المثقف بين فكي كماشة
2006-04-09
المشهد يبدو ساطع الوضوح والبساطة، مثلما هو شديد القتامة والتعقيد في آن. فثمة سلطات عربية غاشمة وغشيمة في أغلبها، أوصلت شعوبها إلى قارعة التاريخ، ووضعتها في مهب الريح. وثمة بالمقابل، متطرفون و"أصوليون" يعملون بكل ما أوتوا من قوة وجهد للإجهاز علينا وإخراجنا نهائياً من هذا العصر.
المثقف العربي الذي فقد، أو أُفقد فعاليته ودروه، بات حائراً ومربكاً وفي حرج مكين، خصوصاً بعد أن ألفى نفسه محاصراً بين فكي كماشة؛ السلطة من جانب، وقوى التطرف في جانب آخر. فهل يستمر رافعاً أحماله الثقيلة في دروب موحشة، مليئة بالألغام والفخاخ، وباشراك "الخيانة" وتهم المردود، التي لن تفضي، إذا استمر الحال على ما هو عليه، إلا إلى الخواء أو الهاوية؟
أن تراه يستسلم ويستكين ويخلي الساحة للشيخ، صاحب العمامة، ليفتي في شؤون الثقافة والفكر والحداثة، والذي سيفرض عليه، آجلاً أم عاجلاً، الاختيار بين "فسطاط الخير" وهدي الشيخ، وبين "فسطاط الشر والضلال" الذي هو فيه؟
ماذا بوسعه أن يفعل؟ هل بإمكانه أن يبقى ضمير الناس، في وقت صار فيه صاحب العمامة هو "المثقف العضوي" الأكثر قرباً وصلة بالناس والمجتمع، في ظل مجتمعات، كأنه صار يستهويها خطاب التكفير والتحريم وتنزع إلى المزيد من التطرف والتعصب والكراهية؟
لنلاحظ أن الكراهية أضحت الآن أشبه بـ"ثقافة" قائمة بحد ذاتها، لدى قطاعات واسعة من الناس، وهي تنصب، بالدرجة الأولى، ليس على الاستعمار والاستغلال الغربيين، كما كان الأمر من قبل، بل على الثقافة الغربية وحدها، وعلى من يشتبه بأنه يمت إلى تلك الثقافة بأية صلة في داخل مجتمعاتنا!، "وهذا أخطر مقلب تعيشه أمتنا ومنطقتنا" كما يقول جورج طرابيشي، الذي يقدر بأن بلايين الدولارات أُنفقت في العالم العربي لخلق ثقافة مضادة للحداثة.
فهل نعتبر، مثلاً، أن المسؤول عن الرسوم المسيئة للإسلام، التي نشرت أخيراً وأثارت عاصفة لمّا تهدأ بعد في العالمين العربي والإسلامي، هو مبدأ حرية الرأي والتعبير والإعلام، المعمول به في الغرب، والذي هو حق عالمي أساس يضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وليس حقاً غريباً فحسب؛ أم أن مسؤولية ذلك تقع على عاتق فئة جاهلة ومتعصبة، غبية ومتغطرسة، في الدنمارك أو سواها من البلدان الغربية؟ فلا أحد يملك الحق بجرح مشاعر المؤمنين، من أي دين كانوا، على هذا النحو المجاني، الوقح والمستفز، والذي يمكن استغلاله، بمنتهى اليسر والسهولة من قبل الفئات المتعصبة والمتطرفة أنى وجدت، للدفع نحو صراع مجنون وأحمق، ينتمي لما يسمى بـ"صراع الحضارات" أو الثقافات الذي لا يمكن لأي عاقل أن يستسيغه أو يقبل به.
وبالمقابل، ولكي يستقيم الأمر، فثمة مسؤولية تقع على عاتق العرب والمسلمين تمثل في تقديم صورة مختلفة ومغايرة للإسلام، تناقض تلك الصورة الدموية والوحشية المشوهة التي قدمها أمثال بن لادن والظواهري والزرقاوي.
والحال، بتنا نجد المثقفين إما أنهم صامتون، أو أنهم دجنوا وتخلوا عن قضيتهم ومواقعهم المفترضة، لائذين بأنظمة عربية متهالكة، تدافع عن بقاءها وديمومتها بشراسة وعتو نادرين، تحت يافطات مضللة ومزيفة، تحشد وتهيج للدفاع عن "الأوطان" المستهدفة، وديدنها الشعار العتيق والمهترئ "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!" أو بأصوليات مشرئبة وجاهزة للانقضاض على فرائسها الكهلة والعاجزة.
صمت المثقف فضيلة، قطعاً، إذا ما قيس بصنف "المثقف المقاول" الذي نراه حاضراً في كل المناسبات، وملبياً جميع الدعوات، وله في كل فضائية إطلالة مميزة، والذي يصح عليه المثل القائل "في مل عرس له قرص"!.
يميز الطاهر لبيب، بين المفكر وطراز هذا المثقف فيقول: (المفكر يتحدث أقل مما يلزم، والمثقف أكثر مما يلزم، وهذا يعني أن الذين ينتجون المعنى هم الأقرب إلى الصمت... والبقية التي لا تكف عن الكلام (الثرثرة) هي التي تنتج هذا "اللامعنى" الذي ينسج خطابنا السائد اليوم.)
أمثال هؤلاء المثقفين يعيدون سيرة "شعراء البلاط" في عهودنا السابقة، حين كان كبار الشعراء لا يتورعون عن الكتابة تحت الطلب، أو ينذرون أنفسهم أبواقاًً وناطقين باسم القبيلة، في رشدها أو غيها على السواء؟
"وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت، وإن ترشد غزية أرشد"!
أيعني هذا أن القاعدة السائدة عندنا، كانت ولا زالت، ما خلا استثناءات نادرة، تؤكدها ولا تنفيها، هي تبعية للثقافة السياسية، وليس العكس، كما ينبغي ويجب أن يكون؟
لا ريب أن استمرار هذه العلاقة المقلوبة أفضى إلى تشوه السياسة الثقافة وانحطاطهما في آن، فمتى ستنفصم عرى هذه التبعية يا ترى؟
بعد الانتخابات الفلسطينية الأخيرة، التي أخفقت فيها منظمة التحرير الفلسطينية ككل، وليس "فتح" وحدها، والتي هي حدث ثقافي بامتياز، وليست مجرد حدث سياسي فحسب، طرح الكاتب والناقد الفلسطيني فيصل دراج سؤالاً حارقاً وممضاً: "ما الذي تبقى لدى الفلسطينيين اليوم، من تلك الثقافة التي حلمت بثورة ثقافية عربية شاملة؟"
ثم يفرفط السؤال إلى أسئلة فرعية عدة، يتساءل فيها عن الموقع والمكانة المنتظرة، في الثقافة الفلسطينية مستقبلاً، لأمثال غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، لهشام شرابي الذي أراد أن يقوض بنية "الثقافة البطريركية" الشائعة عندنا، بثقافة علمانية ديمقراطية، ولخليل السكاكيني الذي علم الفلسطينيين نصف قرن من الزمن أن "المدرسة الحرة هي مصنع الرجال" ولصحافي جسور مثل نجيب نصار، الذي وضع محبة الوطن فوق الأديان جميعاً، ويتساءل دراج أخيراً عن "المعنى الذي سيبقى للحداثة الشعرية في خطاب فلسطيني يعتنق مبادئ الأصول والسلف".
هل هي دعوة لإستقالة الثقافة والمثقفين؟ لا، بكل تأكيد.
بل هي رغبة في أن يعتصم المثقف بصوت نفسه، بأن يستفتي عقله وقلبه وحدهما، بعيداً عن أية تبعية أو وصاية من أية جهة كانت.
هكذا يمكنه أن يبقى ضمير الناس، مهما كان ضجيج وزحمة الأحداث.
هكذا يمكنه أن يكسب نفسه حتى لو خسر العالم الذي من حوله.
08-أيار-2021
24-حزيران-2006 | |
22-أيار-2006 | |
23-نيسان-2006 | |
09-نيسان-2006 | |
08-نيسان-2006 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |