أقع في غرام جنوب سيناء، كل مرّة أزورها، كما لو أنني أراها للمرّة الأولى. مساحات هائلة من الصحراء المتصلة مع البحر الأحمر، حيث غنى الطبيعة البحرية لا حدود له. الشعب المرجانية المنتشرة بكثافة، أنواع نادرة وعجيبة من الأسماك والحيوانات البحرية، عالم ساحر من الألوان في البحر. كنت أتساءل، قبل زياراتي سيناء: ما سبب كثافة السياحة إلى مناطق البحر الأحمر، على الرغم من الحر الشديد؟ حين ذهبت فهمت وعذرت وتعلقت. كل هذا الجمال لا بد أن يملأ قلبك الذي يطلب المزيد، فالامتداد واختلافات اللون الأزرق بين مسافة وأخرى، والشمس الواضحة جدا والتلال الجرداء ذات اللون الغريب، كفيلةٌ كلها بأن تجعلك تفهم الصعوبة التي "تنازلت" بها إسرائيل عن سيناء، بعد احتلالها زمنا طويلا.
قلت لصديقتي المصرية ذات يوم، ونحن عائدتان من محمية رأس محمد في شرم الشيخ: هذا الجمال جعلني أعيد النظر في مسألة اتفاقية كامب ديفيد! إذ لولاها لما عادت سيناء مطلقا إلى العرب. لم يحرز العرب أي تقدّم أو نصر مع إسرائيل، لم يتم استرجاع أي بقعة محتلة منذ 1967، حتى اتفاق أوسلو أعطى حقوقا ناقصة جدا للفلسطينيين. وحدها سيناء عادت كاملة إلى مصر. قلت هذا وأنا أفكّر أنه لم يكن ليتاح لي، أو لغيري من العرب، رؤية هذا الجمال، لولا اتفاقية كامب ديفيد التي أقامت قيامة العرب وقتها. لكن مهلا، كنت لحظتها مأخوذة بالجمال المحيط بي، وكان طبيعيا أن أفكّر بما فكّرت، غير أن منظري وأنا أبتعد، كما لو كنت أخشى الإصابة بعدوى، حين يمرّ بجانبي إسرائيليون، وأسمعهم يتحدّثون العبرية، كفيلٌ بنسف نظريتي كلها عن اتفاقية استعادة سيناء. لا أستطيع تقبلهم، ولا تقبل وجودهم ولغتهم. شيء ما في داخلي يصرّ على رفض وجودهم على أرض عربية، وسيناء أرض عربية، واستعادتها، بأية طريقة، لا يبيّض صفحة إسرائيل دولة احتلال عنصرية ومجرمة. الاتفاقيات السياسية الدولية شيء، والقبول النفسي الشعبي لمغتصب ومحتل وقاتل شيء آخر.
يتسابق العرب اليوم إلى إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل. الكل، حتى الأنظمة التي تدّعي الممانعة والمقاومة ربما هي أكثر من قام بتبييض صفحة الكيان الصهيوني، فما ترتكبه من جرائم ضد شعوبها لم تفعل ربعه إسرائيل ضد الفلسطينين والعرب، وهذا جعل المقارنة واردة وطبيعية، خصوصا للأجيال الجديدة التي أتت بعد 1973، آخر الحروب العربية الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن حروبها مؤسّسة على سند ديني، إلا أن إسرائيل تسعى، في حقيقتها، إلى وطن قومي كبير، من الفرات إلى النيل. وإذا لم يتحقّق هذا باحتلال مباشر، فثمّة طرق كثيرة لتحقيقه، دعم كامل لأنظمة الاستبداد العربي، اتفاقات تجارية قائمة، بروباغندا عن نزاعاتٍ وصراعاتٍ وهمية مع دول الإقليم، كتركيا وإيران، واتفاقات اقتصادية وتجارية وسياسية، تنسيق كامل مع الدول المحتلة سورية حاليا. سوف ينتهي ذلك كله بتطبيع وعلاقات دبلوماسية معلنة، بعد أن فقدت الشعوب العربية القدرة على المقاومة، أو حتى الرغبة فيها، حين ترى المواطن الإسرائيلي يعامل مواطنا درجة أولى في إسرائيل وخارجها، بينما العربي يُعامل أجيرا في مزرعة الحاكم، ويعيش مهانا وفاقدا أدنى مقومات الكرامة الإنسانية. وهذا ما أرادته إسرائيل منذ زمن، وهذا ما حصلت عليه عبر أنظمة الذل والعار العربية.
أعادت اتفاقية كامب ديفيد سيناء إلى مصر، وهي دولة مواجهة أصلا، وفي وقتٍ كان الشعور القومي هو الغالب، ما أعاق التطبيع الشعبي والثقافي. ما يحدث اليوم مخيف. الدول العربية التي بدأت بالتوقيع ليست دول مواجهة، ولم تخض أية حربٍ مع إسرائيل، (حروبها في بلاد العرب ضد العرب)، ولم تأخذ شيئا من إسرائيل في مقابل السلام. وللأسف، حتى بعض مثقفيها يباركون هذا التطبيع، ويحاولون تبييض صفحة العدو الإسرائيلي، كما يبيضون صفحة الأنظمة العربية المجرمة، مع عداءٍ معلن للعروبة، ومع استعلاءٍ مهينٍ ضد الشعوب العربية المنكوبة بالموت والتهجير. قد يكون أمر السلام الكامل مع إسرائيل حتميا يوما ما، ولكن أن يتحقق ذلك من دون عدالة تنصف الضحايا، أو من دون حتى اعتذار كما فعلت أوروبا عن النازية، أو من دون تنازل إسرائيلي مقابل، فهذا ليس سوى سقوط آخر، يبدو أنه صار عادة عربية لم تعد تثير العجب.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...