(أبي البعثي) عندما يستيقظ الابن على الفاجعة
2006-04-07
كلما ضاقت الحرية في بلد ما، كلما كثرت فيه الخيانة
لم يبلغ ماهر شريف الدين من العمر عتياً حتى يكتب سيرته الذاتية، بيد أنه يعتقد أن من حق أي سوري أن يروي حكايته (لأنه سيكون لديه، حتماً، ما يقوله ويحكيه) بصرف النظر عن عمره وصفته (أفلا يكفي أنه سوري)، فما بالكم، حين يكون (مثل كاتبنا) "سورياً، وينتمي لأقلية ما، وابناً لرجل بعثي، من زمن الاستبداد والتعصب" فحصيلة ذلك ستعادل عنده أن "يصبح روائياً جيداً، هكذا يكون الخط!" كما يقول.
ونص شريف الدين "أبي البعثي" قد يبدو في نظر البعض، نصاً أدبياً غير مكتمل، أو غير واضح المعالم والقسمات، فلا هو رواية، ولا هو نص نثري محض، إنه أقرب ما يكون إلى السيرة الذاتية، لكنها سيرة غير مكتملة، (أقله بحكم العمر فحسب) أو ربما مشروع رواية على شكل سيرة، وقد يشكو في نظر البعض الآخر، من كثير من العوار الفني، وربما سيقال أن صاحبه يكتفي بالوقوف على سطح الأحداث، يوصفها، يلامس قشرتها، من دون أن يخوض فيها، أو يغوص إلى أعماقها .... الخ
أحسب، أن كل هذا، على أهميته، لا يقلل أبداً من القيمة الحقيقية لنص شرف الدين، الذي سنعتبر أنه نص أدبي مفتوح، ليس ملزماً صاحبه بإلحاقه ضمن خانة، أو جنس أدبي محدد.
فالقيمة الجوهرية لهذا النص، كما أعتقد، تكمن في تلك التفاصيل والجزئيات التي يوردها ويكثر منها، والتي غالباً ما يميل الكتاب عندنا إلى السكوت عنها، وخصوصاً في ذلك النمط من الأدب "العفيف" أو الموجه، الرائج والسائد عندنا، حيث يصار، في الأعم الأغلب، إلى ردم وطمر تلك الحيثيات والتفاصيل تحت رداء من التعميمات والمبادئ العامة، أو الوظائف، التربوية والتوجيهية المفترضة للأدب، والتي تنهل من جدانوفية أدبية وسياسية، ما برحت تضرب أطنابها في واقعنا العربي عموماً، والسوري خصوصاً، على نطاق واسع.
غير أن الصمت عن تلك التفاصيل وتجاهلها، غالباً ما يقود، إلى تمردها وثأرها لنفسها، حتى لو جاء ذلك على شكل "خيانات" كبيرة كانت أم صغيرة.
يصح الاستنتاج، كما أعتقد، أنه "كلما ضاقت الحرية في بلد ما، كلما كثرت فيه الخيانة". ويقر شرف الدين، مداعباً، "اقترافه" لها، فيقول في إهدائه: "إلى أبي، خيانتي هذه على شكل كتاب". وفي مكان آخر يضيف مؤكداً: "..أن أكون ابناً لرجل بعثي يعني أن أقود انقلاباً عليه، وأن أخونه عندما أكبر". ولا ريب أن مثل هذه الخيانة شبيهة تماماً بخيانة محمد الماغوط لوطنه، في كتابه المعروف "سأخون وطني".
شرعية تلك التمردات والخيانات، لا تتأتى أو تتحصل، طبعاً، من الاعتراف أو الإقرار الرسمي (السلطوي) بها، بل من "شجرة الحياة الخضراء" كما يقال، من الواقع الثّر والفتي، فالواقع والحياة، وحدهما، من يمنح تلك الكتابات (الخيانات) شرعيتها أو حقها بالوجود.
يأخذ شرف الدين على الكتابة السورية "غياب المعاش والذاتي عنها" حيث لا تأخذ من التجربة الشخصية سوى خلاصتها العمومية، فتتجنب الحديث، مثلاً، عن وجود طوائف وإثنيات بعينها، مطالباً بـ"مواطنة ثقافية" للخروج بالكتابة السورية عن طاعة العمومي (الحياة: 20/1/2006)
كانوا إذا ما قالوا: بعث؛ تخيلته بشاربين ويد كبيرة
انطلاقاً من قناعته هذه، يكشف لنا الكاتب في "أبي البعثي" مزيج العائلات المختلطة والمتنوعة التوزع المناطقي والإثني والطائفي، التي كانت تقطن مع عائلته في أحد الأحياء، على أطراف مدينة الحسكة (ديرية وكرد وشوايا ودروز وعلوية..) وعبر هذا التنوع يفضح لنا ماهية العلاقات التي كانت تنشأ وتربط بين تلك المجموعات، ثم بينهم وبين أهالي الحسكة، خاصة المسيحيين منهم (آشوريين وكلدان وأرمن) "أهلها الغرباء فيها". ولا يكتفي بهذا، بل يشرك قارئه بمعرفة أسرار عائلته وطائفته، بدءاً من جده، الذي كان دائم التشكيك بالنوايا الإلهية: "لو لم يقرر الله في آخر لحظة افتداء إبراهيم، سواء أكان إسحاق جد اليهود أو إسماعيل جد العرب، وإنقاذه من تحت سكين أبيه، لكان موت هذا الولد كفيلاً بوأد الصدع بين اليهود والعرب منذ ذلك الزمان". مروراً بـ "حبقة نعيم" تلك العاهرة التي تحول اسمها إلى "كلمة سر يتعارف بها أناس محافظون"، "ما إن صاح أحدهم باسمها، في معسكر التدريب العسكري، حتى تجمع شبان الدروز حوله، وتعارفوا".
وانتهاء بيد أبيه، التي كانت تضربهم بلا هوادة، والتي كان يختلس النظر إليها، حين ينام أبوه، ليكتشف أنها يد لا تنام.. "كانت الكدمات الزرقاء بصمات يده على وجوهنا... هي التي جعلتني أتخيل البعث شبيهاً بأبي، كانوا إذا ما قالوا: بعث؛ تخيلته بشاربين ويد كبيرة".
هنا يختلط المجاز بالواقع، ويحيل الواحد منهما إلى الآخر، في لعبة فنية تتخطى فيها القصيدة المباشرة، حد الاضمحلال والتلاشي، فيد الأب الثقيلة والمطلقة "الواقعية" تحيل، حتماً، إلى يد السلطة الباطشة، شديدة الوطأة، والأب "البطريرك القاسي، هو رمز السلطة أيضاً "يداه كانت بعثنا المنزلي".
هذه اليد المسيطرة بقسوتها، ستعمل على تشويه مزايا الابن، مسخه، تماماً كما تفعل يد السلطة الغاشمة، حين تسحق شعبها، وتحيله إلى مجرد أقزام و مسوخ في مواجهة عتوها وجبروتها. "يده كانت شيئاً شبيهاً بالأقدار، حين أمشي أحس أنها بين قدمي فأتعثر، وحين أركض أحس أنها تطير فوق رأسي، فأطأطئه، وحين أتكلم أمام الضيوف أحسها ممسكة بلساني فأتلعثم".
وحين يساق، ضمير المتكلم في نص شرف الدين، الذي قد يكون هو ذاته، إلى السجن، يعترف بأن ذلك حصل ليس بسبب موقفه المبدئي، بل كل ما هنالك أنه لم يقترع بالدم خوفاً من الإيدز، "كنت أخاف ذلك الدبوس الذي اخترق مئات الأصابع قبل أن يصل إلى أصبعي"، وحين يعفى عنه، بعد شهر ونصف الشهر، "يجن من الفرحة، يشتهي أن يهتف باسم البعث، باسم حافظ الأسد".
الكتاب يمثل انتهاكا وتحدياً للثالوث المحرم عندنا (الدين، السياسة، الجنس)
وفي مكاشفات الكاتب هذه، يتجاوز محظورات المؤسسات الأدبية والثقافية الرسمية، وخطوطها الحمر الصارمة، سواء في نظرته وتعامله مع الجسد، أم في اقتحامه لسطوة المحرمات الأخرى، السلطوية والدينية، مخلفاً وراءه تلك الكتابات المواربة أو المستترة، كما الازدواجية الفاقعة ما بين حضور ودور الجسد والجنس في حياتنا، وبين هامش الحرية والجرأة المتاحين لتناولهما في كتاباتنا الأدبية والثقافية، وهو ما يعمق البون، الشاسع أصلاً، بين ذهنية التحريم "السائدة عندنا تجاه الكتابات وبين الفضاء الثقافي المفتوح، الذي تحظر به في الغرب.
"أبي البعثي" لماهر شرف الدين يمثل انتهاكا وتحدياً للثالوث المحرم عندنا (الدين، السياسة، الجنس) دفعة واحدة، ونعلم جميعاً أن اقتحام واحد منها كفيل بإثارة وإغضاب الكثيرين، فما بالكم حين يكون هذا الاقتحام لها مجتمعة وفي كتاب واحد، لا ريب أن المحتجين والمستنكرين سيكونون أكثر وأكثر، خصوصاً لدى أولئك الذين ينصبون أنفسهم حراساً ووصايا أمينين وأخلاقيين على أصنامنا وأنصابنا.
نص شرف الدين ينتمي إلى تلك "الثقافة الشعبية"، التي لا تخضع لمحرمات جائرة، وتجهد ما أمكنها لردم الهوة بين ما هو متداول وشائع على مستوى اللغة والوعي، وبين ما هو مسطر في الكتب، بعيداً عن إدعاء عفة مزيفة، وطهر أدبي، خداع ومضلل، أو فضيلة اجتماعية منافقة.الكتاب: أبي البعثي
المؤلف: ماهر شرف الدين
إصدار: دار الجديد 2005 لبنان.
08-أيار-2021
24-حزيران-2006 | |
22-أيار-2006 | |
23-نيسان-2006 | |
09-نيسان-2006 | |
08-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |