حدث ذلك قبل أن يرخي الليل الشتائي البارد الطويل معطفه الثقيل على أكتاف واشنطن التي كانت قد أتمت واجباتها المنزلية بنجاح باهر، وتأهبت على خير ما يرام لطي صفحةٍ كئيبةٍ من زمن الحماقة والديماغوجيا والكذب، قبل أن تهرع جموع من الرعاع البيض المتعصبين، ومن في سويّتهم الاجتماعية، استجابة لتحريضٍ علنيٍّ مباشر، من جانب مرشدهم الأعلى، دونالد ترامب، وتلبي دعوته الماجنة إلى اقتحام مبنى الكونغرس، وفض اجتماعٍ كان مقرّراً للمصادقة على نتائج الانتخابات، وتنصيب جو بايدن (مع بعض المبالغة) رئيساً لرؤساء العالم أجمعين. فرك المتابعون عيونهم مرّتين على الأقل، للتأكد من صحة تلك الصور العابثة، المنقولة عبر البث المرئي من عين المكان، غير مصدّقين للوهلة الأولى، ما تراه أعينهم من أخيلةٍ بدت أقرب ما تكون إلى شريط من أفلام "الأكشن" الهوليودية المثيرة، لمّا اقتحم مريدو ترامب قلعة الديمقراطية الأميركية، زرافاتٍ ووحدانا، وراحوا يعيثون خرابا في القاعات الباذخة، وفي مكاتب المشرّعين الذين ارتدوا الكمّامات الواقية من الغاز المسيل للدموع، وفرّوا عبر الأبواب الخلفيةً على عجل، لكأن مليشيات الحشد الشعبي دهمت منطقة واشنطن الخضراء بغتة. على سبيل المجاز، ومن أجل جعل الصورة أوضح، يمكن وصف ما جرى في تلة الكابيتول، قبل أسبوع، بأنه "ليلة القبض على الكونغرس"، في إشارة تحذيرية حمراء تُخبر، في العادة، عن وقوع حدث جلل، لم يخطر على بال أحد من قبل، حيث اعتبر بعضهم هذه الواقعة غير المسبوقة تمرّداً موصوفاً، أو ربما انقلاباً ينذر بإدامة ولاية ترامب لعهدة ثانية، قد تمتد من سنة إلى أربع سنوات غاصة بالنزق والشعبوية والتهور والفوضى العارمة، فيما اهتبلها آخرون مناسبة سانحة لإبداء مشاعر التشفي والشماتة، بمظاهر انهيار صرح الإمبريالية الأميركية الباغية. غير أن السحر الأسود انقلب على صاحبه هذه المرّة، وخرج له الجنيّ من القمقم، قرفص قبالة من ابتسمت له الأقدار كثيراً قبل أن تعانده أخيراً، وأجرى معه الحساب المؤجل، قائلاً له والعين في العين: أتيت أيها المهووس بحب السلطة إلى البيت الأبيض في غفلة من الزمن، وكان انتخابك غلطةً لا تغتفر، لقد ضاقت بك البلاد ذرعاً، أميركا تستحق رئيساً أفضل منك، وها أنت تطلق الآن الرصاصة الأخيرة على نفسك، تجدع أنفك، وتنهي حياتك السياسية بنفسك، فاحمل عصاك واغرب عن سمائنا، اذهب وافتح ضريحاً وضيعاً للترامبية خاصتك، إلى جانب قبور كل من المكارثية والفاشية والعنصرية، لعل في هذا تعويضاً مناسباً لنا عن كل ما قارفته يدك. إذ بعد انقضاء تلك الليلة الليلاء، المذهلة بكل المعايير، بات عهد ترامب جزءاً من الماضي بكل تأكيد، وقد يعزل الأزعر ويحاكم، كما انتهت معه الترامبية، ومال إلى الغروب زمن الجنون والتفاهة والبلطجة السياسية، وهذا لعمرك، يا أخا العرب، جائزة ترضية معتبرة، يستحقها كل من جار عليهم الرجل البرتقالي في هذه الديار الواسعة، وابتزّهم بلا حدود، وأخذ بيمينه مما لا يملك شرعاً، ليمنح بشماله إلى من لا يستحق أصلاً، حيث أعطاه أرضاً وقدساً وتطبيعاً، والحبل كان على الجرّار، فهل لنا، بعد هذه الجائزة الثمينة، ألا نستطيب حماقة ترامب هذه، وألا نشكر الأقدار بكرة وأصيلا؟ كان أسوأ ما حفلت به أيام الأسبوع المنصرم هجاء النموذج الديمقراطي من أبواق أعداء الديمقراطية في هذه المنطقة، وفي الصين وروسيا أيضاً، ناهيك عن الاستثمار المكثف في الأزمة العابرة، التي أحدثها ترامب لنفسه، والتوظيف المبالغ بها لحدثٍ لا يعكس وجه أميركا الحقيقي، والبناء على افتراضاتٍ لا أساس لها، كالادّعاء مثلاً أن الولايات المتحدة باتت تقف على عتبة التفكك، وأن ديمقراطيتها الشائخة لم تعد تفي بالغرض، في محاولةٍ من معتنقي نظرية المؤامرة الدفاع عن أنظمتهم الاستبدادية. ليس الحديث هنا عن احتفاءٍ بعهد أميركي واعد، أو عن زف البشائر بحدوث المعجزات على يدي بايدن، الصهيوني على ظهر السطح، وإنما خلاصة القول إننا نحتفل مع أنفسنا بانقضاء زمن أميركي أغبر، امتد أربع سنوات ثقال، وكان يُخشى أن يطول أكثر، زمن صال فيه نتنياهو طويلاً وجال فيه أطول، تاه علينا وتدلّل، بدعم غير محدود من جانب توأم روحه، ترامب، صنوه المغرم بالكذب رطلاً برطل، الكاره للقضاء والإعلام واللاجئين مِثلاً بمِثل، وهو أمر يدعو إلى التفاؤل بدنو أجل القط المتنمّر في تل أبيب، بعد أن أزفت ساعة النمر المتوحش في واشنطن.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...