"ميسّي".. قلب هجوم الثورة السورية!
خاص ألف
2012-05-08
خلع "مسعود" الملقب بـ"ميسّي" لباس المدرسة منذ مطلع العام الجاري 2012، والتحق بـ"الجيش الحر"، وانقطعت أخباره كلياً عن عائلته وعن أبناء حيه، ولم يعد أحد يدري إن كان ما يزال حياً، أو أنه انضم إلى آلاف الشهداء الذين ما زالوا يرتقون بالعشرات كل يوم..
تتذكّر أمه "أم سعيد" الآن وهي منثنية على كبدها، كيف احتفلت بعيد ميلاده في أواخر نيسان من العام الماضي.. تتذكر، وتذرف دمعاً سرياً في مطبخها الضيق، لئلا يراها زوجها "أبو سعيد" فيزجرها. وقتها، أي قبل حول كامل، أصرت أن تقيم له حفلاً بمناسبة دخوله عامه السابع عشر، على الرغم من أن هذا التقليد لم يكن متبعاً في هذه العائلة الريفية المتمدنة رغماً عنها، ولم يسبق لأيّ من إخوته الأربعة وأخواته الخمس، وكلهم أكبر منه، أن نالوا هذا الاحتفاء.. لكنها في تلك الأيام ذات الوقائع المباغتة، كانت مستعدة لأن تفعل أي شيء لمنع صغيرها ذي الجسد الهزيل من الاستمرار بالخروج في المظاهرات، وقد جعلت من "الحفلة" التي أقامتها على سبيل الرشوة العاطفية، ودعت إليها جميع أبنائها وبناتها وأصهارها وكنّاتها، مناسبة لكي تطالب الجميع، كلاً على حدة، أن يكلّموا مسعود وينصحوه، بل وأن يهددوه ويتوعدوه إذا لزم الأمر، ليكفّ عن مشاركة أبناء الحي بالتظاهر.
لم تنجح الرشوة، لا الحفلة العائلية بما تضمنته من وعود مغرية بالسفر إلى الخليج للعمل أو إلى أوروبا لإتمام الدراسة أجدت، ولا الانكسارات العاطفية اليومية التي سبقتها وتلتها بكل ما يرافقها من دموع وأدعية وتوسلات، أثمرت عن نتائج..
كذلك لم تفلح التهديدات، لا التلويح بقطع المصروف عن مسعود، ولا التصريح بطرده من البيت، ولا التلميح بتسليمه للجهات الأمنية... ولم يتمكن الأصهار والأخوة الكبار، الحازمون منهم والعقلانيون، ولا الأخوات والكنّات الحريصات، أن يقنعوا مسعود أو يجبروه على الالتفات للدراسة والإقلاع عن الخروج في المظاهرات.. الأب السبعيني أبو سعيد، العسكري المتقاعد، هو الوحيد الذي بقي صامتاً وسط الحملة العائلية التي تواصلت طوال ثلاثة أشهر، ولم يكلّم مسعود في هذا الشأن مطلقاً، لا مع الجوقة الناصحة ولا على انفراد، ولم يقل في الموضوع أية كلمة واضحة الانحياز، وظل يكتفي بترديد الحوقلة كلما دعته النظرات الأنثوية المتسولة للأم والأخوات لممارسة سلطته الأبوية.
انتهت هذه المرحلة المليئة بالضجيج أواخر حزيران 2011.. فقد حضرت دورية أمنية إلى البيت المتواضع القابع في أحد أحياء أحزمة الفقر المحيطة بالعاصمة، وفتشته، وقلبته رأساً على عقب، وحين لم تجد مسعود الذي هرب من البيت لدى وصول الدورية قافزاً من سطح إلى سطح، تركت له رسالة عند أبويه: "قولوا لابنكم السعدان ميسّي يسلّم نفسه، يا أما والله لنسلخ جلده عن عظمه"!!.
لم يتفاجأ الأبوان بالمداهمة المباغتة، بل كانا يتوقعانها في كل لحظة، فلطالما قرأا في عيني مسعود توجّساً غريباً وتحفّزاً جنّيّاً في كل مرة كان يُطرق فيها باب البيت، وخصوصاً في الليل أو في الصباح الباكر، ولم يستغربا اسم "ميسّي" الذي ذكره رئيس الدورية ذو الوجه الكشر، فمنذ سنتين لم يناده أحد من خارج العائلة إلا بهذا الاسم!.
والحقيقة أن مسعود هداف فريقي المدرسة والحي، لم يحصل على لقب "ميسي" جزافاً، أو لتوافق بعض حروفه مع اسمه الأصلي، بل ناله بكل استحقاق قبل ربيع الثورة بربيع واحد عندما سجّل هدفاً بطريقة سحرية في المباراة النهائية لبطولة الأحياء الشعبية، مكّنت فريقه من الحصول على الكأس.. وثبّت مسعود الاسم على نفسه حين اشترى خمس كنزات لفريق برشلونة (بعضها صيفي وبعضها شتوي) تحمل الرقم 10 بعد أن عمل يوماً كاملاً في معمل البلوك الملاصق للحي، وراح يلبسها بالتتالي..
وحين اندلعت الثورة، وانخرط معظم شباب و يافعي الحي بها، كان مسعود، أو ميسي، بكنزته البرشلونية المميزة ذات الرقم 10 على رأس المظاهرات، ولكونه سريعاً ورشيقاً وحاضر البديهة، فقد ظلت توكل إليه المهام الصعبة، فتارة عليه أن يتسلق الأبنية العالية والأشجار الباسقة ليرفع عليها لافتات الثورة، بدءاً من "الله، سورية، حرية وبس"، مروراً بـ"الموت ولا المذلة"، وصولاً إلى "الشعب يريد إسقاط النظام"، وتارة كان يُرسَل إلى رأس الحارة ليستكشف وجود دوريات الأمن وقطعان الشبّيحة بعد اعتماد النظام سياسة قطع الاتصالات، وتارة كان عليه أن يتسلل في الظلام ليملأ الجدران بخّاً لعبارات تندد بالإعلام الرسمي والقمع وصمت العالم. وبعد ظهور علم الاستقلال في الاحتجاجات واعتماده بديلاً للعلم الرسمي، بات عليه أن يتسلّق أعمدة الكهرباء والأبنية الحكومية في كل مظاهرة ليرفع عليها علم الثورة، ملبياً الإيعاز السري لقائد المظاهرة: "ميسّي.. الأخضر من فوق"!.
خلال عدة أسابيع، أصبح البرشلوني السوري صاحب الرقم 10 نجماً تلفزيونياً بفضل كاميرات الهواة وأفلامهم القصيرة المرسلة إلى المحطات الفضائية العربية والدولية، كما أصبح، في الآن ذاته، المطلوب رقم (1) لأجهزة الأمن في هذا الحي المعدم.. وبدءاً من أواخر حزيران من العام الماضي لم تتوقف الدوريات الأمنية عن مداهمة بيت ذويه في مختلف الأوقات، وفي كل مرة كان ينجو بأعجوبة بفضل حدسه العالي وتوثبه الدائم وسرعة هروبه..
مع بدء الموسم الدراسي في الخريف الماضي، أقنعه الأخوة والأقارب وبعض المعلمين أن بإمكانه الالتحاق بالمدرسة دون خوف، فاسمه لم يعد بين المطلوبين بعد العفو الرئاسي، وأنه من الضروري له الالتزام بالدوام في المدرسة وعدم التهاون في الدراسة لأن البكالوريا "بدها هز أكتاف".. فقبل بذلك على مضض، والتحق بالمدرسة بعد أسبوع على بدء الدوام.
بعد مرور أسبوع واحد فقط، وبغفلة من "ميسي" الذي كان ساهماً في أحد دروس اللغة الإنكليزية، اقتحم خمسة عناصر مسلحين الصف، ومضوا نحوه مباشرة، وقبل أن يفكر بالهرب، انقضوا عليه، وانهالوا عليه رفساً ولكماً وصفعاً وشتائم، وسط ذهول وهلع المدرس والطلاب والطاقم الإداري الذي وقف خارجاً.. ثم سيق مدمّىً مغشياً عليه إلى الميكرو سرفيس المنتظر عند الباب الخارجي، فقُذف في أحشائه، ومضت الدورية المؤللة إلى قواعدها منتصرة ظافرة!.
بقي "ميسّي" رهن الاعتقال ستين يوماً، ذاق فيها أشد أنواع التعذيب والإهانة والإذلال والتهديدات، ولم يشفع له صغر سنه، ولا الواسطات التي لجأ إليها الأصهار والأخوة، ولا الأموال المهدورة التي أعطيت لفلان وعلاّن بزعم قدرتهم على إطلاق سراحه.. وحين أخلي سبيله ذات ليلة قبيل رأس السنة، بدا شخصاً آخر.. شبحاً شاحباً لفتى اسمه "ميسّي".. وبدت قسماته أقسى لا ملمح فيها ليفاعته المبتورة، ونظراته أكثر حدة، ووجهه أشبه بوجه بحار عجوز..
بعد ثلاثة أيام، وفي صباح رمادي تماماً، ودّع "ميسّي" أمه وأباه، وغادر البيت صامتاً، ولم يعد إليه حتى الآن..
5/5/2012
08-أيار-2021
08-أيار-2012 | |
07-نيسان-2012 | |
02-نيسان-2012 | |
31-آذار-2012 | |
25-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |