كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل حسب توقيتهم، ومع ذلك رحنا نسأل أصحاب سيارات الأجرة، ولم نجد لطلبنا جواباً، إلا رجل واحد لم تكن سيارته تحمل علامة "التاكسي"، تقدم إلينا موافقا على أخذنا إلى مكان مقابل أن نضاعف له الأجرة.. (تفاوض معه "أبو ساره" بإنكليزية متعرجة).. ولم نختلف مع الرجل بعد أن طلب (مبلغ 60 يورو تقسم على ثلاثة كل منا 20 يورو) مقابل مبيتنا لليلة واحدة. وافقنا بلا تردد بعد أن اشترطنا عليه أن يرينا المكان أولا..
حملنا حقائبنا الصغيرة شبه الفارغة إلا ما تيسر لنا من حمل خفيف يحوي الملابس الداخلية وبعض الألبسة الخفيفة، ولم نفكر باننا عُزل فكل دولة ندخلها كانوا يفتشوننا فيها إلى درجة العريّ، وجميع حقائبنا كانت تمرر عبر مرقاب خاص..
انطلق بنا محاذيا للشارع العام ثم بقي ينعطف في شوارع فرعية، كادت أن تخلو من حركة.. لم نكن نتوقع أنه سوف يأخذنا إلى مكان لم يوجد فيه إلا صمت القبور، ولم نكن نعرف بأنها من سمات مدنهم التي لم نفهمها بسهولة.. حيث أثار المكان فينا ريبة ما، نظرنا إلى بعضنا بعضا، ولكننا اعتبرناها أزمة أيضا ولابد أن نتجاوزها بالضحك، ولكنه ضحك خرج بصعوبة وكأنه لم يكن عفويا..
بدت لنا البناية التي توقف عندها تبدو شبه مهجورة، بابها الرئيس من حديد صرّ بخفوت.. عندما دفعه ليدخلنا.. بقيت أعيننا تتفرس تفاصيل المكان. بعدها أنزلنا الحقائب، ورحنا نتبعه بريبة.. بينما بقيت أعيننا تستطلع المكان.. المكان قديم ولكنه منظم تحيط به شوارع فرعية.. كان يدقق في وجوهنا كأنه يريد أن يحفظها، وأحس بارتيابنا وقال لنا من أجل طمأنتنا "لم نبعد سوى حوالي 4 كم".. وكان يشير باتجاه المكان الذي تركنا فيه جماعتنا تفترش أرضه..
كنا نراقب بحذر، ونواري خوفنا بالضحك المتواصل. قال لنا مشيرا عليها بإيماءة:
* "تلك البناية التي أمامكم هي مقر السفارة البريطانية، ورجانا أن نلزم بعض الهدوء، حتى ندخل المكان".
ومع ذلك لم نهمل النظر إلى محدد الملاحة في الموبايل. حددنا المكان على الخريطة: - "خير دليل في عالم ازدحمت علينا خرائطه"..
لم تكن البناية عالية كبقية البنايات التي جاورتها.. كأنما غير مأهولة، فأراد أن يبدد الارتياب:
* "المكان مناسب ورخيص الثمن"..
نزلنا بضع درجات، ثم واجهنا ممر شبه مظلم ترواح طوله 6م، برغم كفاح مصباح وحيد استقر فوق باب الشقة. لم يكن في الممر أي شباك عدا تلك الباب التي فتحها دون أي مفتاح.. ترددنا في الدخول، لكنه مدّ أصابعه إلى زر الإضاءة، وانتشر الضوء، فلقينا أنفسنا قد دخلنا إلى مكان كبير وفاره من الداخل.
واجهتنا صالة الشقة وعلى أطرافها أبواب منها لغرفتيّ نوم، وأخرى لحمام فيه كل اللواحق الصحية، أما المطبخ فلم يكن له سوى إطار خشبي يشرف مباشرة إلى تلفزيون كبير كان مثبتا على الجدار، تحته جميع لواحقه الصوتية. وتوزعت على الجدران صور عديدة نظيفة البراويز.. شبابيك كبيرة تصل إلى الأرض وكلها تطل بباب إلى الحديقة. كان الظلام في الخارج يخيم على المكان برغم التيار الكهربائي الذي كان ينير العتمة.
جلسنا أولا في الصالة الواسعة، ورحنا نركن أغراضنا.. كأنما اتفقنا أن لا ينام أحد منا في غرفة نوم الزوجية، لأنها لم تحتو على تلفاز. كنا نتابع تفاصيل الموجودات بدقة، من يريد أن يعرف أين يضع قدمه.. تفاصيل حضارية لبيت متحضر.. لم يخطر ببالنا أن المكان فرغ لأجلنا مقابل ذلك المبلغ الزهيد.. بقينا نتابع فضاء المكان.. مجموعة كبيرة من الأحذية الرجالية والنسائية رصفت بعناية داخل جزامة استقرت قرب الباب..
تفاصيل كثيرة دلت على أن الشقة، مأهولة من قبل زوجين وليس لهما أولاد.. بدت مؤثثة بكل شيء، نظافة المكان يدل على أنه مأهول وهو مفرغ لنا لتلك الليلة. من أجل أن نستريح فيها مثلما قال لنا سائق التاكسي قبل أن يغادرنا "إنها مفرغة لنا للأيام التي ندفع له أجرتها، ومتفق مع أصحابها بهذا السعر عن كل ليلة.. إذا رغبتم البقاء إلى يوم ثان فإنه سوف يعود غدا لاستلام أجرته"..
باشرنا بعد خروجه في التدقيق في غلق الأبواب، من أجل الأمان.. لكن يبدو أنه نسي أن يسلمنا مفتاح الباب الخارجي. ومع ذلك توزعنا ندقق في غلق النوافذ، متجولين في المكان.. لم نكن في ساعة استقرار، بالرغم من أنه لا يوجد منافذ لكاميرات مراقبة..
قلت لهما: "أنا لم أرتح لهذا السكون؟"، وأضفت: "تخيلوا أننا في عمق نومتنا يدخل علينا من يخدرنا، ثم يسلبون منا أعضاءنا".. "حتماً سنتحول إلى أدوات احتياطية.. صالحة للاستخدام البشري بعد أن كنا غير ذلك!".. ثم قال "أبو ساره" بعد أن أوقف ضحكته المجلجلة، ومغيرا الموضوع:
-"سوف أغتسل"..
بقينا نتأمل في صور الحائط.. "صاحب الشقة مع زوجته في زورق، صاحبة الشقة في صورة أخرى مع تلاميذ في صف دراسي، المرأة شابة في الثلاثينيات.. تقف مع رجل كهل ويظهر من الخلف شمعدان فيه سبعة محامل شموع.. الرجل يقف إلى جانب زوجته وهي منتفخة البطن، وترك يده اليمنى على بطنها"..
لم يتأخر "أبو ساره" في الحمام، خرج مغطيا وسطه بمنشفته، وهو يقول: "لم أحتج حتى ل"شامبو" يا فطحل الإنكليزي"، ثم سبقني "أحمد" في الدخول إلى الحمام.. اضطررت بينما ينتهي من الاغتسال؛ أن أدقق في كيفية عمل تلك الأقفال التي كانت تعمل بشكل لم نألفه من قبل في بيوتنا.. عاود الضحك أبو ساره قائلا: "شتان بين البيت والزريبة".. صاح "أحمد" من الحمام يطلب مني أن أناوله شامبو الغسيل من حقيبته"، أكد "أبو ساره"
بأن الشامبو موجود.. إلا أن أحمد أكد "الشامبو خاص بغسيل وبر الكلاب".. كتمت ضحكة، ورحت أمسح على رأس "أبو ساره"، وأنا أقول ما شاء الله بدا مفعوله عليك سريعا.. فأكمل ضاحكاً:
* "وبعد قليل تتوقع مني العواء"
ثم جاء دوري بعده للاغتسال. ورحت معهم أتناغم مع الضحكة التي تندلع صافية، وعَفيَّة.. لتلامس الجدران، رجوناها أن تكون أكثر رفقنا بنا فيرجع لنا صداها، يطمئننا أن تتسع المساحة لآمال كبيرة علّها تتراشق كرقصات ناعمة، وتجعلنا نطوف في مكان آمن..
ما أن انتهيت من الحمام حتى عدت حيث بدأت محاولاً التأكد من إقفال شبابيك الغرفتين، وأنا أفكر في كيفية صياغة مزحة جديدة تتعلق ب"الشعر الغجري المجنون"، والكلب.. أوقفت أغنية "عبد الحليم حافظ" التي تركتها تتهادى من محمول "أبو ساره"، وحاولت الإصغاء إلى صوت كان لضيفة دخلت علينا.. جاءت إلينا من الباب تحية "صوت أنثوي".. أسمعه يستأذننا بالدخول "هلوو.. هلو".
كانت أمرأة طويلة تشكل في شعرها وردة، برفقة كلب ضخم أسود الشعر وقد أقعى أمامها مطيعاً، بينما وجدت رفيقي معها يستمعان إلى ما تقول دون أن يباليا بالخوف من الكلب.. بينما هي تبدي لهما عن أسفها بلغة إنكليزية واضحة عن سبب تواجدها المفاجئ، وكأنها متظاهرة بعدم معرفتها بأن زوجها قد أجّر شقتها، ولم تبد تذمراً، بل كانت مستسلمة للأمر، وكأنه يتكرر دائماً.. كان شعرها الأسود الجميل يتدلى على كتفيها، ترتدي بلوزة بيضاء بأكمام طويلة غطت معصميها، وبان طلاء أظافرها بلون أبيض أضفى جمالا إضافيا إليها.. أما بنطالها فقد كان فيه فتحتان واحدة على الركبة والأخرى على الفخذ الأيمن، وكانت تحمل بيدها سترة رمادية بلون البنطال.. بدت كملاك تهادى بأجنحته من خيال على صوت موسيقى.
ما أن التفت حتى شعرت كم كان جمالها لافتاً.. إلى درجة أربكنا ثلاثتنا، وجعلنا كالمسحورين، نتابع نعومة أجبرتنا على الإصغاء إليها بكل جوارحنا، وكأننا لا نريد أن يفلت منه حرف واحد. التفت إلي، وتأكدت بأنها
ذاتها السيدة التي رأيناها في الصور المعلقة على الحائط. فاجأتني "إن كانت هناك مشاكل في أبواب غرف النوم".. فهمت أن كلامها كان موجها لي، لأنه قد لمست الأبواب ذاتها قبل أربع دقائق.. جعلتني أشك أنها جاءت إلينا بعد أن اعتمدت على كاميرا مراقبة.. سألتنا إن كنا نحتاج إلى شيء، فأعرب "أحمد" عن رغبته إن كان هناك اتصال انترنيت، فرحبت بطلبه، وأخرجت من حقيبتها نقالها، وفتحت منه لنا "الانترنيت".. بقينا صاغرين، وقالت منسحبة، بأنها ستنام في شقة مجاورة، وسوف تترك هاتفها وسوف تعود لأخذ جهازها المحمول عندما تغادر إلى وظيفتها في الصباح..
قبل أن تخرج كنا سويا في حالة ارتياح لهذا الكائن البديع الذي حل في قرارة أنفسنا، نتأمل تناسق ألوان ما تلبسه مع توقد عينيها اللتين انسرحتا ترتعان بين رمشين طويلين لم يكونا مستعارين، وقوسي حاجبين خطا بعناية إلّاهية كأنما قد أبدعهما الخالق ليرينا أي جمال قد ترسمت به، واعتنى بها لتكون صاحبة الوجه الذي يحمل كل ذلك الجمال الآسر..
تركتنا لنقول لبعضنا بعضا: (هل كنا نحلم؟).. لكن ثمة لمعة اكتشاف متوقدة، كانت خبيئة في عينيها، وليتنا نعرف جيداً -اللغة، لنحلل كلماتها، ولكنها بدت أثناء كلامها بأنها تتعمد أن تعكس صدقاً.. ليتنا نعرف ما الذي أتى بها إلينا لتحل بين ثلاثة رجال دون أن تخاف منهم، هل تعتمد على الكلب فجعلها تنطق مخارج كلماتها بطريقة واثقة.. "أم هي من ضمن فريق عمل.. تمركز خلفه سند لها يتابعها عبر الكاميرة مما جعلها متأكدة بأني أحاول تأمين النوافذ".. تبادلنا تلك المخاوف، ولكننا غير متأكدين من أي شيء، حتى فاضت علينا المخاوف وجعلتنا نعاود التحديق في الحيطان، والنوافذ، وكل شيء بحثا عن تلك اللعنة التي اسمها "كاميره"، وأين مكانها، وكيف خبئت. "إن كانت هناك واحدة حدسنا وجودها أمام النافذة في تلك الغرفة، ولا بد أن تكون عدة كاميرات موزعة لتراقب كل المكان.. تسلط علينا هاجس المراقبة "قال أحمد يكفي عليكما ناكر ونكير اللذان نحملهما بين تلافيفنا.. دعونا ننام"..
لم يمض على ذلك سوى عشرة دقائق، حتى عادت من جديد تعيد السؤال علينا "إن كنتم في حاجة إلى شيء"، أو "أنها عادت لأجل أن تتكلم مع زوجها"، واقتصر ذلك على دقيقة، وهمت مغادرة..
* قال أبو سارة أرحب بالموت على يد هكذا امرأة.. هل رأيتما أصابع قدميها..
* "كانت حافية القدمين كما يقول "قباني"..
ولأجل أن نطمئن أنفسنا، أكثر فكرنا "لو أتى كل واحد منا بسكين من المطبخ"، فكرنا بأنها حالة بائسة أن نخاف من امرأة. أو الخوف من الفريق الذي يعمل وراء الكاميرة. غلبنا الخوف وأضاع منا رغبة النوم، أرسل كل منا ما في جعته من الصور إلى أهله.. "أبو ساره تحدث مع ابنتيه وأمهما".. أما "أحمد" كلم زوجته وأمه عبر الماسينجر".. سألاني إن كنت أواصل الكتابة عن خيبتنا المتلاحقة".. ثم عاودنا الضحك من الأفكار والاحتمالات.. ففي كل لحظة ينتصب أمامنا شبحها طويلا بظله الطويل يمنع عنا أية إغفاءة، ومهما حاولنا..
قلت:"ليتنا لم نأت إلى هذا المكان؟ كيف سنخرج"؟
"أبدا لا شيء سوى أنها تخاف من أن نسرق أغراضها"..
"ربما سوء ظننا جعلنا نغفل عدم حصولها على مكان تنام فيه"..
"مؤكد أنها تبحث صحبة"
"لا تسقط طريقة تفكير بيئتنا على طريقة تفكير بيئتهم"؟..
اتقفنا لو عادت تسألنا من جديد ستكون تلك المرة الأخيرة، لأنها كررت أسباب عودتها إلينا، فكلما غابت، نجدها بعد لحظات قد حضرت مع كلبها لتكرر رسم بسمتها على وجهها الساحر.
لما عادت كنا قد عزمنا أن نترك المكان، ونعود إلى مستوطنة الانتظار..
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...