تلخيص السفسفطة لابن رشد الأندلسي 1
جهاد أسعد محمد
2006-04-07
يعد الفيلسوف العلامة أبو الوليد محمد بن رشد (1) واحداً من أبرز العلماء المجددين في التاريخ الحضاري العربي الإسلامي، وقد يكون الأول بين علماء الإسلام الذي ما انفك يؤمن حتى في أصعب الأوقات، بأنه لا سقف ولا حدود للابتكار والاجتهاد، وفي كل أبواب العلوم، الدينية والدنيوية على السواء، وقد وجد في فكر أرسطو ما يرتكز إليه ويشد به أزر منطقه الشخصي ومنهجه العلمي البحت، وقد أكد في غير مناسبة أنه باعتماده مذهب أرسطو دون سواه، إنما سعى في المحصلة إلى تكريس واعتماد الآراء العلمية التي يتطلبها البحث والاجتهاد الذي وصل في عصره إلى حالة من التأخر والتردي، وهو في ذلك لم يكن مجرد مترجم أو شارح لـ«المعلم الأكبر» بل هو، ودون أدنى شك، كان متمماً له، ومتجاوزاً لعثراته، ومصححاً لثغراته وهفواته.
وكتابه هذا الذي نقدمه للسادة القراء، إنما هو واحد من مجموعة كتب وأبحاث، أكد من خلالها ابن رشد منهجه العقلي المعتمد على ما نسميه في عصرنا الراهن «الموضوعية والعلمية»، وقد كتبه في وقت كاد فيه الفكر السلفي الإلغائي أن يهيمن بجموده وتهمه على الثقافة الإسلامية، لذلك دأب من خلاله على مناظرة المكفرين والمتزمتين ورجال الفقه المقلدين بشكل بيّن تارة ومبطن تارة أخرى.
والحسن في الأمر أن قارئ الكتاب هو من سيحدد في النهاية أين يقف هو من كل ذلك وأين يقف الآخرون، وهو من سيحكم بين الأمور المتنافرة والمتباينة، وسيجد نفسه في كل الأحوال شريكاً ونصيراً لفئة دون أخرى، ولحجة دون سواها، ولمنطق على منطق، خاصة وهو يقرأ الأمثلة المضروبة والرموز المستورة، وربما هنا يكمن السبب العميق في نقمة البعض على ابن رشد بصفته قادراً دائماً بسعة علمه وقوة حجته على سحب الجمهور من خطوط الحياد من دون إكراه أو مصادرة.
كما أن القارئ سيجد بين سطور الكتاب، وبإسقاط بسيط، نقداً وتقييماً للكثير من المناكفات والمساجلات الإعلامية والمجادلات السياسية التي تدورفي زماننا.
أما من حيث اللغة، فإننا في مجمل كتب ابن رشد نجد أنفسنا أمام لغة مختلفة، أصيلة وجديدة، قد لا يوجد مثيل لها في كتب الأقدمين في الاقتضاب والبلاغة والتبسيط، وهي تنأى عن الزخرفة والصنعة وألوان البديع وعن كل ما هو غريب وسطحي، ولكنها في الوقت عينه لغة متماسكة متطورة وسابقة زمانها سواء من حيث المعاني أو من حيث النحو.
يقول ابن رشد في السطور الأخيرة لكتابه «تلخيص السفسطة»:
«... فمن وقف على كتابنا هذا، ورأى أنه قد نقص من كلامي شيء هو في كلامه ( أي أرسطو- «المحقق»)، أو سقت شيئاً من كلامه على غير الجهة التي قصدها، فليعذرني. فإن من يتعاطى فهم كلامه من غير أن يسبقه فيه غيره هو شبيه ممن يبتدىء الصناعة ( أي العلم - «المحقق»). ولذلك كثير مما أوردناه في ذلك، إنما هو على جهة الظن والتخيل. وأنت تتبين ذلك إذا وقفت على نص كلامه في هذا. لكني أرجو أنه لم يفتنا شيء من أجناس الأقوال التي أودعها هذا الكتاب، ولا من أغراضه الكلية. وإن كنا نشك أنه قد فاتنا كثير من الأشياء الجزئية، وكثير من جهة استعمال القول فيها، والتعليم لها. ولكن رأينا أن هذا الذي اتفق لنا في هذا الوقت خير كثير. وعسى أن يكون كالمبدأ للوقوف على قوله على التمام لمن يأتي بعد، أو لنا إن وقع لنا فراغ وأنسأ الله في العمر (أي أخّر الأجل - «المحقق).
فانظروا كيف حال من يأتي بعد هذا الرجل في فهم ما قد كمل وتمم، فضلاً عن أن يظن بأحد أنه يزيد عليه أو يتمم شيئاً نقصه...».
هكذا كان ابن رشد يعامل نفسه وتلامذته، ويتعامل مع العلم...
تلخيص السفسطة لابن رشد الأندلسي
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله
الغرض من الكتاب
قال «أرسطو»: الغرض في هذا الكتاب هو القول في التبكيتات(2) السفسطائية التي يظن بها أنها تبكيتات حقيقية، وإنما هي مضللات... ونحن مبتدئون بالنظر في ذلك من المقدمات المعروفة بالطبع في هذا الجنس، فنقول: إن من المعلوم أن من القياسات ما هو قياس في الحقيقة، ومنه ما يغلط، فيظن به أنه قياس، من غير أن يكون كذلك في الحقيقة. وما عرض في القياس من ذلك هو شبيه بما عرض في سائر الأشياء المتنفسة وغير المتنفسة، وذلك أنه كما أن من الناس من هو عابد بالحقيقة، ومن يظن به أنه عابد، وهو مرائي؛ ومنهم من هو جميل بالحقيقة، ومنهم من يظن به أنه جميل لمكان الزي واللباس، وليس هو في الحقيقة جميلا؛ ومن الفضة أيضاً والذهب ما هو في الحقيقة وذهب، ومنه ما يظن به أنه ذهب وفضة، كذلك الأمر في القياسات. وإنما يخفى هذا الصنف من القياس، أعني الذي يوهم أنه قياس، وليس بقياس، على من لم يجرب الأقاويل، ولا اختبرها؛ لأن من لم يجرب الأشياء يشبه الذي ينظر إلى الأشياء من بعد.
فأما القياس بإطلاق، فقد قيل فيه إنه قول، إذا وضعت فيه أشياء أكثر من واحد، لزم عنها بذاتها، لا بالعرض، شيء آخر غيرها اضطراراً. وأما القياس المبكت فهو القياس الذي يلزم عنه نتيجة هي نقيض النتيجة التي وضعها المخاطب. وذلك أنه إذا لزمت عن المقدمات التي اعترف بها المخاطب، فيلزمه عن ذلك أن يكون الشيء بعينه موجوداً كذا، وغير موجود كذا. والتبكيت السفسطائي هو القياس الذي يوهم أنه بهذه الصفة، من غير أن يكون كذلك. وقد يقع مثل هذا القياس لأسباب نذكرها بعد. وأشهر هذه الأسباب هو ما يعرض للمعاني من قبل الألفاظ.وذلك أنه لما لم تكن مخاطبة إلا بألفاظ، أقيمت الألفاظ مقام المعاني، فأوهم ما يعرض في الألفاظ أنه يعرض في المعاني مثل ما يعرض للحساب من الغلط في العدد، في حين إقامتهم العقد في الأصابع مقام العدد، فيظنون أن ما عرض في العقد في الأصابع هو شيء عرض في العدد. وإنما عرض ذلك للمعاني مع الألفاظ، لأن الألفاظ ليس يمكن أن تجعل مساوية للمعاني، ومتعددة بتعددها، إذ كانت المعاني تكاد أن تكون غير متناهية، والألفاظ متناهية. فلو جعلت الألفاظ معادة للمعاني، لعسر ذلك عند النطق بها، أو الحفظ لها، أو لم يمكن. ولذلك اضطر الواضع أن يضع الكلمة الواحدة دالة على معان كثيرة.
وكما أن من كان من الحساب ليست عنده الجملة التي تسمى طرح الحساب فليس يمكنه الوقوف على الصواب من الخطأ في المسائل العددية، كذلك مَنْ لم تكن عنده معرفة بطبائع الألفاظ فهو جدير أن يغلط إن هو تكلم بشيء، وإن هو أيضاً سمعه.
فلهذا السبب ولغيره من الأسباب عرض أن يكون القياس والتبكيت السفسطائي شيئاً موجوداً بالطبع. ولأن كثيراً من الناس أيضاً يحبون أن يوصفوا بالحكمة ويعظموا بتعظيمها من غير كلفة ولا تعب، أو من غير أن يكونوا أهلاً لذلك، إذا كانوا ممن لا يمكن فيهم تعلم الحكمة، كان ذلك سبباً لأن يعتمد هذا الجنس من القول كثير من الناس يراؤون به، ويوهمون أنهم حكماء، من غير أن يكونوا في الحقيقة حكماء، ولذلك سموا باسم الحكمة المرائية وهو الذي يعنى باسم السفسطة والسفسطائيين في لسان اليونانيين. وبيّن أن هؤلاء حرصهم إنما هو أن يظن بهم أنهم يعملون عمل الحكماء، من غير أن يعملوا عملهم. وعمل الحكيم بالحقيقة هو أن يكون، إذا قال، قال صواباً، وإذا سمع كلام غيره ميز الكذب منه من الصواب. وهاتان الخصلتان الموجودتان في الحكيم إحداهما هي فيما يقوله، والأخرى فيما يسمعه. ومن اللازم لمن أراد السفسطائية طلب معرفة هذا الجنس من الكلام. فان بذلك يقوون على أن يراؤوا أنهم حكماء من غير أن يكونوا كذلك. إلا بحسب هواهم. فأما أن هذا الجنس من الكلام شيء موجود، فمعروف بنفسه. وإنما الذي يفحص عنه هنا كم أنواع هذا الكلام السفسطائي، وبكم من شيء تحصل هذه الملكة، وبالجملة: كم أجزاء هذه الصناعة، وما الأشياء التي تتم بها هذه الصناعة. وهذا هو قصد الذي قصد الفحص عنه هاهنا فنقول:
أجناس المخاطبات
إن أجناس المخاطبات الصناعية التي يمكن أن تتعلم بقول أربعة أجناس: المخاطبة البرهانية.
والمخاطبة الجدلية.
والمخاطبة الخطبية.
والمخاطبة السفسطائية.
وهذه المخاطبة إذا تشبه بها مستعملها بالحكماء خصت بهذا الاسم، وإذا تشبه بها بالجدليين، سميت مشاغبية.
فالمخاطبة البرهانية هي التي تكون من المبادئ الأُول الخاصة بكل تعليم، وهي التي تكون بين عالم ومتعلم بشأن أن يقبل ما يلقي إليه المعلم، لا أن يفكر فيما يبطل قول المعلم، مثل ما يفعله السفسطائيون.
والمخاطبة الجدلية هي التي تأتلف من المقدمات المشهورة المحمودة عند الجميع أو الأكثر.
والمخاطبة الخطبية هي التي تكون من المقدمات المظنونة التي في بادئ الرأي.
والمخاطبة المشاغبية هي المخاطبة التي توهم أنها جدلية من مقدمات محمودة، من غير أن تكون كذلك في الحقيقة.
فأما المخاطبة البرهانية فقد قيل في كتاب البرهان؛ وكذلك الجدلية قد قيل فيها في كتاب الجدل؛ والخطبية في كتاب الخطابة.
والتي يقال فيها ها هنا هي المخاطبة المشاغبية، أي المغلطة.
فلنقل أولاً في أغراض هذه المخاطبة. نقول: إن مقصد هذا الجنس من الكلام هو أحد خمسة مقاصد: إما أن يبكت المخاطب.
وإما أن يلزمه شنعة وأمراً هو في المشهور كاذب.
وإما أن يشككه.
وإما أن يصيره بحيث يأتي بكلام مستحيل المفهوم.
وإما أن يصيره إلى أن يأتي بهذر من القول يلزم عنه، مستحيل من المفهوم بحسب الظن.
فهذه الأغراض الخمسة هي التي يؤمها السفسطائيون.
وأشهر هذه الأغراض الخمسة إليهم، وأكثرها مقصوداً عندهم هو التبكيت، ثم يتلو ذلك التشنيع على المخاطب، ثم يتلو ذلك التشكيك، ثم يتلو ذلك استغلاق الكلام واستحالته، ثم يتلو ذلك سوقه إلى الهذر والتكلم بالهذيان.
والتبكيت والتغليط منه ما يكون من قبل الألفاظ من خارج، ومنه ما يكون من قبل المعاني.
والذي يكون من قبل الألفاظ ستة أصناف: أحدها اشتراك اللفظ المفرد، والثاني اشتراك التأليف، والثالث الذي من قبل الإفراد، والرابع الذي من قبل القسمة، والخامس اشتراك شكل الألفاظ، والسادس من قبل الإعجام.
وهذه القسمة تعرف من القياس والاستقراء.
فمثال اشتراك الاسم المفرد قول القائل: المتعلم عالم، لأن المتعلم يعلم، والذي يعلم عالم، فالمتعلم عالم.
ووجه المغالطة في هذا أن لفظة (يعلم) تقال على الزمان المستقبل، وتقال على الحاضر، فهي تصدق على العالم في الحاضر، وعلى المتعلم في المستقبل.
وكذلك قول القائل أيضاً: بعض الشر واجب، والواجب خير، فبعض الشر خير.
والمغالطة في هذا أن اسم (الواجب) دل في قولنا: (بعض الشر واجب) على ما يدل عليه اسم الضروري «ودل في قولنا:» والواجب خير «على ما يدل عليه» المؤثر والشيء الذي ينبغي
وأما اشتراك التأليف فهو أصناف، وذلك أنه قد يكون من قبل التقديم والتأخير، كمن يقول: الشريف هو العالم، إذا أراد أن العالم هو الشريف، فيوهم بتقديم الشريف وتأخير العالم أن المحمول في هذا القول هو العالم، والشريف هو الموضوع.
وقد يكون اشتراك التركيب من قبل تردد الضمير بين معنى أكثر من واحد. مثل قول القائل: ما يعرف الإنسان فهو يعرف، والإنسان الحجر، فالحجر إذن يعرف.
وإنما وقعت هذه المغالطة، لأن لفظ (يعرف) قد يقع على العارف والمعروف.
ومثل قول القائل: ما قال الإنسان إنه كذلك، فهو كذلك، وقال الإنسان صخرة، فالإنسان صخرة.
والسبب في ذلك أن لفظة هو مرة تعود على الإنسان، ومرة تعود على القول.
وقد يكون الاشتراك من قبل الإضافة مثل قولك: أعجبني ضرب زيد. فإنه يحتمل أن يكون زيد مضروباً وضارباً.
وقد يكون من قبل الحذف والنقصان، مثال ذلك أن يقول القائل: إن الذي لا يمشي، يستطيع أن يمشي. والذي لا يكتب، يستطيع أن يكتب. فيكون ذلك صادقاً. فإذا حذفت لفظة يستطيع، فقال: الذي لا يمشي، يمشي؛ والذي لا يكتب، يكتب، أوهم أن الذي ليس بماش ماش، والجاهل بالكتابة كاتب. ويشبه أن يعد هذا في باب الإفراد والتركيب. وذلك أن النقصان هو تصيير المركب مفرداً.
وأما الموضع الذي يكون من قبل إفراد اللفظ المركب، فمثل قولك: سقراط عالم بالطب، فسقراط إذن عالم.
وذلك أنه قد يصدق على سقراط أنه عالم بالطب، وليس يصدق عليه أنه عالم بإطلاق. وإنما كان ذلك كذلك، أنه ليس يلزم إذا صدق القول المركب على شيء أن تصدق أجزاؤه مفردة على ذلك الشيء.
وأما الموضع الذي من القسمة: فهو أن تكون أشياء إذا حملت مفردة على جزاء الشيء صدقت، أو على الشيء بأسره صدقت. فإذا ركب بعضها إلى بعض، كذبت. فيوهم المغالط أنها إذا صدقت مفردة أنه يلزم أن تصدق مركبة. وهو عكس الموضع الأول. فمثال التي تصدق على أجزاء الشيء مفردة، ولا تصدق على كلمه مجموعة، قول القائل: الخمسة منها زوج، والخمسة منها فرد، فالخمسة إذن زوج وفرد. وذلك كذب. فإن الزوجية والفردية إنما صدق كل واحد منهما على جزء من الخمسة غير الجزء الذي صدق عليه الآخر. فإذا حمل على الكل، كان كذباً. ومثال المحمولات التي تصدق مفردة على كل الشيء، ولا تصدق عليه مركبة، قول القائل: أنت عبد، وأنت لي، فأنت عبد لي.
وذلك مما قد يكذب. وأما الموضع الذي من الإعجام فمثل أن يتغير إعراب اللفظ، فيتغير مفهومه، أو يغير من المد إلى القصر، أو من التشديد إلى التخفيف، أو من الوصل إلى الوقف، أو يهمل إعرابه، أو يبدل لفظه وإعجامه. والذي يكون من قبل النقط إنما يكون من قبل المكتوب فقط، مثل ما يعتذر به جالينوس عن «أبقراط» في مواضع انتقدت عليه. وأمثلة تغير المفهوم بتغير الإعراب، أو لإهماله كثيرة موجودة، مثل قول القائل: ضرب ز