ليلى والحاج / محمد الأحمد*
محمد الأحمد
خاص ألف
2018-07-21
عرفت فيما بعد بان مهنة "ابي" الرئيسة هي السحر، ولم تكن مهنة الطب.. حيث كنت اسمع والدتي ترفض مضيّه في غير الطب الذي تعلمه منها، وكانت تقول له بكل هدوء ان لا يقبل على نفسه ذلك الخداع. كانت ترجوه ان لا يخرج من طور الطبيب المعالج، الى طور الساحر المتحاذق.
لكنه ظل يتمادى على مهنته، ويوغل في إهدار حقها كمهنة نبيلة خالصة، تخلص الناس من الآلام، بدلا من ادخالهم في الاوهام التي تضيعهم.. كانت تعرف انه كلما تورط، وبدأ باستغلال ذلك الاشهار، متعمداً بتشويه سمعة اهلها، الادعاء بمعرفته للسحر، يُهينها كزوجة من ديانة اخرى علمته الطب، تجعل الناس يعتقدون انها هي من علمته فنون السحر الكاذب.. كأنما يصير ذلك غطاءً مشروعا لما ينوي المضي فيه. ولأنها الزوجة التي لحقت به من دين آخر. يكون ذلك الفعل تهمة على دينها ولا تريد ان يكون زوجها علامة اتهام على دين اهلها بانه دين السحر، بين بقية الأديان الاخرى.
كان ذلك يغضبها وينغّص حياتها معه، لأن صفة السحر، من صفة الشيطان، حسب مفهوم دين اهلها الذي كانت عليه، لذلك تنفيه وتستهجنه الاديان على الاطلاق. "السحر فعل الاموات في العالم الاخر، والحي القيوم المطلق لا تتغير ارادته، لا احد، يعترضها، ويغيرها بالجماد". باتت تتحسس من ان يلقى بتبعات السحر والشعوذة على اهلها، وسمعة دينهم صاحب التراث الانساني الطاهر. ولم يكن مهتما بما يحدث في داخلها من ضغط نفسي لم يقدره، يبدو لها انه كان متقصدا ذلك امام المجتمع، انها هي من يهين اهله، شرّ اهانة، كأنما علمته السحر، وهي لم تعلم سوى الطب، وشتان ما بين الطب والسحر. تلك رسالة تضعف موقفها مع اهلها، وتعزلها عنهم الى الابد، وتجعل طريقها اليهم منقطعا الى الابد، وتجعلهم يزدادون بغضاً لها.
بينما هي كانت تحبهُ زوجاً، وكانت تتمنى ان تفتخر به امام اهلها، وتثبت لهم انها ربحت من يحبها. وان الحبّ الحقيقي لا تعترضه اختلافات
المعتقد، ولا تفصل بينه المفاهيم القابلة للتغير، حيث يبقى الانسان انساناً محبا، لكل انسان يحبه، ويبقى الانسان بما يكتسب من معرفة تنيره، وتعززه، وتجرده من قيود لا مكان لها مع الانسانية..
كانت تراعي ان لا يكون جدلها معه، حاجزاً يحرمنا كأطفال من هَناءة الدفء العائلي، ومتمنية بحرص على ان لا يزيد معها تلك الهوة، كونها تريد ان تسمح لشخص ثالث ان يتدخل بينهما ويتحكم ولو بالنقاش العائلي حول ما يمضي به، من مواصلة الاغراق في عزلتها معه، حيث صرنا نسمع ضحكاته، وسخريته اللاذعة حول جديتها، وكأنما لم يكن هو السبب المباشر في ألمها..
حيث كانا يعرفان، ان فعل الـ"سحر" لا يمارسه الا ممثل حاذق، له مواصفات نفسية تدفعه، اولها الثقة بالنفس تجعله امام الناس انه القادر على تحقيق شيء خارق لن يتحقق ما لم يكن قادرا على ايهام الناس، بقدرته، بأنه امر قابل للتحقيق، يجعلهم بذلك مؤهلين للتخييل بكيفية قبول أفعاله الخارقة.
ايقنت انه فقد اتزانه، وتحول الى مهرج معتوه، لا همّ له سوى ان يؤدي حركات غير سوية، ويظهر انفعالات غير مقنعة، مثل اللاعب بالسيف الذي يهيب به محيط دائرته.
كان يبدو لها مستمتعا باختراعه لتلك الألفاظ الغريبة، والتي لا توجد لها معان في كافة قواميس لغات اهل الارض، كأنها مؤثرات صوتية، يصعب على غيره اصدارها، او تقليدها، أصوات غير مألوفة، وتتطلب مجهودا كبيرا، فتفرض على سامعها الخوف، والإذعان ليكون منتظرا لما سوف يأتي.
كانت "امي" تعرف جيدا طبيعة تلك اللعبة الخطرة، من بعد ان اخذ يستعين بأشخاص آخرين، متخفين خلف العرض، كفريق لا يظهر احد منهم في الواجهة، يشعلون معه نارا لتحويل نقطة التركيز عليها، ثم يطلقون اصواتا من آلات موسيقية بدائية، كأن ينفخوا له في ماسورة مجوفة مفتوحة الجانبين، ويعطي الصوت صورة توهم عن مرور كائن غريب ينتظرون وصوله من عالم الغيب، بفارغ اللهفة، حتى يتم استجوابه عن فعل حدث في
الماضي، له الزمان والمكان، والحادثة، فيحكي لهم عن ما رآه من تفاصيل دقيقة، يتفاجأ بها هو قبل غيره، برغم يقينه بأنها معلومات تلقاها من افراد يتقصون له الاخبار من ألسنة الزائرين، يقتنصونها له اقتناصا، من زلة اللسان، ويجدها حفظت بشكل جيد، ويعاد ترتيبها وفق ما يراد للزبون ان يكون اثباتا على انهم مطلعون على الغيب، اولا بأول، ويوهمونه بأن المستقبل مفتوح بسطور جلية، من الممكن قراءتها، تتجلى بتحذيرات تجعله يشك بمن حوله، وتجعله مصدقا لحقائق دامغة، في حقيقتها جمل عابرة، تترى من عقل الساحر، ووفق ما يتصوره .
لم تكن امي وحدها من كانت تحكي لنا بتشويق عما يفعله "السحرة" في الناس حيث يستخدمون سرا في بعض الاحيان بعضا من الالعاب النارية، ودائما لعبهم بالنار يؤدي الى نتائج عادة ما ينتظرونها بفارغ الصبر لأنهم يستنهضون خيال الخائف ويسخرونه لخدمتهم، وذلك العمل الفاتن يتطلب من المساعدين الدقة البالغة في بناء تلك الظلال المتحركة الباعثة على الرهبة. يتطلب منهم ذلك العثور على من يتفذلك، ويواصل حضوره الخفي في ساحة العرض. مواصلة التناغم بين الخيال والواقع، مرحلة اللعبة التي قد تصيب، وبها تتحقق الغايات. العاملون في الخفاء، هم المساعدون المستمرون بتقديم ذلك الدعم، وأحيانا يكون لهم دور المُصدق، المؤمن بأن الفعل جرى، بتحد يرغم الاخرين على ان الحدث قد حدث مثلما يريده الخيال، وليس مثلما حدث على الواقع. ذلك التصديق الزائف هو التصديق المؤسس لفعل الخيال، وكانه لم يكن خيالا، وحسب انما قد وقع كواقعة فعلية لا تكذب، ومن يكذبها هو اول الواهمين، ان ذلك التأسيس، يتطلب ايضا الحضور، وهو الحضور المقنع لمن لا تتوفر له القناعة.. ان ذلك التجرد يساعده بتلك المؤثرات لتبدو للناس انها ابعاد حقيقة، لا يختلف حولها اثنان. وتنعكس فيهم رهبة الفعل بعد الفعل، حيث تتكون المعجزة التي تنهض لتكون حقيقة شاخصة لا تقبل التبديل، بعد تلك الرهبة، التي عبأت انفسهم بنغمتها الفاعلة.
حيث الحاذق القدير بأدائه المتقن، هو من يواصل اثبات سطوته، وتمكنه من قيادة عالم من الكائنات التي لا تراها الناس، كائنات تعيش بين
الناس، بدون ان يلحظها البشر حيث يزاحمون ذلك الوجود، ويتحكمون بكل من يريدون التحكم به فهم غير منظورين بالعين البشرية، لكنهم يرون البشر واحيانا يفعلون بهم ما يطيب لهم، ذلك العالم في اغلب الاحيان، يريد ان يزيح البشر، ويتداخل مع تصرفاتهم وفق ما يريد، ويتلاعب بمصائر من حوله، فيستطيع التحكم والسيطرة على قوتهم، فهم القوة الخفية المتحكمة بتصرفات البشرية، يفعلون الشر ويفتكون بمن شاؤوا، هو الوحيد القادر على التأثير في ذلك العالم الخفي الذي لا ينظر، عالم سري، بعلوم سرية، مستحيلة الكشف، لا يتعلمها الا عابر بحيرة المستحيل، تلك البحيرة النهائية، لا يعرف احد مكانها، وعادة ما تكون نهاية كل من يحاول عليها ولا يستطيع، حيث الاغتسال من مائها اما ان يأخذ العقل الى سقر وبئس المصير، واما يكمل السباحة ويعبر الى ضفة امانها، ويكون من الحاكمين المقدرين، الذين يخافهم العالم الاخر. ويكون منصبه قيادة تلك الكائنات الخفية، حيث يسخرها لفتوحاته، ومَطيَة يديه، وعقله، وقلبه. ذلك الجيش الفاتك القوي يسكن بين جوانحه، يتظاهر انه يراه وفي الحقيقة لا يراه.
تصديق الناس له في قرارة نفسه يجعله متحررا من كل ذلك الخوف، ومتحررا من ذلك المجهول الذي يقوده. كساحر قدير، عليه ان يكون في قرارة نفسه اول المصدقين لذلك الخيال. الإغراق في التصديق يغمره بالغرور، ثم يخسر قدراته.
لذلك كان يجتهد ان يعرف نفسه اكثر، وان يدرك اكثر ان لا يدع نفسه تغرق في متعة الخيال. فينقلب عليه الخيال، ويكون مزيحا لمساحة الواقع.. ان يثبت قدميه على الارض، بدلا من الطيران الذي قد يسقطه ارضا، ويتلفه. عليه ان يرضخ بقناعة بان ما يصلح للناس، وما يقدمه اليهم لا يصلح لنفسه. ويترك الناس من حوله تتعامل مع اخيلتهم، ويترك نفسه تتعامل معهم، بواقعية حقيقية دامغة، وان يصحو من الحلم الى الواقع وعندما تذهب الناس الى احلامها، ما ينفعه ان يشارك الناس احلامهم، فقد تحتم مصيره. ادرك ذلك بيقين لا يقبل الجدل..
صار يسمع عن أولئك الذين يبرعون في قدرات تفوق قدرته، وراح يميل الى معرفة المزيد، ليستطيع ان يتغلب على عواقب تصادفه، ليست
بحسبانه، وكلما بات تمكنه اقل منهم سوف يكون تابعا ضعيفا يسبقه الآخرون الى ما يصبو. ثم بدأ يتصل، ويعزز من حلقات علمه، فكل ما حوله على الارض مكتوب، وما مكتوب ومدون سوف يسهل عليه الحصول عليه، راح يسافر اليهم، يستزيد منهم معرفة، ويزيدهم بما في افقه من خيال، صار يعود الى نفسه كثيرا، ويتمكن من هذه التجارب ويطورها نحو اداء افضل، راح يجمع ما يعرفه، ويدونه في دفاتره، ويدون للآخرين طرقه الخاصة في اختراق هذا العقل البشري المذهل، الذي لم يستخدمه من حوله، على امثل وجه، وثمة من يجهله، ويجهل امتداد تلك الخيالات، ويريد لها ان تسكنه، ان يبقى محتفظا بها، لان غيره استطاع ان يرسم له مستقبلا لخياله العاجز، ان يحلق عاليا وفق ما يراد له، وليس كما يريد.. يحلق في خصوبة صانع ماكر لمساحة عظمة الخيال، يحلق تحت جناحين رؤوفين يظن بأن صاحبهما له القدرة الكبرى، المطلقة، ولا يعرف بأنه منظم خيال يقوده بخياله، وبأفكاره الخفية الفطرية، لأنه يريد ان يبقى محدود الخيال، وان يبقى تحت من يرسم له احلامه وفق ما يتمنى ولكن بخيال القادر الاخر.
كانت "امي" تدرك ما يدركه، ولكنها بقيت تخاف عليه، من مغبة التماهي مع تلك المهنة الغادرة، تتابعه، ولا تستطيع ايقاف اندفاعه، وهو يصل الى اخطر المناطق خطورة، حيث التفت حوله داعمة اياه مجموعة طامعة من الراغبين في استثمار عمله، وتحويل مواهبه الى عوائد مالية تصبّ في مصلحتهم. اخذوا بيده، يدعمونه، لانهم وجدوا فيه المؤهل الذي يخدمهم. صار يمضي في عمله، لا يعرف التراجع، تحيط به جوقة تعرف ما عليها فعله، توسع له الطريق وتدعمه بإشاعة اخباره الخارقة التي باتت تظهر للناس بانها تفعل كل مستحيل، وتنشر اذرعها في مختلف الاصعدة وتعاظمت مقدرته، كأنما نجم يرتفع عاليا، والناس من كل حدب وصوب تقصده، من بعد ان جعل المستحيل الذي في احلامهم قريبا وراح يقرب الآمال العظيمة لمن حوله في كل ما يريدونه، ان يكون.
بقيت "امي" معه كزوجة مخلصة، تتمنى ان يعدل عن الطريق الوعر، تنبهه، لكنه بقي مندفعا، سائراً، على سكة، ليست سكته، منزلقا الى دوامة تبتلعه.. تلك المنظومة القديرة، تسارع في زرعه في تربة مناسبة،
والناس تتناقل اخبار بركاته، ويكبر، لا يقبل التراجع، حيث صار للموضع اساس، يتواصل في التصديق، ويتثبت في العقول، من بعد ان اوجدت كادرا ينذر نفسه لها، من اجل ان يستميت ليثبّت بمن حوله القناعة التامة ان الامر حق، لا يقبل الجدل، ولا يقبل الا بصورة خيالية كأنما حقيقة دامغة. ذلك الامر اسقط من يد الزوجة التي تخاف على مستقبل عائلتها. من بعد ان حدثت خوارق الساحر التي تفوق قدرة الانسان العادي المقدر له قدره، وصار مساقا يمشي دون ان يحيد عن المقدر له.
بقيت تعاتبه من اجل مستقبلها معه، اضافة الى ذلك حقيقة تعمدت تشويه سمعة اهلها، ودينها على وجه الخصوص. صار يكسب المال الأكثر، بالتمادي، ولم يكن لديها دفاع عن ذاتها وقيمتها؛ بدأت تعارضه سرا، بينه وبينها:
-"مهنة الاحتيال، والضحك على الذقون"...
ويبرر لها دائما:
* "لم اجبر احدا على ذلك فالناس هي التي تأتيني، وتطلب مني ان افك لها سحرا متعاظما في عقولها، وكأني العارف المتيقن بكل اوهامهم"..
صرتُ اكتشف بان "امي" كانت تناضل حنينها الى ذويها، وتفتقدهم، كلما صارت اخبارهما تنشر خنادق فيما بينها وبينهم. لا يمكنها عبورها، بات في غيّه خاذلا لها ولا يلتفت، بعد الانكسارات الحقيقية التي طرأت في اعماقها.
كنا طفلتين عاجزتين على تسويه امر بذلك الغور البعيد من دواخل "امنا"، والتي كانت تدافع في قرارة نفسها عن خيبتها في حبيبها. كذلك عن جميع موروثاتها العائلية، لأنها تفهم، ان السحر احدى ادوات حروب الاديان، حيث سمعة السحر الشيطاني تشوه من ينشط في محيطها، وتجعل منه، وحشاً يلتهم كل الخير بالشرّ..
*كاتب من ديالى /العراق