فلاسفة سوريا.. هذا النمر من ذاك الأسد
أحمد طلب الناصر
2019-09-14
النهج الفكري والمنطق التنظيري لدى مرتبات جيش نظام الأسد يكادان أن يكونا على سوية واحدة عند أغلب ضباطه ومجنّديه العاملين. لمست ذلك خلال مرحلة خدمتي الإلزامية التي شاءت الأقدار أن تُؤجّل بسبب إكمال دراستي الجامعية، لأنفّذها في عصر حكم الأسد الابن كعسكري مجنّد برتبة ملازم، ما سمح لي بالاختلاط الدائم مع فريق الضباط العاملين والتعمّق أكثر في دراسة إدراكاتهم الحسّية والعقلية طيلة عام ونصف تقريباً بين 2002- 2004.
– فلسفة القائد الملهم:
لاحظ السوريون عن بكرة أبيهم بأن الرئيس، الذي استولى على السلطة حديثاً، آنذاك، شغوفٌ بعلم التحليل والتركيب والاستقراء والاستنباط، ومعظم طرائق التفكير المتداولة عند دارسي الفلسفة. فصارت أقواله “المأثورة” تُرَدّد أثناء الاجتماعات الصباحية بعد تحية العلم وتقديم الصف، إضافة إلى قول من أقوال والده التي نُقِشت في رؤوسنا رغماً عنّا منذ نعومة أظفارنا أمثال “لا حياة في هذا القطر إلا للتقدم والاشتراكية”، و”الأرض مقابل السلام”، و”إني أرى في الرياضة حياة”.
إلا أن أقوال بشار كانت تتميّز عن أقوال والده كثيراً، حيث كان يهوى تفنيد وتحليل وتفسير المصطلحات السياسية والاجتماعية والجغرافية، لدرجة أن باستطاعته التحدث عن مصطلح “القطر” مثلاً لأكثر من نصف ساعة، ومثله مصطلح “الرياضة” أيضاً، فكم يحتاج من الوقت ليتحدث عن “الديمقراطية” إن حضرت هذه الكلمة في إحدى خطاباته “السيكلو- سياسية”، أو عن خطّته في “التطوير والتحديث” كما حدث في كلمته التي تلت أداءه للقسم، عقب اغتصابه السلطة عام 2000؟ وممّا ورد في تلك الكلمة نقتطع هذا المثال: “.. إن كل ما سبق يحتاج إلى تحليل، والتحليل يحتاج إلى دراسات ونتائج، التي بدورها تحتاج إلى واقع تستند إليه، والواقع يحتاج إلى أرقام دقيقة، والرقم لا يمكن أن يكذب، وبالتالي فهو صادق وشفّاف، والتعامل معه بحاجة إلى صدق وشفافية”!
وأردف “وهذا لا ينفصل عن فكرنا الديموقراطي، بل يتقاطع معه، وهذا يعني أن امتلاك الفكر الديمقراطي يعزز العمل، فإلى أي مدى نحن ديمقراطيون؟ وهناك فرق بين الديموقراطية والممارسات الديموقراطية، وبالتالي لا يجب أن نطبّق ديموقراطيات الآخرين على ديموقراطيتنا”.
أو خلال كلمته في قمة شرم الشيخ عام 2002: “هذه القمة استثنائية، وهي بحاجة إلى ظروف استثنائية وقادة استثنائيين، والقادة الاستثنائيين يعطون قرارات استثنائية، وبرأيي أن من يريد أن يكون استثنائياً يجب أن.. إلخ”.
والأمثلة كثيرة جداً على منطقه التحليلي، حيث لا تخلو خطبة أو كلمة أو لقاءات تلفزيونية منها.
والحال، فإن أكثر ضباط جيشه كانوا ينحون المنحى المنطقي ذاته خلال أحاديثهم أو محاضراتهم، تحديداً أثناء دروس التوجيه السياسي الغنيّة بالتفاسير السياسية المتعارضة مع الواقع السياسي المعاش في ظل الحرب الكاذبة مع إسرائيل. وتلك الدروس غالباً ما كان يقدّمها عقيد ركن يشغل ضابط الأمن في الفوج.
شهدت تلك الفترة، وأقصد فترة الخدمة العسكرية، أحداثاً عسكرية مهمة للغاية، أحدها غيّر خارطة الشرق الأوسط، ألا وهو احتلال العراق من قبل الأمريكان، وحدثٌ آخر شهدته الأراضي السورية، وهو قصف الطيران الإسرائيلي لمعسكر عين الصاحب في ريف دمشق، وهو أحد المعسكرات التي كانت تتدرب فيه بعض الفصائل الفلسطينية التابعة للقيادة العامة.
كانت الأحاديث والآراء التي تدور بين الضباط حول الواقعة الأولى معظمها مبهمة، غير مفهومة الأهداف والمغزى، غير محددة؛ ومردّ ذلك أنهم لا يتجرؤون على الجهر بالدفاع عن العراق متمثلاً برئيسه آنذاك صدام حسين، الذي يشكّل بالنسبة لهم الوجه العسكري الشرير الذي حارب حليفتهم إيران، ويمثّل (اليمين) البعثي المتصلّب والمتطرّف، والنقيض التام لقائدهم وملهمهم (الخالد) حافظ الأسد.
وبالمقابل لا يمكنهم إعلان تأييدهم لأمريكا –المحتّلة- فهي رأس الإمبريالية العالمية، وحليفة إسرائيل الأولى، و(الشيطان الأكبر)، حسب منطلقات النظام وحليفته إيران.
فما كان منهم للهروب من هذا الإحراج سوى نشر بعض الأفكار والتحليلات بين بعضهم وإلقائها على مسامعنا، كأن يستهل أحدهم الحديث بقوله: “ولك يا أخي، السيد الرئيس (الخالد الله يرحمه) كان عندو بُعد نظر، وسياسي محنّك، كان دائماً يِنصحُه لصدام حسين إنو يتوحدوا مع سوريا، بس صدام ما كان َيِرضى لأنو كان عميل لأميركا اللي اتخلّت عنّو بعد ما كبّر راس، وسيادة الرئيس بشار كمان زكي متل (القائد الخالد)، وسياسي أكتر منّو، وما يخاف من حدا، وكان هوّي الوحيد يلّي بيبعت دوا وغزاء للعراق وقت الحصار من دون شي، وغصبن عن أمريكا! (الله يرحمك) يا سيادة الرئيس..”.
ويردّ الضابط الآخر عليه: “ولك يا جماعة، سيادة القائد مؤمن بأهداف الحزب والأمة العربية.. أمة عربية واحدة.. يعني شو فائدة الحزب إزا ما طبّقنا أفكارو وساعدنا الدول العربية التانيي؟”.
ويردّ ثالث: “قال بوش عم يهدّد سوريا!.. ولك هاد كلّو حكي فاضي وعلاك.. سيادة الرئيس بشار ساوى علاقات قوية كتير مع كل دول العالم، وكلهن بيحبوه، وما لح يسمحوا لأميركا تتدخل بسوريا”.
أما ما يتعلّق بانتهاك إسرائيل وضربة معسكر عين الصاحب، فقد صار الجميع وقتها يكرر الجملة المعتادة: “نحنا نحتفظ بحق الرد، والسيد الرئيس زلمي حكيم وواعي، وإسرائيل عم تِستفزّو بس هوّي أزكى من هيك، وبكرا بتشوفوا الرد”!
– “النمر” وأمثلة من نظرياته الفلسفية
أولئك الضباط الذين مررتُ عليهم، وغيرهم من الضباط، يُصابون بحالة من عدم الاتّزان وضحالة في التعبير والتحليل المنطقيّين في الحالات المخالفة لحالات الهلع والخوف التي ذكرتها، وأقصد هنا في حالات الانتصار الوهمية التي تأتي فجائية عادةً ودون معرفة كيفية حصولها أو سببها، كما حصل مثلاً في عملية فك الحصار عن مطار كويرس بفعل الطائرات الروسية ومشاة داعش، ثم ليعاد تأهيله لقصف المدنيين من جديد. فأطلّ علينا العقيد سهيل الحسن الملقب بالـ (النمر)، والذي حيكت حوله الأساطير وحَكايا التضحيات والبطولة المقصود بها السرقات و(التعفيش) وعمليات القتل الجماعي للمدنيين والاغتصابات، حتى سرت شائعات بأنه المقرّب لعناصر الجيش أكثر من قائده “الملهم”، ليخرج في مقابلة مع المذيع شادي الحلوة، ذلك المذيع الذي ظهر على تلفزيون النظام في بداية فك الحصار عن المطار يصيح ويرعد مرتدياً البزة العسكرية، ليجيب “النمر” على شادي حين سأله: ماذا تقول للمرتزقة الإرهابيين الذين يحاربون سوريا؟
تنهّد النمر في البدء، وتناول نفساً عميقاً ليخفي من خلاله فرحته وابتسامته بالنصر، كيف لا، وهو العسكري المحارب القدوة، والذي ينتقل من انتصار تعفيشي إلى آخر غير عابئ بالفرح والسعادة! ثم أتحفنا بـ (الجواب-النظرية) مستذكراً ومستلهماً منهجية قائده (المفدّى)، رئيس العالم، في المنطق التحليلي، وبعدها بلحظات ولِدَتْ نظرية “أعداء العالم” المستمَدّة من خلاصة الفكر الأسدي المعاصر لتفتح أفاقاً جديدة في علم المنطق الفلسفي العسكري لدى جيش النظام ورئيسه المتبنّي لنظرية “نصف الكأس الممتلئ”.
وها هو ذا نص النظرية: “أنت تقول عن أعداء العالم، أنا أقول لك أن على كل العالم أن يعرف أعداءه، ويشخصّهم بشكل جيد. فهل أعداؤنا هم أعداء كل العالم؟ بالتأكيد لا. هل من يعيث دماراً وخراباً في سوريا يعاديه كل العالم؟ على العالم كله أولاً أن يعرف عدو العالم، وعلى من يدعم أعداء العالم يجب أن يعرف بأنه ليس من العالم. ومن كان يظن أن يقول غير ذلك فلينتظر منّا ولينتظر منهم، أقول منهم، أعداء العالم، البرهان والدليل.. هل يوجد عاقل في الدنيا يدعم عدو ذاته؟! أنت تسألني (سؤالٌ) غريب عن أعداء العالم. حربنا مع عدو العالم، أي عالم؟!”.
إلا أن نظرية أعداء العالم لم تكد تحتلّ مكانتها المميّزة بين قريناتها “العسكر-أسدية” حتى تبعتها النظرية “النَمِريّة” التالية، وليست الأخيرة، المسماة نظرية “اللاشعور”.
ما يُبهر في تلك الأخيرة أنها أتت أكثر اتّزاناً ووضوحاً مقارنة بسابقتها، حيث ظهر “النمر” في وضح النهار بدون منظار ليلي هذه المرة؛ والكاميرا ترصد جميع العناصر المريدين والناهلين من معرفته اللامحدودة، منتظرين صداحه في المنطق الفلسفي اللامقيّد واللاعقلي واللاشعوري.
وهنا أيضاً، أتحفنا زينون القرن الواحد والعشرين، ديكارت جيش الأسد، أمل الممانعة في الميتافيزيقيا، النمر الصاعد، بنظرته الجديدة في العلم والفن والفلسفة، والتي كانت عصارة خبرته المعرفية واطلاعه على خبرات أسلافه الذين مررت عليهم.
وإليكم نص نظرية اللاشعور: “لقد أصبحت البطولات باللاشعور، وهذا أمر ليس سهل على الإطلاق، هو جملة متكاملة. سلسلة من الاحداث الزمنية التي يبنى عليها أشياء كثيرة هي اللاشعور المنظّم، اللاشعور المليء بالولاء المليء بالعطاء. أنتم تقومون بأعمالكم انطلاقاً من اللاشعور بإحساسكم. يظنون أن كل هذه! كل ما فعلوه شيء صعب، لا! ليس صعب على اللاشعور العظيم، المتجلّي في القيم والمفاهيم الروحية بما تجلّى في اللاشعور الموجود في ذواتكم”.
فلاسفة سوريا: هذا النمر من ذاك الأسد! فلاسفة سوريا: هذا النمر من ذاك الأسد! فلاسفة سوريا: هذا النمر من ذاك الأسد! فلاسفة سوريا: هذا النمر من ذاك الأسد!
السؤال الوجودي الذي ما زال يحاصرني منذ أيام العسكرية حتى اللحظة: كيف تمكّنت هذه المؤسسة من حكمنا طيلة تلك العقود؟