ولم يكنِ الفستانُ أزرق!
2008-06-07
أسخفُ ما في الظاهرة البشرية أن أحدا لا يشهدُ أهمَّ حدثين في حياته: لحظةَ ميلاده، ولحظةَ موته! في الأولى يكون وعيه بالعالم لم يتكوّن بعد، وفي الثانية يكون الوعي قد انتقل إلى منطقة أخرى لا تخصُّ هذا العالم. أيُّ ظلم!
وأنا طفلة كنت أتأمل عروستي. أُبدّل فساتينها وشرائط شعرها وأفكر: ما لونُ الفستان الذي جئت به إلى العالم؟ بالتأكيد كان أزرق. هو لوني الأثير. وهل كان شعري معقوصا في ضفيرة أم ذيل حصان؟ أسئلةٌ تشغلنيّ! وكلما سألت أمي ضحكت وجعلتني أكرر السؤال أمام صديقاتها فيضحكن. وبقدر ما كانت تدهشني بلاهتهن ليضحكن من مثل هذا السؤال "المهم"، بقدر ما لم أتنازل عنه. كبرتُ قليلا وعرفت. وصُدمت. لم نجئ إذن في صندوق من الكرتون الملون مربوط بفيونكة عريضة من الساتان مثلما جاءت عروستي! والأسوأ أنّا جئنا دون ملابسَ أو ألوان! ياللسخف! وإذن ضاع سؤالي الأول إلى الأبد، ليحلَّ محلّه سؤالٌ آخر، ليس ملونا كالأول، بل سؤالٌ يحفّه السواد. طيب، كيف سيكون شكل العالم حين أتركه؟ كيف ستحزن أمي وأخي وأصدقائي؟ هل سيحزنون أصلا؟ وماذا سيفعلون بمكتبي وسريري وكتبي وعرائسي وغرفتي؟ إلى مَن ستؤول؟ أتخيّلُ مشهدا يقف فيه المعزّون حول تابوتي الأنيق، في حديقة كثيفة الشجر (متأثرةً بالأفلام الأجنبية حين يتحلّقُ الأصدقاءُ بالميت ليقولوا كلاما طيبا عنه وهم يجهدون ليبتسموا محولين الحزن إلى طقسٍ عذبٍ دون صراخ ودموع!). هل ستحكي أمي عن شغبي؟ وأخي عن معاركنا؟ أم سينساها مؤقتا، بما يليق باللحظة الصعبة؟ أخطط قبل نومي أن "أستموّت" في الصباح وبينما يلقون كلماتهم "الطيبة" أفاجئهم بقيامتي! في الصباح أنسى خُطتي وأرتدي ماريول المدرسة! والأخطر هو بعد موتي، كيف ستطير روحي "عند ربنا" وأنظرُ إلى العالم من "فوق"؟ وأعيدُ ترتيب غرفتي بحيث يظهر أكبر قدر من أثاثها عبر النافذة حين أراقبها من السماء!
وكبرتُ، للأسف! وبرحتْ تلك الأسئلة "الكبرى" رأسي. حلّت محلها أسئلةٌ أكثرُ قتامةً وعبوسا وأقلُّ شعريةً وألوانًا. ولم أتنازل عن الإجابات أبدا. ولم أصل للإجابات أبدا. حتى اكتشفت الطريق الفذ للميلاد والموت كل يوم.
الكتابة. في الشعر ليس فقط ستقدر أن تشهد لحظة ميلادك وموتك كثيرا جدا، بل تقدر أن تجعل من نفسك بشرا كثيرين. فأنا اليوم زنجية وغدا عمياء وبعد غد "عبيط القرية" وإسكافيّ ودلاي لاما وغاندي وجان دارك وفلورانس نايت إنجل، وهتلر أيضا. أنا اليوم إلهة وغدا شيطان وبعد غدٍ نحلةٌ ودودة وشرنقةُ وشجرةٌ وعمود إنارة. كل هؤلاء وأكثر أشهد ميلادَهم، ثم أقتلهم، فأشهد موتَهم. ألوّن حياتهم وملابسهم كما يحلو لي. أحاكمهم: أُثيبهم، أعاقبهم، أتوّجهم بأكاليل الغار أو الشوك أو أشنقهم حتى. ومحدش منهم يقدر يقول لي "بِمْ". أنا حرة محدش شريكي اعمل زي مانا عاوزة في صفحة ورقتي البيضاء! ألوّنها، أمزّقها، أعملها مراكبَ وطياراتٍ وعرائسَ وبشرا.
كل هذا طبعا بفرض أن لا شيخَ سلفيًّا من قتلة القلم وسافكي الحبر سيطلع عليّ ليحاكم خيالي ويقول لي هذا حرام هذا كفر هذه زندقة! ثم يقيم عليّ دعوى حِسْبة لأرسمَ بقية خيالاتي وراء قضبان قفص!
08-أيار-2021
07-تشرين الأول-2017 | |
20-تموز-2014 | |
28-حزيران-2014 | |
18-حزيران-2014 | |
11-حزيران-2014 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |