ذاكرة النسيان
خاص ألف
2008-06-07
يتذكر الجرح السكين؛ لكنه ينسى نصلها, فيشفى . هكذا هي الحياة ذاكرة النسيان .
يقول نيتشه عن النسيان في أبهى حالاته: أنه نسيان خلاق, فلولاه لكان الإبداع أصلا, فشبها, يختفي رويدا رويدا في رمل الأيام؛ فبالنسيان يكون أصلا, فأصلا.
فالنسيان هو ما يجعل الإنسان ابن اللحظة النازلة من سماء المستقبل, ويدفع خطوته بعيدا عن شلال الماضي الهادر. إنه النهر الذي تتجمع به كل السواقي والسيول , كل ما قرأت وحفظت وفكرت فيه, يذوب في لجة النسيان؛ ليتفجر نبع إبداع؛ فبه تتم حلولية الإبداع في كونه؛ أنه خروج الصورة من أصل السكون إلى أصل الحركة.
الشاعر هوميروس صنع اليونان عبر ملحمتيه, تناسى تشتت الألوان واستقلالها في أساطير الأولين في وحدة الفسيفساء وانتظامها؛ فكانت الإلياذة والأوديسة تراثا جمع شتات الممالك في محتوى أنجز ما يسمى معجزة اليونان.
قالت العرب :الشاعر لا يكون شاعرا مالم يعرف أنساب العرب وأيامهم السوداء والبيضاء وحدثانهم ووقائعهم فينسى ذاته ليقوم بهم وينساهم ليقوم بشعر من عبقر. الدهشة لا تأتي من المعتاد الثابت في الفكر كبداهات الغريزة إنما من جديد في التصور يريك البداهة في لحظة ولادتها فتبني عليها تعارفا جديدا يزيل عنك جهل الألفة؛ فتفتح لك مفازات الطول إلى العرض وتحلق بك أجنحة الارتفاع من سطح إلى عمق الزمان فتدرك ذاتك أنها الممحاة والقلم فتفتح صدرك للآتي وتضيف موجتك إلى المحيط الإنساني الذي يتكسر على شاطئ الأبدية صانعا جنة وجحيما .وكما يقول ادونيس: عشْ ألقا وابتكر قصيدة وأمض , زد سعة الأرض.
يقول النفّري: العلم المستقر كالجهل المستمر. النسيان لا يكون بلا شك وهو بدوره يقود للرفض ومن ثم إزاحة هذا العلم الذي عششت به العناكب من عين البصيرة ليحل محله, العلم الجديد.
وكما يعرف أهل الفيزياء لا يفل الحديد غير الحديد؛ لذلك قال المحبون لا يُذهب حبا قديما غير حب جديد, يقوض بنيانه ويسويه بالأرض ليبني عليه قصره المهيب . فلولاه لتحول الإنسان لقطار يجر خلفه عرباته المحملة بما تجلبه الأيام من آلام وتعاسة وفشل فلا يجد الفرح والنجاح والأمل تذاكر لركوب هذا القطار ولا مقعدا وإن حدث وتسلل إليه أحدهم كاللص خنقته روائح الألم وفقدان سفن الأحبة وغرق في صديد الأحزان وهكذا قطار انطلق لغاية وحيدة وصوله لمحطته الأولى والأخيرة (الموت)؛ لكن قاطع التذاكر النسيان يأتي بأوامره ونواهيه ملقيا كل ركاب الماضي ,مفسحا لركاب الحاضر والمستقبل لينالوا مقاعدهم .
النسيان ليس العدم بل استقبال شمس جديدة تضيء حياة الإنسان بأنوار وظلال أخرى .
النسيان بستاني يعمل في أرض الذاكرة يشذب, يقص ,يطعّم, يسمّد, زبال يجمع قمامة ضجة النهار في حاويات الليل ليبعث بها إلى معامل إعادة التدوير؛ لا إلى مكبات الزبالة لتحرق أو تطمر فتسبب الكثير من الكوارث البيئية في النفس الإنسانية .
النسيان: الاسم السري للذاكرة, فالجذع نسيان الجذر, والأوراق نسيان الساق ,والثمار نسيان الأزهار, ولكنها الشجرة الذاكرة.
باسم سليمان
[email protected]
08-أيار-2021
29-كانون الأول-2018 | |
02-حزيران-2018 | |
17-آذار-2018 | |
23-كانون الأول-2014 | |
04-آذار-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |