الشريط الأسود
2008-06-20
غُيب أبي, توسطتْ صورته صدر حائط الصالون مع الشريطة السوداء التي أحاطت كتف زاوية الصورة .
غرفته الصغيرة في بيتي, اختارها لإطلالتها على الحديقة , لم يأتِ بأشياء كثيرة من بيت العائلة, فقط شنطة, اختصرت سنواته الستين,عكازته يسندها الحائط, لوهلة, تهيبت أن أفتح خزانته, أن أجمع ثيابه ,أعطيها لبعض العائلات المستورة, طقمه الأسود, فكرت به لآذن المدرسة,قمصانه لبياع عربية الخضرة,كونهما من أعز أصدقاء شيخوخته, وثياب أخرى لآخرين .
وجدت صندوقا صغيرا بقفل مخلع, بعض الأوراق ,صورة للعائلة: هو ,أمي ,أختيّ , وأنا أركب فخذه الأيمن كحصان ,وقتها كان عمري سبع سنوات على ما أذكر, الصورة لم تكن في ذاكرتي,لكن وجه المصور الذي عانى بضبطي اقترح على أبي أن يجلسني على فخذه, كان فيها.
الفتى الصغير له عيني أبي, هذا ما فقدته في كبيري, وحلتْ محلهما عيناي أمي ,أكاد لا أعرفه, حدقت به محاولا استحضار تلك البنية الجسدية التي كنت عليها, فلم يأتني غير ضباب الصباح .
حدجني بنظرات متتالية , ثبت نظره بعيني كراية على قمة جبل أحتله الجنود, تراجعت خطوة للوراء, لما صُفع الباب خلفي وتيار هواء عصف بالغرفة مع صوت من أنت؟!.
ولماذا تمسك بصورة العائلة ؟, بعفوية طفل أجبت: أنا, أنت!!
لايمكن أن تكون أنت, أنا؟! ,لست في أحلامي ,لا ضمن ما كنت أرغب به, فأنا قادر على معرفتك أكثر من نفسك,قادر على قراءة شعورك ولا شعورك, أنت تاريخ من الفشل, ولد وحيد مدلل , عملتَ بجهد على إفشال كل ماخطط لي والدي , أين أحلامه التي سمعتها من فمه؟ كنت يساره أن ذهب يمينا, تُقدم, حين يختار التوقف, تقول: لا مقابل نعمَه , لا يحق لك أن تمسك صورة العائلة ,أنت غريب عنها؟!.
هبطتُ بقوة على حافة السرير, مازال صوته يتردد بالغرفة, معددا مثالبي, فاضحا شخصيتي في أدق دقائقها, مسلسلا هزائمي, لائما تقصيري هنا وهناك .
يا ألهي ماضيي الآن يحضر!!, صفعة أبي, أصابعه الخمس تكسر شعيرات ذقني ,ومع ذلك أتهمته بالخطأ ,إنه لا يعرف ولن أسمح له في تحديد مستقبلي وأنا من يتحمل ذلك وليس هو, ولا تهمني كل تلك الأعراف أو ما سيقال عني , كيف خرجت بآخر الليل مهددا إياه أنه سيندم , وتقبيل يده رغما عنه بعد سنة غياب, هامسا في فضاء وجهه الغاضب أريدك أبي كما أنت, فلا تطلب مني غير ما أكون عليه زمنها صمتَ ,بقيتُ في البيت .
تعليقا ,على كل تصرفاتي, كان صمته نوعا من التأديب لي ,وبنفس الوقت موافقة لما أعمله . عندما ماتت أمي قلتُ له :عليك بالمجيء للسكن لدي, فبيتي أوسع, لم يعارض بل قال:تعال غدا؟!.
عاد الصوتُ أكثر قوة, حتى شعرتُ أنه يكاد يخلعني من مكاني, وببمحاة صغيرة انتشلها من جيب بنطاله القصير, بدأ يمحو جسدي, بادئا بإقدامي, خدر يكتسحني, أشعر بأنه لا حول ولا قوة, أمام ممحاته, بدأت أخف ,أختفي كدخان سيجارة في فضاء الغرفة التي دخلها أبي يوما وصرخ : عم تدخن يا كلب.
صوتُ ولدي تسلل لأذني وسط الضجيج, بينما بصري ينجذب بقوة لتلك العينين القويتين استجمعتُ بعض القوة المتبقية ,شققت الصورة نصفين, قاسما جسده شطرين ,عاد لي وزني, يداي تمسكان بجانبي صورة أبي المتوفى على الحائط تهندس استقامتها ,فيما عينيه تنظران إلى عينيّ مباشرة كان له أو كان لي عيناه ,انحدرتْ دمعة متمنعة طوال فترة العزاء.
باسم سليمان
[email protected]
خاص الف تودي
08-أيار-2021
29-كانون الأول-2018 | |
02-حزيران-2018 | |
17-آذار-2018 | |
23-كانون الأول-2014 | |
04-آذار-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |