قصة حذاء
خاص ألف
2012-03-25
هبت رياح سحرية في إحدى الليالي الحالكة الظلمة على الشرق، ودخلت من نافذة "صاحب الهمة العالية والعقل المستنير" وتغلغلت في أنفه ورئتيه.. في الصباح استيقظ، فوجد نفسه متعاطفاً بشدة مع الفقراء والبسطاء، فأطلق على نفسه لقب "الرجل الثوري"، وراح يبحث عن طريقة للنضال من أجل أن يحصل المظلومون والمعدمون على حقوقهم كافة.
خطب فيهم في اليوم الأول بلغة جزلة: "أيها الكادحون الشرفاء.. من الآن فصاعداً أنا صوتكم المكموم، وظهركم الصلب، وعيونكم الحالمة، ورأس حربتكم في الهجوم على سالبيكم وظالميكم".. لكن معظمهم لم يفهموا ما قاله، ولم يطمئنوا له، وانتظروا أن يشرح لهم ما يقصد.. أما من فهم بعض خطابه فانتظر أن يثبت لهم بالفعل لا بالقول أنه معهم..
سأل في اليوم الثاني نفسه: "لماذا لا يصدقونني؟ لماذا لم يطرق أيٌّ منهم بابي؟"، واستنتج سريعاً أن الشيخ "أبو ماضي" كاتب لهم كتبة سالبة عقولهم، فشن هجوماً علنياً كاسحاً عليه ونعته بأبشع النعوت، وراح يتفنن في شتمه وشتم ربه ومريديه وكتبه الصفراء المتعفنة، لكن الناس "المعثّرين" لم يصفّقوا له أو يُقبلوا عليه، بل إن معظمهم أخذوا يتجنبونه، وبعضهم راح يبصق عليه كلما صادفه!.
في اليوم الثالث، وصل إلى استنتاج جديد: لابد أن الآغا "عبد الغني" متواطئ مع الشيخ ضدي، ليستمر الاثنان في سرقة عقول الناس وجيوبهم..
في اليوم الرابع كمن للآغا على طرف المزرعة، وما إن رآه مقبلاً حتى انهال عليه بالشتائم: "يا لص.. يا حرامي.. يا مصاص الدماء.. أنت واحد رجعي..." وقبل أن يكمل سلسلة الشتائم التي سهر طوال الليل وهو يحفظها، أمسكه الدرك وبعض المرابعين وضربوه، ولولا أنه انسل هارباً من بين أيديهم لسلخوا جلده عن عظمه..
في تلك الليلة جاء بعض الفلاحين والحرفيين العاملين في المزرعة ليطمئنوا عليه، ففرح بهم، وألقى عليهم خطبة عصماء، لكن قبل أن ينهيها كان معظمهم قد غادر..
في اليوم الخامس استنتج أن شيخ الدرك "أبو بسطار" متواطئ مع الشيخ والآغا ضده وضد الناس، فاحتار في أمره، ولم يسعفه تفكيره في الوصول إلى حل لفضحه، فهذا الأخير يملك السلاح والرجال و"العلقة" معه انتحار وليست مرجلة.. وهكذا جلس وقتاً طويلاً حائراً متردداً، يتكلم كثيراً مع القلة التي تزوره، ويفعل القليل.. وكل الاقتراحات "الثورية" التي راح يقدمها له بعض مريديه القلائل بين الحين والآخر كونه رجلاً ثورياً، كان يراها ترهات أو تهوّر حمقى، أو كلاماً في غير أوانه ومكانه، فانفض بعضهم عنه غير آسفين.
بعد سنين طويلة جاءه الفرج من حيث لا يحتسب، فـ"العكيد أبو نجمة" أطاح بـ"أبو بسطار" وبالآغا "عبد الغني" وبالشيخ أبو ماضي بليلة ما فيها ضوء قمر، فاستبشر خيراً، ولكنه ما لبث أن وجد الجميع يتصالحون ويقبّلون شوارب بعضهم بعضاً بعد أن غيّر كل منهم لقبه وحلّته، ويبقونه في قائمة المارقين المطلوبين، ثم المهمشين، فتسلل اليأس إليه بعد أن خرج من المولد بلا حمّص، وبعد أن راح الناس ينفضون عنه أفراداً وجماعات لتخاذله وتردده وقلة حيلته.. ثم ساء وضعه أكثر، فعري وحفي وتهلهل وخفت صوته، ولم يعد قادراً على إثارة القلاقل أو إزعاج أحد بخطاباته الحماسية وشعاراته الكبرى.
رق قلب "العكيد أبو نجمة" وحلفاؤه عليه فقرروا أن يعيدوا النظر بأمره، من جهة ليبقوه تحت أبصارهم، ومن جهة ليضعوه ومن معه تحت إبطهم، وكمبادرة حسن نية دعوه إلى مائدتهم العامرة، فأطعموه بعد أن أعياه الجوع، وألبسوه بعد أن نخر عظامه البرد، وطمأنوه بعد أن كاد الخوف يقتله، وقبل أن ينهض من مكانه أهدوه حذاءً جميلاً ليقي قدميه من أشواك الدروب الوعرة، وليستطيع أن يسير به بثقة من وإلى المائدة المفتوحة كلما تطلب الأمر.
عاد "الرجل الثوري" إلى أصحابه القلائل مزهواً بوضعه الجديد، لكنه لم يجد منهم بانتظاره إلا قلة أكثر خوفاً ويأساً وجوعاً وبرداً وعرياً منه، فلم يبالِ كثيراً، بل عد المنفضين عنه أغبياء وخونة ولا يرون أبعد من أنوفهم.
ومرت سنوات رغيدة، أحس فيها "الرجل الثوري" أن الحياة تكافئه لصبره الطويل ومبادئه العظيمة، فعاش سعيداً مطمئناً ولم يعكر صفوه إلا بعض الأصوات الشاذة التي كانت تعلو هنا أو هناك منددة به.. لكن سمعه كان قد بدأ يخف بالتدريج ونظره يضعف، فظل يعيش في نعيمه الساكن، بينما راح "العكيد أبو نجمة" يبطش بالفقراء والبسطاء ويزج العصاة منهم في السجون دون أن يزعجه أحد، والآغا "عبد الغني" الذي صار اسمه "الرفيق"، يسرق تعبهم بصورة أكثر وقاحة وفجاجة دون أن يعترض أحد، والشيخ "أبو ماضي" يثبط عزائمهم، ويعدهم بجنة السماء ليصبروا على جحيم الأرض دون أن يخرسه أحد!.
ثم حدث الأسوأ.. بدأ "الرجل الثوري" بالتلاشي، فيداه اللتان لم يعد يعمل بهما، أو يضرب بهما، غارتا داخل جسده، ثم غارت عيناه العمياوان، فأذناه الطرشاوان، ففمه الأبكم في رأسه، ثم غار رأسه الكسول كله في جسده، ثم غار عضوه التناسلي - الذي لم ينتصب منذ بدأ عصر المائدة - في الجسد الرخو، ثم غار الجسد كله في القدمين، ثم غارت القدمان اللتان غار بهما الجسد في الحذاء، الحذاء الذي ظل يمشي إلى المائدة طوال سنوات وسنوات دون انقطاع..
في ربيع عام 2011 أطل الربيع.. ربيع الناس الذين كانت مائدة اللصوص قائمة على رؤوسهم وأكتافهم.. وبدأت الأرض تتزلزل، والريح تعصف، والسماء تمطر، والحناجر تصرخ، فاهتزت المائدة بقوة، وترنحت الكراسي، وبدا أن عاليها سيصير واطيها، فأعلن المتحالفون النفير العام واستنفروا قواهم.. فحضر أصحاب اللحى تلامذة "أبو ماضي" يهددون بعقاب الآخرة الذي ينتظر أصحاب الفتنة، وقام أصحاب المال أزلام "عبد الغني" بالتجويع المنظم للمخربين المتمردين، وهب رجال "العكيد أبو نجمة" يقتلون ويأسرون ويشردون المندسين المتآمرين ويدمرون المدن.. أما الحذاء فحضر ليلبسه جميع أولئك الذين أنعموا عليه، فهذا أقصى ما يستطيع فعله... فهو مجرد حذاء.. مجرد حذاء..
[email protected]
08-أيار-2021
08-أيار-2012 | |
07-نيسان-2012 | |
02-نيسان-2012 | |
31-آذار-2012 | |
25-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |