الدكتاتور العظيم
محمد الأحمد
خاص ألف
2019-06-29
يعد فيلم "الدكتاتور العظيم" المنتج عام 1940م، من بطولة واخراج وقصة الموسيقار العبقري "شارلي شابلن"... واحداً من اكثر الافلام خلوداً في تاريخ السينما العالمية على الاطلاق.. يومها كان مهيباً برغم فقر امكانياته التقنية، حيث توفرت فيه عدة اسباب جعلتهُ فليماً رائعاً، اذ سلط الضوء بجرأة منقطعة النظير.. عن صورة طبق الاصل لتصرفات الرجل الذي اقام الحرب العالمية الثانية، وكان اشهر شخصية في القرن العشرين؛ حيث كشف بسطوع على السياسات القمعية، والانظمة الديكتاتورية بأسلوب ساخر بليغ، جعل العالم كله يضحك بقوة عندما قدم ما كان خفياً عن اعماق "الدكتاتور" المثير للجدل، وعرضها بأسلوبه المبهر المنقطع النظير، ولم يكن فيلما عادياً بين افلام عصره، من حيث الاصرار، والتحدي، مقدماً الى الانسانية تحفة فنية راقية تعدّ من اجرأ وأهم ما عرض في عصره.
حيث كان "تشارلي شابلن" الفنان الشامل، الدقيق الملاحظة، المثقف الحيوي، السابر للأغوار البطينة، والمُلِمَ بعوالم خفايا الحاكم الصارم الذي جعل المانيا، يومها، دولة عظمى، ومن ثم الى دولة خاسرة، وبرغم كل شيء مازالت كدولة عتية تمتلك ترسانة علمية قاهرة، ترسخت ابان حكمه، وصارت اشبه بنجمة مليئة بالتقنيات الهندسية التي غيرت مسيرة الانسان، واختصرت له مسافات هائلة من تجارب عظيمة، لمختلف نواحي الحياة جعل منها مصاف اول الدول المتقدمة. فكان الفيلم الذي نغز فيه الفنان العبقري "شابلن" خاصرة اكبر دكتاتور وجلاد في العصر الحديث في الوقت الذي كان "ادولف هتلر" في اوج قوته، دون ان يخاف من سلطة احد عليه، وكان انتاج الفيلم حينها يعد انتحاراً، ومع ذلك شاهده الدكتاتور، مكتفياً بالتعليق عليه "انه مجرد وجهة نظر مجردة، ويحترمها". بالرغم من الفيلم كان معتمداً على السخرية التامة والتهكم على الحزب النازي ورئيسه بالإضافة الى حلفائه. ولم يخف عن احد انه قام بتغيير الرموز والاسماء لحيلولة دون اللجوء الى الدعاوي القضائية. وكتب في مقدمته بان الفيلم من صنع الخيال المحض، وان اي تشابه مع شخصيات الواقع هو من قبيل المصادفة، ثم استبدل رمز الحزب النازي (الصليب المعكوف) بحرفين (X-X), كأنما ما يحدث من احداث قد حدثت في بلاد اخرى، ومكان اخر. لقد رسم بوضوح ذلك العاشق الذي جل احلامه تسير لغزو الارض، وصورها عبارة عن بالونه كبيرة تمثل الكرة الارضية وقد ملئها بالهواء، وكان يتلاعب بها متمثلة بأحلامه في السيطرة على العالم, وتلاعبه باها ككرة، وقذفها في الهواء، وحتى ضربها بمؤخرته, فيحدث امر بعيد عن سيطرته حيث تنفجر البالون، وبعدها ينهمر الدكتاتور بالبكاء، و كأنما ينقلب الى طفل ويبكي وينتحب عندما يخسر لعبته الاثيرة. يكون قد كشف كم كان "ادولف هتلر" شخصية مركبة، ذكية، دقيقة، غامضة.. لكن الموضوع كان جليا امام الفنان الاكثر براعة والذي استطاع استيعاب كنهها فقدم الى الانسانية, درساً بليغاً في ماهية الدكتاتورية، بواطن احلامها التي وسعتها مخيلة الفنان واستوعبتها بكل ما فيها من صور غير ظاهرة للعيان.
كان اول فيلم ناطق لـ"تشارلي تشابلن" بالرغم انه لم يكن من انصار الافلام الناطقة لأنه يجدها بوضوحها بانها تحدد المرمى.
بعد أن جسد تشارلي في فيلمه العبقري هذا شخصيتين متناقضتين تماما, الشخصية الاولى, حلاق يهودي فقير, والشخصية الثانية: الدكتاتور قائد الحزب النازي الالماني, يدعى "هاينكل" ونفوذه معادين السامية مشيرا الى الطاغية الرئيس النازي "هتلر" ونفوذه البارز في قيادة حزب النازية.
كما بينّن في الفيلم الشخصيات السياسية الحليفة له مثل الفاشي "موسوليني"… وراح يصفهم بسخرية، كمتملقين له وهم الذروة العبثية بأنهم طبقة سياسية منظمة حريصة على قسوتها. لا تقل عنه شيئا في القسوة والنرجسية، وهم يقوون انفسهم به.
ركز الفنان على صفة جنون العظمة التي تتملك الحاكمين, فهم دائماً في زمان ومكان لهم الصفة عينها، لانهم على الدوام لا يردون ان تظهر صورهم النرجسية الا كما هم يريدهم ان يعرضوها للشعوب. ففي احدى مشاهد فيلمه هذا, نجد حرص الحاكم "هاينكل" الغيور على اشرافه على مجموعة من الفنانين الذين بينهم النحات الذي يعمل من اجل ان يظهر قسمات عبقرية الدكتاتور, وفنان اخر يرسمه ليظهره على هيئة ملاك في غاية الطيبة. ثم يشرف على دوام عملهما بين الحين والاخر، من اجل ان يظهران ما يريده من صفات، وينقلان عنه احلى صور يريدها ان تصل الى عامة الشعب.
لقد تمكن "تشارلي شابلن" باقتدار من ابراز شخصية الحاكم النزق في كل مراحل حياته، ومع كل مخدوميه الذين يعيشون حوله، لقد راعى الفنان مخارج الصوت القوية التي كان يحاول ان يبرزها (الدكتاتور)، كمستعرض رسمه (شارلي) بدقة، وكأنما يكشف عن صورة الفنان داخل الفنان، الفنان السياسي الكاذب بإظهار المشاعر المزيفة بواسطة هنّات صوته عندما يريد ان يظهر لشعبة بانه الرجل الرؤوم، الحنون، ولا يريد بالبلاد الا الرفعة والتقدم. عندما انتهى من خطابه ينزل من على المنصة يذهب الى مجموعة من الاطفال المصفين واحد تلو الاخر مرتدين ازياء جميلة ويغنون له, وحالما يجد امرأة بيدها طفل يأخذ من يدها ويدلعه فينادي على الصحافين ليلتقطوا له صورة, لأنه لا يريد ان يكون مسيطراً حتى على الصورة، وغاياتها. لقد تجلت عبقرية الفنان القدير في دراسة سلوك اصحاب السياسات القمعية، وتوضيحها، دون ان يخاف من "الفوهرر" الذي كان يحكم نصف العالم بقبضة من حديد.
قصة الفيلم مبنية على الصدفة البحتة, حيث يفتتح الفيلم بالحرب العالمية الاولى, نجده شخص يهودي بلا اسم وظيفته حلاق, يدعى للخدمة العسكرية الالزامية في بلده من اجل وطنه ليقاتل جنبا الى جنب مع جيش القوات المركزية للإمبراطورية الالمانية.
بعد سماع انسحاب الجيش, يستطيع دون ان يعرف ان ينقذ حياة قائد الجيش "سكولتز"، ويخلصه من براثن اسر محقق، فيحمله ليركبه الى طائرته، حتى يجد انه قد ركب معه، ويستطيعان الطيران، ويتخلصان معاً من الاعداء، وتنشأ بينها صداقة في الاجواء، يركبان الطائرة قديمة الطراز سرعان ما تسقط في احدى المزارع, احدى أهم المشاهد عندما تنقلب الطائرة رأسا على عقب يحاول تشارلي شرب الماء لكنه لم يستطع فيقول (هل نحن نخترق قوانين الجاذبية).
يرجع الحلاق الى مدينته يجد انها مستعمرة من قبل القوات النازية التي تقوم بإزعاج سكانها، وتكتب عبارة (اليهودي) على ابوابهم وجدرانهم, وقام بفتح محله لكن القوات المحتلة قامت بإزعاجه لأنه كتبت على نافدته, تضربه القوات باستمرار فتدخلت الفتاة الشجاعة (باولتي غودارد) التي تعيش في نفس النزل يعيشه الحلاق, تهاجم القوات المزعجة دفاعا عنه فانتهز فرصة ليكسب ودّها وقام بمهاجتهم, بعد دقيقة واحدة. بعدها جاءت احدى سيارات القوات المحتلة فيجد رفيقه (سكولتز) الذي فرّ معه, فأمر افراد الجيش بأن يتركهما. بعد ايام حضر (سكولتز) الى النزل الذي يعيش فيه الحلاق لكي يدرسا الوضع كيف يتم التخلص من الدكتاتور (هاينكل). لأول مرة تكلم تشارلي بصوت وواضح وجهور عبر فيلمه هذا الذي يُعدّ من أكثر افلامه نجاحا من ناحية الايرادات. ويعد الفيلم الناطق الاول في سلسلة افلامه الناطقة.