الوزير الذي فرخ المئات مثله
أنور بدر
2019-05-25
كان جاري اللبناني (أبو حسن) في قاووش السجن، الموقوف في فرع المخابرات السورية في طرابلس بجريمة قتل، ثريًا ومسموع الكلمة، وبالتالي كان كل شيء يصل إليه من خارج السجن إلا النساء. قال لي مرة في أحد الأيام: أستاذ شو رأيك بسيكارة غير شكل!؟ قلت له: شكرًا ولكن اليوم وصلني “باكيت” كاملة تهريبًا، قال: “عم قلك غير شكل”. قلت له: أبو حسن شو يعني غير شكل؟ قال: “العمى شو هالمصيبة؟ قال متعلم وفهمان، وفوق هذا مسيحي، وما بيعرف شو يعني سيكارة غير شكل؟!”. وكان السجناء القضائيون، عمومًا، يستخدمون “الترميز” في كلامهم، كي لا يقعوا تحت طائلة السؤال والجواب. وجد أبو حسن نفسه مضطرًا إلى الشرح: يعني يا أستاذ “حشيش بعلبكي نخب أول، كل ضباط جيشكم في لبنان يسعون إليه”. قلت له شكرًا يا صاحبي، ولكن لم يسبق لي أن جربتها، ولا رغبة لديّ بذلك الآن… نظر مليًا إلى وجهي وقال: “والله، إذا كنت تقول الحقيقة، فإنك تستحق هذا السجن، على كل حال أنت فاشل سياسيًا أيضًا، بدليل أن أفضل السياسيين والمقاومين اللبنانيين قد تخرجوا من سجون أو قصور دمشق”.
كان أبو حسن قد قال لي قبل أيام إن “المعلم” رئيس الفرع وافق على الإفراج عنه، مقابل 15 ألف دولار، شرط أن لا يظهر في حي القتيل. وخرج أبو حسن من السجن بعد أربعة أسابيع، ومن المعروف أن أغلبية قادة الصف الأول، في بداية عهد الوريث بشار الأسد، قد أسسوا أنفسهم “معرفيًا” و”سياسيًا” و”اقتصاديًا” في لبنان. فالمقدم محمد الشعار، رئيس فرع طرابلس في ذلك الوقت، كان قد برهن على “خساسته الوطنية وشجاعته في قتل المواطنين العزل”، ونهب طرابلس، وخاصة المرفأ هناك، وهذا ما أوصله فيما بعد إلى أن يصبح وزيرًا للداخلية، في عصر “رئيس البراميل”.
التقيت بالصدفة بأبي حسن في ساحة تقسيم، في إسطنبول، حدقنا ببعضنا في البداية بدهشة، ثم تصافحنا بحرارة، ولم يكن غائبًا عن ذهني أنه “قاتل” قد دفع ثمن براءته إلى ضابط كان يقتل الشعب اللبناني، وقد كان يقتل الشعب السوري، فيما بعد، بصفته وزيرًا، وألحّت عليّ صورة الوزير القاتل ميشال سماحة، وهو كالوزير محمد الشعار، “صناعة سورية” بامتياز كصناعة البراميل، وإنْ اختلفت السماء وساحات الموت، ولكنني عشت، مع رؤية أبي حسن من جديد، لحظة شوق السجين إلى الحرية، متناسيًا كل ما ينغص حلم الحرية ذاك.
جلست وأبو حسن في زاوية من زوايا المطعم، بعض الوقت، نسترجع ما يمكن استحضاره من ذكريات طرابلس وسجن الأمريكان، قال: “بعد أن أُطلق سراحي، تابعت عملي السابق في استيراد السيارات المستعملة وبيعها، وكان المقدم محمد، رئيس الفرع، يطلبني كل شهرين أو ثلاثة أشهر، مذكرًا إياي بكرمه وتسامحه معي، فلو أنه قدمني للقضاء اللبناني لكنت، إنْ بقيت حيًا، قد نلت عقوبة المؤبد، أما لو أنه رماني أمام عشيرة القتيل، فالموت سيكون نصيبي وبسرعة، وكان عليّ أن أفهم الثمن وهو تقديم سيارة ممتازة له كهدية. وأكثر مرة أغاظني فيها أنه طلب سيارة لزوجته، ولسبب ما تراجع عن شحنها إلى سورية، فطلب مني بيعها لصالح زوجته، وهذا ما حصل، بعد ذلك قررت الهرب منه ومن البلد”.
قلت للرجل بعد قصة السيارة: ما رأيك بسيكارة “حشيش” أبو حسن، لا توجد حشيشة بعلبكية كالتي اقترحتها عليّ في سجن طرابلس، ولكن يمكن أن تجد نوعية جيدة؟ قهقه أبو حسن وقال: “شو أستاذ بلشت تضارب علينا، وتصير خبير بأنواع الحشيش كمان؟
رويت له كيف أن الجيل الجديد من السوريين والسوريات، الذين ترعرعوا في بلدان اللجوء عامة، وفي تركيا خاصة، يتعاطى المخدرات بأنواعها، وأجود الأنواع منتشرة بين منظمات “المجتمع المدني”، وفي “المكاتب الثورية”، الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار، أما بين الشباب الفقراء، فهناك سموم من أنواع أدنى مستوى، وهذه تجارة رائجة في أوساط من يعيش في المخيمات، أو أحياء المدن التي تحوي أعدادًا من اللاجئين السوريين.
قبل أن نفترق، اقترب أبو حسن مني وهمس قائلًا إنه هنا في مهمة تجارية، ولكن في أوساط الفصائل العسكرية السورية، قلت له: ما هو نوع التجارة؟ قال: كل أنواع التجارة، وبحسب المال، فالمقدم محمد، الذي أصبح وزيرًا للداخلية، قد فرخ المئات مثله قبل أن يموت!”.