الطوطمية المعاصرة والسياسة المتخلفة
أنور بدر
2019-05-18
يُجمع دارسو ظاهرة الطوطمية على أنها ترتبط بالمجتمعات البدائية التي انتشرت في ماليزيا والهند، وبعض قبائل أفريقيا، وبين السكان الأصليين لأميركا وأستراليا، وفي جاهلية العرب قبل الإسلام، وهي تقوم على مجموعة متباينة من الاعتقادات والطقوس أقرب إلى السحر وعبادة الأجداد أو الأصنام، وأحيانًا عبادة بعض الحيوانات التي تُمنح صفة مقدسة.
ومع أن كثيرًا من الناس يفترضون -نظريًا- أن هذه الظاهرة قد آلت إلى نهايتها، مع انتشار الديانات التوحيدية من جهة، وانتشار الفكر العلمي في تفسير الظواهر الطبيعية التي كانت لأمد طويل هاجس الإنسان البدائي ومصدر رعبه، فإن علم النفس والدراسات الاجتماعية يؤكدان استمرار هذه الظاهرة في أشكال مختلفة ومقنّعة أحيانًا ومتناقضة أيضًا.
وربما يكون إميل دوركهايم (1858- 1917) أول من ربط بين الظاهرة الطوطمية والفكر الجمعي الاعتقادي للعشيرة أو القبيلة، ليكتب سيجموند فرويد لاحقًا كتابه الشهير (الطوطم والتابو) عام 1913، ثم جاء إريك فروم ليضع عام 1950 الاستنتاجات الأهم في دراسة هذه الظاهرة، ضمن كتابه (الدين والتحليل النفسي) الذي يقول فيه: “إن جوهر الوثنية لا يكون في عبادة هذا الصنم أو ذاك، ولكنه موقف إنساني معين، ويمكن أن يوصف هذا الموقف بأنه تأليه للأشياء، أو لمظاهر جزئية من العالم، وبأنه خضوع الإنسان لمثل هذه الأشياء؛ فليست التماثيل المصنوعة من الخشب والحجارة هي وحدها الأصنام، بل الكلمات يمكن أن تصبح أصنامًا، والآلات يمكن أن تصبح أصنامًا، والزعماء، والدولة، والسلطان، والجماعات السياسية، حتى إن العلم ورأي الناس يمكن أن يصبحا أصنامًا، والإله نفسه أصبح وثنًا، بالنسبة إلى كثيرين”.
يتيح لنا هذا الاستنتاج المهم أن نعيد قراءة الكثير من تفاصيل حيواتنا وسلوكاتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية أيضًا، وبشكل خاص ما يتعلق منها بخضوع الجماهير أو الشعب لدكتاتوريات تسلطية، سواء الفاشية منها في ألمانيا وإيطاليا، أو البروليتارية منها في منظومة الدول الشيوعية، وملحقاتها من حركات التحرر العالمي، والتي استمر بعضها في دول مثل كوبا أو فنزويلا، على الرغم من الانهيار المدوي لما عرف سابقًا بالاتحاد السوفيتي، حيث ما زال سائق الشاحنة مادورو يقود أغنى دولة في أميركا الجنوبية إلى الفقر والخراب.
بالمقابل، نمت الظاهرة الطوطمية في ما عُرف بدول “حركات التحرر العالمي” التي كانت سابقًا ملحقة -بطريقة أو أخرى- بالكرملين، مستفيدة من الإرث الديني لمجتمعاتها المتخلفة، لتنتج دولة تسلطية تقوم على القمع والاستبداد، مطورة مفهوم التابو كخط أحمر، يتعدى ثلاثية فرويد عن “الدين والجنس والسياسة”، حيث وظفت هذه الدول التسلطية كل ذلك في إطار الدفاع عن طوطمها الأيديولوجي، وأحيانًا عن شخص الدكتاتور، مهما كلف الأمر، فطقسية الطوطم ترتبط بالإيمان، وأي مسّ بهذا الإيمان يعدّ تابو يستوجب بداهة العقاب، وصورة جهنم في الأديان السماوية استعادتها الأنظمة التسلطية واقعا حيًا، في سجونها ومعتقلاتها ومحاكمها الاستثنائية، كما استعادتها في اللحظات الحاسمة بكثير من المجازر التي ما تزال تلطخ جبين الإنسانية، في القرن الحادي والعشرين.
وليس أدل على ذلك من شعار “إلى الأبد”، فكل أنظمة الاستبداد، من الأسد إلى بوتفليقة، ومن صدام حسين إلى البشير، وسواهم كثر، سعوا إلى تأبيد سلطتهم حتى بعد الموت، على الرغم من عدم منطقية هذا الشعار، وقد رأينا المجاهد بوتفليقة، وهو معاق على كرسي متحرك، قاتلًا، أو أن الطغمة التي تحرك كرسيه قاتلت لتأبيد سلطتها، مستفيدة من عباءة المجاهد وإرث حرب التحرير، والتخويف من العشرية السوداء.
هذه الأيديولوجيات والأنظمة المستبدة التي تصنع طوطميتها وأصنامها البشرية المقدسة، لم يكن مقدرًا لها أن تنجح من دون تقبّل المجتمع. ويؤكد دوركهايم ورايش أيضًا أن الإنسان الصغير هو الذي يصنع آلهته وأصنامه، لتستمر العلاقة عبر طقوس وشعائر لاعقلانية، تصل إلى حد جلد الذات وإيذائها عند كثير من الطوائف والأقوام، طقوس انفعالية تمنح ممارسيها شعورًا بالانتماء والقوة، فصناعة الطوطم أو الدكتاتور ليست أكثر من تجسيد للحاجة أو الرغبة في امتلاك تلك القوة، التي ستحمي وجودهم المجتمعي أو الطوائفي أو الأقلياتي.
والمفارقة أن كثيرين ممن يدّعون العلم والعقلانية نراهم في طوابير تأييد زعيم الطائفة أو شيخ القبيلة أو الدكتاتور، بدءًا من علماء الذرّة العاملين في مفاعلات ملالي طهران، مرورًا بكثير من الأفراد والأحزاب التي أيّدت استبداد الأسد في سورية، أو صدام حسين في العراق، على الرغم مما دمّراه من تاريخ وثروات وحيوات بلدانهم وشعوبهم.
لكن الأكثر مفارقةً أن يسبّح بعثيو سورية بحمد الأسد، فيما هم ينتقدون دكتاتورية صدام حسين، بينما بعثيو العراق يسبّحون بحمد صدام حسين، ويعيبون دكتاتورية الأسد، فكل مجموعة بشرية تميل إلى صنع طوطمها الخاص، مؤيدين دكتاتورًا من طائفتهم أو قبيلتهم أو حزبهم، باعتباره الزعيم والمخلّص، لأن الموقف من الدكتاتورية لا يتعلق بالأخلاق وحقوق الإنسان، بل يُبنى على الانتماء فقط، حتى إن أحزابًا ماركسية وقومية وإسلامية أيّدت -وما زالت تؤيد- هذا الدكتاتور أو ذاك!
ومن المضحك المبكي أن نجد أحزابًا ومنظرين في منطقتنا والعالم ينتقدون تمسك بوتفليقة بالسلطة في الجزائر، على سبيل المثال، من دون أن يشعروا بتأنيب الضمير تجاه انخراطهم في دعم زعماء أقل هشاشة منه، وأن ماركسيين كثرًا -حتى في اليسار الأوروبي- ما زالوا يعتبرون الرئيس الروسي بوتين، على سبيل المثال، وريث لينين والاتحاد السوفيتي المنهار منذ عقود، طالما أنهم يحتاجون إليه في مواجهة الإمبريالية الأميركية، مع أنه النسخة الأردأ في الإمبريالية العالمية.
الطوطمية المعاصرة هي تلك التي تُسبغ القداسة على زعماء ودكتاتوريات مستبدة، وفي بعض الأحيان جاهلة، لتستمد من تلك القداسة مبررَ وجودها ومصدر قوتها، ممعنة في بناء أوهام القداسة التي تفصل بين الغيب والواقع، بين الراعي والرعية، بين الأب القائد أو الأخ الأكبر وبين “الإنسان الصغير” كما وصفه فيلهلم رايش، وهو ما تجلى في صور الجموع التي تسجد على الأرض لتقبّل صورة الزعيم الدكتاتور، أو تزين ساحاتها العامة بتمثال البوط العسكري، بدلالته الرمزية لتلك الأنظمة الاستبدادية التي تضطهد شعوبها.
إذ يبني الزعيم طوطميته من خلال الحزب أو الطائفة أو العشيرة، متكئًا على مخزون من الشعارات والإنشاء اللغوي، مثال “أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة” أو “أنا بعث وليمت أعداؤه”، ليكتشف الدكتاتور أن أعداءه هم الشعب فقط، حيث حصدت آلة الموت العسكرية مئات ألوف السوريين.
الأمر الذي يسحب الحزب، أي حزب -بغض النظر عن أيديولوجيته- إلى حيز الطوائف والعشائر التي تعتبر كل منها نفسها أشرف الجميع وأفضلهم، والوحيدة القابضة على جمر الحقيقة، وفقًا للعصبية البدوية، فهذا الاعتقاد يساعد العشيرة أو الطائفة أو الحزب على التماسك في مواجهة الأعداء والقضاء عليهم.
هذا العقل الذي حكمنا لم ينتج في مجتمعاتنا إلا إسلامًا جهاديًا، وأحزابًا قومية أو ماركسية، غرقت في عبادة الفرد أو الطوطم المشوه الذي صنعته، ولم تفلح المعارضات والقوى التي ظهرت عبر سنوات ثماني عجاف انقضت باسم الثورة السورية، من خلق بدائل أكفأ لصنع التحرر وبناء مجتمع المواطنة والديمقراطية، بل ساهمت في تدمير البلد وذاتها أيضًا، من خلال الشرذمة والتفتّت والاحتراب.
لذلك أجد أننا معنيون الآن باستعادة بعض تلك الحقائق أو الاستنتاجات السابقة، لندرك مكمن الخلل في تلك المسيرة التي أنتجت هذا الفشل الذي نعيشه، وغياب الأفق لأي استراتيجيات مستقبلية، وأعتقد أننا معنيون، قبل الحديث عن الثورة، بتحرير أنفسنا من أوهام الماضي وانتماءاته الغبية، لنستطيع اكتشاف إمكانات ومساحات أفضل للتحرر والديمقراطية الحقيقية والمواطنة التي تُعلي قيمة الإنسان وعقله بعيدًا من الأيديولوجيات ودمى الطوطمية المعاصرة التي لم تنتج إلا سياسة متخلفة.