الوصاية المتعددة الجنسيات وعودة النظام العربي
أنور بدر
2019-01-12
يبدو أن سورية دخلت العام الجديد على إيقاع حدثين، قد لا يكونان منفصلين في العمق، تمثل أولهما بالتداعيات المتسارعة لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 19 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بسحب قواته من سورية، التي أضحت أكثر هشاشة، وفق تعبير صحيفة (نيويورك تايمز) التي أكدت أن قرار ترامب “سيجعلها رهينة الهيمنة الروسية والإيرانية”.
غير أن إيران، على الرغم من تمسكها بتواجد مهم داخل سورية، وداخل بنى مؤسسات النظام العسكرية والأمنية والاقتصادية، تعزز إصرارها على التغلغل الاجتماعي في نسيج المجتمع السوري، كجزء من مشروعها المذهبي في المنطقة، وهو ما يمنح الوجود الروسي تفضيلًا عليها، لدى شرائح واسعة من السوريين، حتى بين موالي النظام، إضافة إلى الإصرار الإسرائيلي-الأميركي على خروجها من سورية، ما يعني أنها ستكون مضطرة إلى دفع ثمن أي توافق روسي أميركي مستقبلًا، وبخاصة في ضوء تفاقم الآثار السياسية لأزمات نظام الملالي، في المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
لكن قيصر الكرملين لن يتخلى سريعًا عن الورقة الإيرانية، قبل أن يحصل على توافق كامل مع الإدارة الأميركية، بخصوص مصالحه الاستراتيجية ليس في سورية فحسب، بل في مواجهة القارة الأوروبية أيضًا، ومكانته في الخريطة الدولية.
فيما تبدو تركيا، كضلع ثالث بين روسيا وإيران ضمن مسار أستانا المعني بالقضية السورية، أكثر دينامية وتفوقًا، لقدرتها على اللعب بين قطبَي التوازن الدولي: أميركا وروسيا، على الرغم من تصريح الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، بأن “الحكومة السورية يجب أن تسيطر على المناطق التي ستنسحب منها القوات الأميركية بموجب القانون الدولي”، وهو ما يتفق مع رغبة “قوات سوريا الديمقراطية” ومسؤولي “الإدارة الذاتية” الذين ترجموها إلى مناشدات متكررة لكل من موسكو ودمشق.
إلا أن أروغان الذي كان يضغط عسكريًا، ويحشد قواته لاجتياح مناطق شرق الفرات بما فيها منبج، لتحجيم “قوات سوريا الديمقراطية” ومنع أي مشروع للحكم الذاتي الذي تعتبره أنقرة تهديدًا لأمنها القومي، فوجئ بتفويض من الرئيس ترامب، في اتصال هاتفي مطول بينهما لمناقشة انسحاب القوات الأميركية من المنطقة، إضافة إلى قضية (داعش)، حين قال له: “سورية كلها لك… لقد انتهينا”، وأضافت شبكة CNN الأميركية أن تركيا “ستتولى مهمة القضاء على ما تبقى من تنظيم (داعش) هناك”. فالرئيس ترامب كان يساوم في ملف التبادل التجاري لا أكثر، إذ نقلت وكالة (فرانس برس) عن الخارجية الأميركية أنها “وافقت على بيع تركيا 80 صاروخ باتريوت موجهة، بقيمة 3.5 مليار دولار”، وهنالك تسريبات تتعلق بتسليم طائرات شبح “إف 35” أميركية الصنع إلى أنقرة، وربما مشاركة تركيا في عملية تصنيع هذه الطائرات أيضًا.
نظام الأسد الصغير المستسلم لهشاشته أصبح مدعوًا لاستعادة السيطرة على المساحات الأخيرة التي كانت تحت سيطرة (قسد) وحلفائها الأميركيين، وهي تبلغ حوالي 30 بالمئة من مساحة سورية الغنية بالنفط والمياه ومصادر الطاقة الكهربائية، مقابل حماية الأكراد من الزحف التركي، ويبدو أن روسيا ستسهم في جعل هذا الأمر مقبولًا، حتى من قبل تركيا، بشرط منع الأكراد من تحقيق طموحاتهم إلى الإدارة أو الحكم الذاتي، وهي صفقة متكاملة يلزمها حسم موضوع السلاح الأميركي المتبقي بيد قوات (قسد) أولًا، وبعض التوافقات بشأن إدلب وباقي المناطق التي يسيطر عليها متشددون من حلفاء أنقرة، مع اعتراف لافروف وزير خارجية روسيا بأن الوجود العسكري التركي في إدلب متفق عليه.
لذلك بدأ الإيقاع الثاني ينتقل بسرعة من خانة التكهنات بتعويم النظام السوري عربيًا، إلى ترجمته بخطوات عملية وإجراءات دبلوماسية، حيث إن مجموعة الدول الخليجية التي ساهمت في تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية، أواخر عام 2011، هي التي تعلن التوبة الآن، وتسارع -بتحريض روسي علني- إلى استعادة النظام حاضنته العربية، حيث تجلى ذلك بنقل الرئيس السوداني عمر البشير يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر 2018، بطائرة روسية خاصة، لزيارة دمشق وإعادته بعد ساعات من لقاء الأسد الصغير، ليتفقا “على إيجاد مقاربات جديدة للعمل العربي، تقوم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، استنادًا إلى الظروف والأزمات التي يمر بها كثير من الدول العربية”!.
مع أن الرئيس البشير المطلوب من قبل “المحكمة الجنائية الدولية”، والذي يعاني في بلده الكثير من الاضطرابات السياسية والاقتصادية، لا يمثل أيّ ثقل فاعل في السياسة العربية، فإن الخارجية الروسية سارعت إلى التعليق على تلك الزيارة، بالإعراب عن أملها “أن تسهم في إعادة العلاقات بين الدول العربية وسورية، واستئناف عضويتها الكاملة في جامعة الدول العربية”.
كان هذا كافيًا لإطلاق مسيرة الأشقاء العرب جميعهم باتجاه استعادة العروبة التي يمثلها نظام الأسد الصغير، بدءًا بدولة الإمارات العربية، ثم البحرين، اللتين أعادتا فتح السفارات وتسيير الرحلات الجوية، التي وصلت إحداها إلى تونس، كمقدمة لاستعادة النظام السوري إلى أروقة جامعة الدول العربية، في قمتها الثلاثين التي ستستضيفها تونس في آذار/ مارس القادم، حيث لم يستبعد الأمين العام المساعد لـجامعة الدول العربية حاليًا حسام زكي، خلال مؤتمر صحفي عقد في الجامعة يوم 24 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، حدوثَ أيّ تغيير، بخصوص إعادة تفعيل عضوية النظام السوري في الجامعة قريبًا، مشيرًا إلى “وجود نقاش بين الدول الأعضاء حول الأمر”، وربما يجري تدارك هذا القرار في القمة الاقتصادية العربية، التي ستعقد في بيروت نهاية شهر كانون الثاني/ يناير الجاري.
كذلك التحق العاهل الأردني عبد الله الثاني بقاطرة النظام العربي، مصرحًا يوم 23 كانون الأول/ ديسمبر: “علاقاتنا ستعود مع سورية، كما كانت من قبل”، وهو الذي استبق الحدث بفتح معبر نصيب الحدودي، منذ منتصف أكتوبر الماضي، بعدما سيطر النظام السوري على المنطقة الحدودية.
بينما اكتفى نظام السيسي بالتنسيق الأمني مع نظام الأسد، عبر لقاء جمع اللواء عباس كامل رئيس “جهاز المخابرات العامة المصرية”، مع علي مملوك رئيس “مكتب الأمن القومي” السوري (المطلوب حاليًا لمحكمة جنائية فرنسية) لترتيب مستقبل العلاقات الثنائية واستعادة النظام السوري إلى حاضنته العربية.
وحدها السعودية تتحرك ببطء وخجل، مشترطة، لعودة العلاقات مع النظام السوري، خروجه أولًا من المظلة الإيرانية، إلا أنها ستكون معنية قريبًا بتغيير سلوكها ونبرة خطابها، في إطار تسديد فواتير اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، هذا التغيير الذي جرى التعبير عنه عبر التغيير الوزاري الأخير في السعودية.
فيما ذهب الأشقاء الأصغر في التحالف العربي إلى تبرير هرولتهم باتجاه الأسد، بذريعة درء الهيمنة الإيرانية، وهو تبرير تُظهر الحقائق الموجودة على الأرض هشاشته، خاصة في إطار نظام الوصاية المتعددة المفروض في “سوريا الأسد”، حتى التوجه الأميركي والغربي عمومًا، الذي كان ينصح جامعة الدول العربية، بأن من السابق لأوانه قبول عودة النظام السوري إليها، قبل حدوث عملية انتقال سياسي حقيقي، انقلب فجأة مع تغريدة جديدة للرئيس ترامب، حين منح السعودية شرف “دفع تكاليف إعادة الإعمار في سورية، بدلًا من الولايات المتحدة”، لاغيًا اشتراطاته السابقة حول الانتقال السياسي، وهو ما أنهى المعضلة الروسية بهذا الشأن.
ربما يكون ذلك من دواعي التسريع الروسي لإعادة تأهيل النظام السوري، أملًا أن يجني ثمار ذلك عبر مخططاته لإعادة الإعمار في سورية، بصفتها الحل الروسي للأزمة السورية، متغاضيًا عن مصالح السوريين ومستقبلهم، الذي سيترك للوصاية المتعددة الجنسيات.
فهل تعلم السعودية، ومعها أنظمة الخليج، أن الكثير من أموال إعادة الإعمار يمكن أن تذهب إلى جيوب روسيا وملالي طهران، وفق اتفاقاتهم المعقودة مع النظام؟ أم يكون ذلك سبب لهاث النظام العربي الآن للّحاق بمدار الأسد، الذي هو مدار تلك الوصايات السابقة لا غير.