لها آثار سورية منذ حقبة الأسد الأب و خصوصاً أن الدولة المخابراتية كانت تتعامل مع سورية و كأنها ملك خاص فاقتصرت السرقات على المافيوات العائلية و الرجال الذين يدورون في فلكهم و لهذا و مع انعدام وجود أي مؤسسات للمراقبة فقد اقتصر التوثيق على جهود فردية وعلى حوادث شاعت بين الناس لذلك لا بد من الانطلاق ببعض المعايير الاجرائية التي ستفترض أن سوريا كانت مقبرة للحضارات في عهد الأسد
1- إن كنت بالطائرة و مررت فوق سورية على ارتفاع منخفض ستكتشف مدى الإهمال الذي حظيت به سورية طبيعياً و عمرانياً و هذا أول عامل لطمس هوية الدولة
2- المرسوم التشريعي رقم 222 الخاص بحماية الآثار ينص على أن السلطات السورية تتولى المحافظة على الآثار كما أنها تتولى وحدها تقرير أثرية الأشياء و المباني التاريخية و المواقع الأثرية و ما يجب تسجيله من آثار
3- هناك دراسة لعالما الآثار البريطانيان "كريستوفور تشيبندايل" و "ديفيد جيل" و تكاد تكون الدراسة الوحيدة حيث تقول هذه الدراسة أنه بعد مراجعة لمصدر 1396 قطعة أثرية فقد افتقر 75% من هذه القطع إلى أوراق تثبت مصدرها و هذا دليل أنها أتت من عمليات تنقيب غير مشروع أو أن هذه القطع غير مؤرشفة
مهما بدا تقييمنا سيئاً فالواقع أكثر سوءاً
التباكي على قنوات النظام بأن سورية مهد الحضارات والإرث الذي يضيع من أيدينا لا يمكن أن يُبرر طالما أن هذا النظام هو أسُ المشكلة التي سمحت لهذا الإرث أن يضيع فمن يكون منهجه ضرب حضرية الجغرافية و ترييف المدن لن يعنيه حضارة البلد
إن سوريا التي تعيش على سبعة آلاف عام من الحضارة لا توجد بها كلية واحدة للآثار لكي تُخرج طلاباً كفؤاً لحملِ إرث بلادهم و حمايته , و يقتصر القسم الموجود في كلية الآداب على تعلم أحد اللغات السامية القديمة و بعض المعارف النظرية و مع ذلك يتوزع بعض الطلاب على البعثات الأجنبية و الوطنية فيكون الطالب السوري بمثابة ضيف الشرف في البعثة و حتى الطالب الذي يثبت جدارة في التقاط الخبرة و التعامل مع تقنيات البحث الحديثة ضمن البعثات الأوروبية تنتهي صلاحيته مع انتهاء عمل البعثة لعدم وجود برامج متابعة للمتميزين في قسم الآثار و كثيراً ما يعمل خريجي هذا القسم في أعمال لا تمت بصلة لدراستهم , فالدولة المافيوية و التي تعتمد على الآثار في زيادة أرصدتها في بنوك سويسرا لن تسمح بفتح المجال أمام أبناء البلد لمعرفة محتويات إرثهم التاريخي .
بالإضافة إلى الواقع الأكاديمي السيء الذكر فالروتين و البيروقراطية و المحسوبية التي تسم طابع المؤسسات في سورية كان لها النصيب الأكبر في قطاع الآثار و السياحة و هذه المحسوبيات كانت تمتد من مدير المتاحف و حتى أصغر حارس في المتحف و كثيراً ما نجد أمناء للمتاحف بالكاد يحملون الشهادة الاعداية أو الثانوية, و سنعرض بعضاً من المؤشرات الخطيرة التي سهلت عمل اللصوص سابقاً و اللصوص منذ بداية الثورة السورية
1- حتى عام 2011 كانت الكثير من المتاحف و منها متحف إدلب و دير الزور لديهم أكثر من عشرين ألف قطعة أثرية في حوزتهم ولا يوجد سوى أمين واحد في المتحف و يكفي لهذا الأمين أن يأخذ إجازة مرضية واحدة حتى تحدث السرقة و قد سُجلت سرقات كثيرة في هذا الشأن
2- الحراسة السيئة .. , فأكثر الحراس إما متعاملون مع تجار آثار أو هم جند لرفعت الأسد و باسل الأسد وصولاً إلى الوريث الشرعي لسرقة الآثار ماهر الأسد و الطريف أيضاً أنه حتى عام 2000 كان هناك على سبيل المثال أكثر من مئة موقع أثري في درعا و لا يوجد سوى 13 حارس و نصفهم غير مثبت , و من بعض أشهر حوادث السرقة , سرقة مومياء من متحف تدمر و محاولة سرقة تمثال "أورنينا" من متحف دمشق و الذي تحطم أثناء محاولة تهريبه
3- إن الشركات التي تبني المتاحف و ترممها هي شركات تنفيذية غير متخصصة لذلك تحولت أبنية المتاحف إلى أبنية عادية تفتقر إلى أصغر مقومات الحماية و السلامة علماً أن الاتحاد الأوروبي قدم مشاريع كثيرة و بالمجان من أجل الحماية الالكترونية للقطع الأثرية لكن العقلية البعثية كانت ترفض هذه المشاريع دائماً تحت ذريعة "أسرار دولة"
4- الأرشفة اليدوية المتبعة في المتاحف السورية لم تعتمد على أي معيار علمي و من أوضح المؤشرات التي كانت تدل على أن هناك سرقات لآلاف القطع الأثرية هو وجود المئات من القطع التي تحمل نفس الرقم -فيضيع دم القتيل بين القبائل- و الأنكى من ذلك عندما تبرعت إيطاليا بمشروع لأتمتة القطع الأثرية بميزانية مليوني يورو عام 2002 و 2007 تم عرقلة هذا المشروع من قبل مديرية المتاحف في المرتين .
بينما تخرج علينا مديرية المتاحف اليوم بكامل وقاحتها و ادعائها أنها تعاني من ضياع الإرث السوري و تقوم بمشاريع أتمتة الكترونية لتوثيق الأضرار و القطع التي تم سرقتها من المواقع الأثرية .
المؤشرات السابقة و غيرها الكثير كانت سبباً أضاعَ جزءاً كبيراً من إرثنا الانساني الذي نهبه تجار الدم و السلطة و سوف يكون السبب في القضاء على المتبقي فالمصيبة لا تكمن في الكنوز و التحف التي تخرج يومياً كالأنهار من أرض سورية و لكنها تكمن في عدم وجود توثيق لهذه القطع التي سوف يضيع مصدرها لتصبح هويةَ سوريا بين منزلتي الاغتصاب و القتل .
كان لغياب الأتمتة عن توثيق اللقى الأثرية في فترة حكم الأسد الأب و الابن أثراً بالغاً في تكديس مئات الآلاف من القطع ضمن المستودعات التي تفتقر لأبسط شروط الصحة التخزينية مما أدى إلى تأكسدها و إتلافها فعلى سبيل المثال لا الحصر يوجد (51) صندوق مأخوذين من قصر الحير الشرقي و قد نقلوا إلى مديرية المتاحف منذ عام 1945 و هذه الصناديق الى الآن مخزنة من دون توثيق أوجرد بالإضافة إلى صناديق أخرى من لُقى و مكتشفات لقلعة حماه ناهيكَ عن مئات القطع التي يتم نقلها من مواقع التنقيب بدون تسجيل و الأمثلة كثيرة على ذلك و لكن لم يكن أحد يستطيع أن يعارض هذا الأمر الذي له علاقة بصلب عمليات التهريب و السرقة . طبعاً هذا ما أدى بدوره ضمن الظروف الراهنة إلى أن يتم سرقة آلاف القطع من المتاحف و التي لا يمكن استعادتها لأنها غير موثقة إلى الآن و مصرف متحف الرقة المنهوب على يد الجبهة الاسلامية والذي تحتوي مستودعاته على آلاف اللقى الغير مسجلة هو أفضح مثال على ذلك .
بالعودة إلى المرسوم التشريعي 222 سوف نجد أن السلطة كانت تبيح لنفسها تسمية الآثار لما تراه هي آثار من دون أن نعلم ما هو المعيار الأساسي لهذا التقييم و إلى الآن لا زال حاضراً في ذهن الجميع قرار المدير العام للآثار و المتاحف بإزالة سوق القرماني غربي منطقة ساروجة علماً أن وزارة الثقافة أصدرت القرار رقم 97 عام 2004 و الذي يعتبر منطقة القرماني منطقة تراثية و ذات طابع مملوكي , ناهيك عن هدم ميتم سيد قريش , و إفراغ المعنى الثقافي و الانساني لمدينة دمشق من خلال منِح تراخيص لإغراق المدينة القديمة بالمطاعم و الفنادق إضافة إلى إهمال البنى التحتية لمدينة دمشق و هذا كله غيضٌ من فيض قرارات هذه السلطة التي لا يبدو أنها تمتلك أدنى إحساس بالهوية الثقافية و الروحية لسورية .
جميع ما سبق يدل على مصلحة أشخاص مستفيدين من هذا الوضع المزري لقطاع الآثار و المتاحف لأن عملية تأهيل المتاحف و أتمتة القطع الأثرية و تطوير آليات التنقيب و إنشاء الكوادر المناسبة و الكافية ليست بالأمر المستحيل أو المكلف و خاصةً أن استراتيجية تحويل سورية إلى بلد سياحي يضاهي حتى إسبانية و إيطاليا سوف يكون بمثابة النفط البديل لسورية لكن هذا الكلام لن يناسب العصبة الحاكمة التي استفردت بالبلاد و العباد و ليس خافياً على أحد أن رفعت الأسد كان من أكبر مهربين الآثار و خاصةً في المنطقة الجنوبية "السويداء" و في صيدنايا أيضاً , و كذلك باسل الأسد و هناك القصة الشهيرة عندما عثر أحد سكان باب شرقي على مجموعة من الآثار تحت منزله فداهمته فرقة من المخابرات الجوية و صادرت له المنزل و تم العمل داخل المنزل بإشراف باسل الأسد شخصياً و بقيت السيارات تُحمل قطع أثرية من المنزل لمدة خمسة أيام ثم تم تهريب هذه القطع إلى هشام قلعي شقيق نادر قلعي في كندا و هما من تجار الأثار المتعاملين مع باسل مباشرةً و قد تم اكتشاف هذا الأمر و نُشِر في الصحف الكندية .
و كذلك ماهر الأسد و فضائحه مع رجل الأعمال بولس حلاق في حلب فقد أبدعا في سرقة الآثار و بيعها , و للأسف مهما حاولنا أن نبحث عن معلومات عينية أكثر منها خبرية لن نجد لأن هذه الأعمال كانت تتم دون أي مراقبة فمن سيراقب أصحاب المزرعة التي تسمى سورية الأسد أصحاب المزرعة الذين يؤمنون أنهم لا يسرقون بل هم يأخذون ما هو ملكٌ لهم و لأبيهم .
إلى ما قبل الثورة السورية استطاعت دولة البعث أن تحول الإرث الحضاري و الكنوز التي تخبئها سورية من أيقونةٍ لإنعاش التنمية المستدامة و الاعتزاز بالتاريخ و الهوية إلى عبءٍ يثقلُ كاهل الوطن و يجعل منه فريسة لكلِ أصحاب الغايات القذرة , فما أن بدأت الثورة السورية حتى رُميت الحضارة كغزالةٍ ضمن قطيعٍ من الذئابِ الجوعى .
قد يكون التاريخ هو الفخ ..! فما تشهده سورية اليوم من حربٍ همجية تمتد لتصل إلى جوهر الروح الحضارية لا يقتصر على حكمٍ دكتاتوري انتفض شعبه ضده لكي يخلعه و حسب , بل هو الثقل الاستراتيجي للجغرافية التي خلقت الإنسان الأول و جعلته ينسلخ عن أجداده القرود و يمشي منتصب القامة لينشئ حضارة امتدت حتى آلاف السنين , فسورية هي جنة علماء الآثار كما يقول عالم الآثار الألماني "أوبن هايم" و وقوع سورية على ملتقى ثلاث قارات "آسيا و أفريقيا و أوروبا" مهَد لحضاراتٍ عديدة أبدعت في كافة المجالات من فن و علوم و آداب و عمران و غيرها فكانت أول المدن المأهولة و أول أبجدية و أول نوطةٍ موسيقية و أول تطويرٍ لأدوات الصيد و تصميم الأزياء ... الخ , و هذا ما أعطاها زخماً حضارياً جعل من أرضها حلماً لإنشاء الكثير من الممالك عليها لذلك تناوبت الحروب على أرضها و تغيرت الأجناس و تماهت و قد ترك الإنسان آثاره فيها إلى ما قبلَ مئةِ ألف عام , و حتى الآن تم اكتشاف ثلاثةٌ و ثلاثون حضارة في سورية إضافة إلى عشرة آلاف موقع أثري بينهم أربعة آلاف موقع أثري مسجل , و المهتم بعلم الآثار يدرك تماماً أن لكل موقع أثري يمكن أن نفرد دراسات طويلة فالحديث عن الإرث الإنساني و الحضاري لسورية يحتاج إلى مجلدات .
إن من أهم الحضارات التي تعاقبت على حكم سورية هم الأكاديون و الآشوريون و العموريون و الآراميون و الفينيقيون و العرب , و قد غزاها الفرس و اليونان و الرومان و التتار و الأتراك و الصليبيون
أما أشهر ممالكها , مملكة "ماري" , " دورا أوروبوس", "تدمر" ,"إيبلا" , "عمريت" , "أوغاريت" و غيرها .
هذا التلاحم و التطاحن الحضاري على أرض سورية هو ما أورثها علةَ وجودها و إرثها التاريخي و الديني فكانت بحق مهداً للحضارات و أرشيفاً لها .
الحملات الأوروبية و بداية التنقيب في سورية
لا تزال الحملات الأوروبية التي بدأت على بلاد الشام (م1798) تفعلُ فعلها حتى اليوم و سورية كانت من أخصب المناطق في التي تم التنقيب فيها و سرقة الكثير من قطعها الأثرية المهمة , و قد بدأ التنقيب منذ عام 1860 على يد عالم الآثار الفرنسي "آرنست رينان" و الذي بدأ عمله في تدمر و الساحل و قد نقل الكثير من آثار تدمر و غيرها إلى فرنسا و إلى دول أوروبية أخرى ولا يوجد توثيق بعدد القطع المنهوبة لعدم وجود أرشفة رقمية لهذه القطع فبالنسبة للدول الأوروبية لم يكن هذا فعلاً محرماً كما يقول "إدوارد سعيد" فأوروبا كانت خلال هذه الحملات تعتبر نفسها مركز العالم و منشأ الحضارة و ذلك من أجل تبرير النهب و الاستعمار و بالتالي كان من حقها أن تأخذ ما هو لها .
و مع ظهور المسألة اليهودية و بداية نشوء المستوطنات في فلسطين تم التأكيد على مركزية التوراة في الحضارة الأوروبية و من ثم ربط العهد القديم بالعهد الجديد و الذي كان وبالاً على تاريخ بلاد الشام عموماً و فلسطين خصوصاً و التي كانت جزء من سوريا الكبرى حينها , حيث و كما يرى الكاتب "محمد الأسعد" أن الغرب قد توجه إلينا بأسطورتين الأولى هي حق القوي في الهيمنة و الثانية هي أسطورة تاريخية تعتبر ملائمة لفهم المنطقة .
من هنا فقد كان علم الآثار ليس للتنقيب و البحث عن الآثار القديمة و التعرف على هويتها فهذه الهوية معروفة من داخل النص التوراتي مسبقاً و الهدف الوحيد من التنقيب هو استعادة الجوهر المطمور و إعادته للحياة من خلال استعادة أرض التوراة , ولذلك و كما سنوضح فيما بعد نجد أن أكثر القطع الأثرية التي نُهبت من سورية الثورة أصبحت الآن في المتاحف الإسرائيلية التي كلما ضُحِدت رؤيتها التوراتية ازدادت متاحفها بشواهد تنتمي لجغرافية سورية , و الغريب في الأمر أن وزارة الثقافة و مديرية المتاحف و الآثار في دولة المواجهة و الممانعة كانت تسمي بعض المواقع المكتشفة حديثاً بأسماء يهودية رغم وجود معادلها العربي مثل تل الكزل الذي يطلقون عليه "سيميرا" و هو اسم لعشيرة توراتية و جبل النبي مند الذي يطلقون عليه "قادش" و غيرها الكثير .. فلمصلحة من كان يتم هذا الأمر ؟
تاريخ إنشاء المتاحف
يبلغ عدد المتاحف في سوريا ثمانية و ثلاثون متحفا (يتضمنها متاحف الفنون الشعبية) و بالرغم من أن تواريخ تأسيس المتاحف في سورية قديم العهد إلا أنه لم يكن يحقق الغاية المرجوة منه لقلة الوعي الشعبي بمعنى الهوية الحضارية التي حاولت الحملات الأوروبية طمسها في كامل المشرق العربي , و بدأ الاهتمام بإنشاء هذه المتاحف بشكل عملي مع ازدياد انتقال القطع الأثرية الى اسطنبول و الدول الأوروبية في فترة حكم الدولة العثمانية و من أجل أن نفهم تاريخ تطور المسوحات الأثرية لا بد لنا من أن نتطرق إلى تاريخ نشوء أهم المتاحف و تطورها
• المتحف الوطني في دمشق
يتربع عند ضفاف بردى و يعتبر عميد المتاحف السورية و هو مرجع توثيقي هام على المستوى المحلي و العالمي .
بدأ إنشاؤه في تاريخ الاستقلال عن الدولة العثمانية في عام 1919 , و في عام 1939 تم تدشين القسم الشرقي منه ببوابة قصر الحير الغربي الذي بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في بادية الشام ثم تم تدشينه بشكله النهائي في عام 1950 و استمرت عمليات التحديث فيه بشكل متقطع حتى بداية الثورة السورية في عام 2011
يحتوي متحف دمشق الوطني مقتنيات تعود إلى أكثر من سبعة آلاف عام قبل الميلاد حتى العهد العثماني
• متحف حلب الوطني
أنشئ المتحف في عام 1939 و هو متحف سوري بامتياز حيث يحتوي على كنوز أثرية تخص مدينة حلب التاريخية و قد كان المتحف عبارة عن قصر عثماني , و في عام 1966 تم هدم القصر بقرار أحمق من أجل توسيع المتحف , و تُثبت مقتنيات المتحف القيمة الحضارية لمدينة حلب التي تُعد من أقدم المدن في التاريخ
• متاحف حماه
• متحف حماه الأثري
بُني في عام 1983 و يعتبر من أغنى متاحف سورية باللقى الأثرية القديمة (البيزنطية و الرومانية) الآتية من حضارة أفاميا , و كذلك اللقى الأثرية التي تعود إلى الألف السادس قبل الميلاد و الآتية من تل حماه , و فيه كثير من الشواهد على بداية العصر الحجري و البرونزي في هذه المناطق .
متحف أفاميا *
يعتبر متحف الفسيفساء الأول في سوريا حيث تعج به اللوحات الفسيفسائية التي تعود إلى منتصف القرن الرابع للميلاد
• متحف حمص
تم تأسيس المتحف في عام 1974 في الطابق الأرضي للمركز الثقافي في حمص , و في عام 1994 تم نقل محتويات المتحف إلى بناء تاريخي هو بناء مقر بلدية حمص في عام 1922
و أهم مقتنيات المتحف تعود إلى العهد البيزنطي و الاسلامي , و قد بلغ عدد القطع المعروضة في المتحف 731 قطعة من أصل 5000 قطعة من مقتنيات المتحف
• متاحف إدلب
متحف المعرة
يقع في ساحة المعرة و قد بُني في خان مراد باشا في عهد الدولة العثمانية و يحوي على ألواح الفسيفساء الرائعة التي تحكي قصص بيزنطية و أساطير يونانية , و بعض اللوحات كُتِبَ عليها باللغة الآرامية
متحف إدلب
أنشئ عام 1987 و يحوي على آثار مواقع تل مرديخ و إيبلا و داحس و تل مسطومة و تل آفس و مدافن سراقب و قد عرضت محتوياته منذ الألف الثالث قبل الميلاد و حتى العصور الاسلامية .
• متحف تدمر الأثري
يتربع في أول المدينة في ساحة الملكة زنوبيا و هذا المتحف يذكرنا بالمتاحف المصرية من حيث طقوس محتوياته بالإضافة إلى طابعه الروماني حيث توجد المومياءات و المدافن و المعابد و السرر الجنائزية و كتابات تذكارية على الجدران بالإضافة إلى المسارح الرومانية و وجود متحف للفنون الشعبية التدمرية
• متحف السويداء
فيه منحوتات منذ العهد الناباثي و حتى العهد العربي و يتميز بلوحاته الفسيفسائية
• متحف الرقة
تأسس عام 1981 , و تعتبر المناطق الشمالية بالعموم من أغنى مناطق سورية بالأثار و مع ذلك فقد اقتصرت مقتنيات متحف الرقة على الآثار الاسلامية و التراث الشعبي فقط .
• متحف دير الزور
أكبر المتاحف السورية يوجد فيه مقتنيات تمتد منذ العصر الحجري حتى العصر الاسلامي و قد تم إعادة بناء بعض المواقع داخل المتحف .
• متحف اللاذقية
يعود تاريخ بناءه إلى نهاية القرن السابع عشر و شيد طابقه العِلوي عام 1904 و فيه آثار الشرق القديم (مكتشفات أوغاريت) بالإضافة لآثار إبن هانئ و يحتوي على مقتنيات بيزنطية و رومانية و مقتنيات من العهد الاسلامي
سوريا مقبرة الحضارات "فترة حكم البعث"
ليس بالأمر اليسير توثيق السرقات و الانتهاكات التي تعرضت لها آثار سورية منذ حقبة الأسد الأب و خصوصاً أن الدولة المخابراتية كانت تتعامل مع سورية و كأنها ملك خاص فاقتصرت السرقات على المافيوات العائلية و الرجال الذين يدورون في فلكهم و لهذا و مع انعدام وجود أي مؤسسات للمراقبة فقد اقتصر التوثيق على جهود فردية وعلى حوادث شاعت بين الناس لذلك لا بد من الانطلاق ببعض المعايير الاجرائية التي ستفترض أن سوريا كانت مقبرة للحضارات في عهد الأسد
1- إن كنت بالطائرة و مررت فوق سورية على ارتفاع منخفض ستكتشف مدى الإهمال الذي حظيت به سورية طبيعياً و عمرانياً و هذا أول عامل لطمس هوية الدولة
2- المرسوم التشريعي رقم 222 الخاص بحماية الآثار ينص على أن السلطات السورية تتولى المحافظة على الآثار كما أنها تتولى وحدها تقرير أثرية الأشياء و المباني التاريخية و المواقع الأثرية و ما يجب تسجيله من آثار
3- هناك دراسة لعالما الآثار البريطانيان "كريستوفور تشيبندايل" و "ديفيد جيل" و تكاد تكون الدراسة الوحيدة حيث تقول هذه الدراسة أنه بعد مراجعة لمصدر 1396 قطعة أثرية فقد افتقر 75% من هذه القطع إلى أوراق تثبت مصدرها و هذا دليل أنها أتت من عمليات تنقيب غير مشروع أو أن هذه القطع غير مؤرشفة
مهما بدا تقييمنا سيئاً فالواقع أكثر سوءاً
التباكي على قنوات النظام بأن سورية مهد الحضارات والإرث الذي يضيع من أيدينا لا يمكن أن يُبرر طالما أن هذا النظام هو أسُ المشكلة التي سمحت لهذا الإرث أن يضيع فمن يكون منهجه ضرب حضرية الجغرافية و ترييف المدن لن يعنيه حضارة البلد
إن سوريا التي تعيش على سبعة آلاف عام من الحضارة لا توجد بها كلية واحدة للآثار لكي تُخرج طلاباً كفؤاً لحملِ إرث بلادهم و حمايته , و يقتصر القسم الموجود في كلية الآداب على تعلم أحد اللغات السامية القديمة و بعض المعارف النظرية و مع ذلك يتوزع بعض الطلاب على البعثات الأجنبية و الوطنية فيكون الطالب السوري بمثابة ضيف الشرف في البعثة و حتى الطالب الذي يثبت جدارة في التقاط الخبرة و التعامل مع تقنيات البحث الحديثة ضمن البعثات الأوروبية تنتهي صلاحيته مع انتهاء عمل البعثة لعدم وجود برامج متابعة للمتميزين في قسم الآثار و كثيراً ما يعمل خريجي هذا القسم في أعمال لا تمت بصلة لدراستهم , فالدولة المافيوية و التي تعتمد على الآثار في زيادة أرصدتها في بنوك سويسرا لن تسمح بفتح المجال أمام أبناء البلد لمعرفة محتويات إرثهم التاريخي .
بالإضافة إلى الواقع الأكاديمي السيء الذكر فالروتين و البيروقراطية و المحسوبية التي تسم طابع المؤسسات في سورية كان لها النصيب الأكبر في قطاع الآثار و السياحة و هذه المحسوبيات كانت تمتد من مدير المتاحف و حتى أصغر حارس في المتحف و كثيراً ما نجد أمناء للمتاحف بالكاد يحملون الشهادة الاعداية أو الثانوية, و سنعرض بعضاً من المؤشرات الخطيرة التي سهلت عمل اللصوص سابقاً و اللصوص منذ بداية الثورة السورية
1- حتى عام 2011 كانت الكثير من المتاحف و منها متحف إدلب و دير الزور لديهم أكثر من عشرين ألف قطعة أثرية في حوزتهم ولا يوجد سوى أمين واحد في المتحف و يكفي لهذا الأمين أن يأخذ إجازة مرضية واحدة حتى تحدث السرقة و قد سُجلت سرقات كثيرة في هذا الشأن
2- الحراسة السيئة .. , فأكثر الحراس إما متعاملون مع تجار آثار أو هم جند لرفعت الأسد و باسل الأسد وصولاً إلى الوريث الشرعي لسرقة الآثار ماهر الأسد و الطريف أيضاً أنه حتى عام 2000 كان هناك على سبيل المثال أكثر من مئة موقع أثري في درعا و لا يوجد سوى 13 حارس و نصفهم غير مثبت , و من بعض أشهر حوادث السرقة , سرقة مومياء من متحف تدمر و محاولة سرقة تمثال "أورنينا" من متحف دمشق و الذي تحطم أثناء محاولة تهريبه
3- إن الشركات التي تبني المتاحف و ترممها هي شركات تنفيذية غير متخصصة لذلك تحولت أبنية المتاحف إلى أبنية عادية تفتقر إلى أصغر مقومات الحماية و السلامة علماً أن الاتحاد الأوروبي قدم مشاريع كثيرة و بالمجان من أجل الحماية الالكترونية للقطع الأثرية لكن العقلية البعثية كانت ترفض هذه المشاريع دائماً تحت ذريعة "أسرار دولة"
4- الأرشفة اليدوية المتبعة في المتاحف السورية لم تعتمد على أي معيار علمي و من أوضح المؤشرات التي كانت تدل على أن هناك سرقات لآلاف القطع الأثرية هو وجود المئات من القطع التي تحمل نفس الرقم -فيضيع دم القتيل بين القبائل- و الأنكى من ذلك عندما تبرعت إيطاليا بمشروع لأتمتة القطع الأثرية بميزانية مليوني يورو عام 2002 و 2007 تم عرقلة هذا المشروع من قبل مديرية المتاحف في المرتين .
بينما تخرج علينا مديرية المتاحف اليوم بكامل وقاحتها و ادعائها أنها تعاني من ضياع الإرث السوري و تقوم بمشاريع أتمتة الكترونية لتوثيق الأضرار و القطع التي تم سرقتها من المواقع الأثرية .
المؤشرات السابقة و غيرها الكثير كانت سبباً أضاعَ جزءاً كبيراً من إرثنا الانساني الذي نهبه تجار الدم و السلطة و سوف يكون السبب في القضاء على المتبقي فالمصيبة لا تكمن في الكنوز و التحف التي تخرج يومياً كالأنهار من أرض سورية و لكنها تكمن في عدم وجود توثيق لهذه القطع التي سوف يضيع مصدرها لتصبح هويةَ سوريا بين منزلتي الاغتصاب و القتل .
كان لغياب الأتمتة عن توثيق اللقى الأثرية في فترة حكم الأسد الأب و الابن أثراً بالغاً في تكديس مئات الآلاف من القطع ضمن المستودعات التي تفتقر لأبسط شروط الصحة التخزينية مما أدى إلى تأكسدها و إتلافها فعلى سبيل المثال لا الحصر يوجد (51) صندوق مأخوذين من قصر الحير الشرقي و قد نقلوا إلى مديرية المتاحف منذ عام 1945 و هذه الصناديق الى الآن مخزنة من دون توثيق أوجرد بالإضافة إلى صناديق أخرى من لُقى و مكتشفات لقلعة حماه ناهيكَ عن مئات القطع التي يتم نقلها من مواقع التنقيب بدون تسجيل و الأمثلة كثيرة على ذلك و لكن لم يكن أحد يستطيع أن يعارض هذا الأمر الذي له علاقة بصلب عمليات التهريب و السرقة . طبعاً هذا ما أدى بدوره ضمن الظروف الراهنة إلى أن يتم سرقة آلاف القطع من المتاحف و التي لا يمكن استعادتها لأنها غير موثقة إلى الآن و مصرف متحف الرقة المنهوب على يد الجبهة الاسلامية والذي تحتوي مستودعاته على آلاف اللقى الغير مسجلة هو أفضح مثال على ذلك .
بالعودة إلى المرسوم التشريعي 222 سوف نجد أن السلطة كانت تبيح لنفسها تسمية الآثار لما تراه هي آثار من دون أن نعلم ما هو المعيار الأساسي لهذا التقييم و إلى الآن لا زال حاضراً في ذهن الجميع قرار المدير العام للآثار و المتاحف بإزالة سوق القرماني غربي منطقة ساروجة علماً أن وزارة الثقافة أصدرت القرار رقم 97 عام 2004 و الذي يعتبر منطقة القرماني منطقة تراثية و ذات طابع مملوكي , ناهيك عن هدم ميتم سيد قريش , و إفراغ المعنى الثقافي و الانساني لمدينة دمشق من خلال منِح تراخيص لإغراق المدينة القديمة بالمطاعم و الفنادق إضافة إلى إهمال البنى التحتية لمدينة دمشق و هذا كله غيضٌ من فيض قرارات هذه السلطة التي لا يبدو أنها تمتلك أدنى إحساس بالهوية الثقافية و الروحية لسورية .
جميع ما سبق يدل على مصلحة أشخاص مستفيدين من هذا الوضع المزري لقطاع الآثار و المتاحف لأن عملية تأهيل المتاحف و أتمتة القطع الأثرية و تطوير آليات التنقيب و إنشاء الكوادر المناسبة و الكافية ليست بالأمر المستحيل أو المكلف و خاصةً أن استراتيجية تحويل سورية إلى بلد سياحي يضاهي حتى إسبانية و إيطاليا سوف يكون بمثابة النفط البديل لسورية لكن هذا الكلام لن يناسب العصبة الحاكمة التي استفردت بالبلاد و العباد و ليس خافياً على أحد أن رفعت الأسد كان من أكبر مهربين الآثار و خاصةً في المنطقة الجنوبية "السويداء" و في صيدنايا أيضاً , و كذلك باسل الأسد و هناك القصة الشهيرة عندما عثر أحد سكان باب شرقي على مجموعة من الآثار تحت منزله فداهمته فرقة من المخابرات الجوية و صادرت له المنزل و تم العمل داخل المنزل بإشراف باسل الأسد شخصياً و بقيت السيارات تُحمل قطع أثرية من المنزل لمدة خمسة أيام ثم تم تهريب هذه القطع إلى هشام قلعي شقيق نادر قلعي في كندا و هما من تجار الأثار المتعاملين مع باسل مباشرةً و قد تم اكتشاف هذا الأمر و نُشِر في الصحف الكندية .
و كذلك ماهر الأسد و فضائحه مع رجل الأعمال بولس حلاق في حلب فقد أبدعا في سرقة الآثار و بيعها , و للأسف مهما حاولنا أن نبحث عن معلومات عينية أكثر منها خبرية لن نجد لأن هذه الأعمال كانت تتم دون أي مراقبة فمن سيراقب أصحاب المزرعة التي تسمى سورية الأسد أصحاب المزرعة الذين يؤمنون أنهم لا يسرقون بل هم يأخذون ما هو ملكٌ لهم و لأبيهم .
إلى ما قبل الثورة السورية استطاعت دولة البعث أن تحول الإرث الحضاري و الكنوز التي تخبئها سورية من أيقونةٍ لإنعاش التنمية المستدامة و الاعتزاز بالتاريخ و الهوية إلى عبءٍ يثقلُ كاهل الوطن و يجعل منه فريسة لكلِ أصحاب الغايات القذرة , فما أن بدأت الثورة السورية حتى رُميت الحضارة كغزالةٍ ضمن قطيعٍ من الذئابِ الجوعى .