تلخيص السفسطة لابن رشد الأندلسي 2
2006-04-07
القياس المغالطي
قال: والقياس المغالطي منه مرائي ومشاغبي، ومنه سفسطائي.
والمشاغبي: هو القياس الذي يوهم أنه قياس جدلي، من غير أن يكون كذلك بالحقيقة، وهو الذي يتشبه صاحبه بصناعة الجدل، ويطلب به غاية صاحب الجدل، وهي الغلبة.
والقياس السفسطائي: هو الذي يتشبه صاحبه بالمبرهن، فيوهم أنه حكيم، من غير أن يكون كذلك. وهذا القياس أصناف: منه ما يكون من الأمور الكاذبة الخاصة بجنس جنس، وهو الذي حله لصاحب تلك الصناعة، مثل ما فعل رجل من قدماء المهندسين يقال له «بقراط». فإنه لما عمل مربعاً مساوياً للشكل الهلالي، ظن أنه وجد مربعاً مساوياً للدائرة، بأن ظن أن الدائرة تنقسم إلى أشكال هلالية حتى تفنيها.
فهذا الغلط هو خاص بصناعة الهندسة، وحله على المهندس.
ومنه ما يكون من الأمور الكاذبة التي هي أعم من ذلك الجنس، مثل من زعم من المهندسين أنه إذا عمل مربعاً ثم قسم القوس التي تحيط بكل واحد من أضلاع المربع بنصفين، وأخرج منها خطين إلى طرفي الضلع، ثم قسم القوس المحيطة بذينك الخطين بنصفين، وأخرج، وفعل ذلك دائماً، فإنه ينتهي بذلك الفعل إلى أن تنطبق أضلاع الشكل المستقيم الخطوط الذي داخل الدائرة على محيط الدائرة، فيوجد شكل مستقيم الخطوط مساوياً للدائرة. فإن هذا جحد المبادىء التي يستعمل المهندس وهو أن القسمة تمر في الخطوط إلى غير نهاية، وأنه ليس ينطبق خط مستقيم على مستدير.
فهذا القياس هو سفسطائي من جهة تشبه بالمبرهن، وهو مشاغبي من جهة أن مقدماته الكاذبة عامة. ولذلك كان لصناعة الجدل حل أمثال هذه المقاييس. فعلى هذا يكون القياس المشاغبي هو القياس الكاذب الذي تكون نسبته إلى صناعة الجدل نسبة القياس الذي يضع رسوماً وأشكالا كاذبة إلى صناعة الهندسة. لكن الفرق بينهما أنه ليس لصناعة الجدل موضوع محدود، لا عام على ما عليه الفلسفة الأولى، ولا خاص على ما عليه الصنائع البرهانية الجزئية. وقد يظن أنه قد يكون نوع من القياس صادق، إلا أنه إذا استعمل في الصنائع البرهانية على أنه خاص بذلك الجنس، نسب إلى صناعة السفسطة.
وذلك أن البراهين ليس من شرطها أن تكون مقدماتها صادقة فقط، بل وأن تكون مناسبة، وهي الخاصة بذلك الجنس. وذلك مثل ما ربع به بروسن الدائرة. فإنه لما عمل شكلا مستقيم الخطوط أعظم من كل شكل مستقيم الخطوط واقع في الدائرة، وأصغر من كل شكل مستقيم الخطوط محيط بالدائرة، قال إن هذا الشكل هو مساو للدائرة، لأن الدائرة هي أصغر من كل شكل مستقيم الخطوط يحيط بها، وأعظم من كل شكل مستقيم الخطوط تحيط به. وإذا كان شيئان كلاهما أصغر من شيء واحد بعينه، وأكبر من شيء واحد بعينه، فهما متساويان. فإن هذا يوهم أنه برهاني، وليس ببرهاني. فهو مرائي.
فإذن لا يحيط علماً بأنواع القياسات المغلطة إلا من وقف على القياس الجدلي الصحيح والقياس البرهاني الصحيح، وهو الذي مقدماته، مع أنها صادقة، مناسبة. والصناعة البرهانية لما كانت تقتصر على إثبات أحد النقيضين، وهو الصادق، وإبطال النقيض الآخر الذي هو الكاذب. لم يضع مقدماتها من جهة السؤال. لأن المجيب قد يسلم ما ليس هو صادقاً. وأما صناعة الجدل فلما كانت معدة معرضة لأن تثبت كل واحد من النقيضين وتبطله كانت مقدماتها مأخوذة بالسؤال، ولم يكن قصدها تبيين شيء من الأشياء إلا إذا استعملت في تبيين المبادىء الأول مع من يجحدها، على ما تبين في كتاب الجدل.
والصناعة الامتحانية الجدلية تستعمل من أجناس المقاييس السفسطائية الجنس الذي يكون من المقدمات العامة الكاذبة التي ليست بخاصة بجنس من الأجناس، إذ كانت ليس لها موضوع خاص، لأنها جزء من صناعة الجدل. وليس صناعة الامتحان الجدلية، ولا بالجملة صناعة الجدل عند من يتعاطاها، كصناعة الهندسة، وغيرها من الصنائع البرهانية. فإن صناعة الامتحان الجدلية، والجدل نفسه، لما كان ليس لها موضوع خاص، وكانت المقدمات المشهورة مشتركة المعرفة للجميع أمكن أن يشارك العوام ومن لا علم له بصناعة الجدل والامتحان من عنده علم بهذه الصناعة، بخلاف الأمر في صناعة الهندسة، أعني أنه ليس يوجد أحد يشارك المهندس في صناعته. لكنهم وإن شاركوا أهل هذه الصناعة، فمشاركتهم هي مشاركة يسيرة. ولما كانت صناعة الامتحان الجدلي تستعمل التبكيت العام المغالطي من جهة أنها ليس لها موضوع محدود، وكانت هذه الصناعة، أعني السفسطائية، بهذه الحال، لأنه ليس لها جنس مخصوص، فبين أن معرفة المباكتات المغلطة تشترك فيها صناعة الامتحان الجدلي، وصناعة المشاغبية. ويتبين من هذا أنه ليس السفسطائي هو الذي يبكت ويغلط المغالطة الخاصة بجنس جنس من أجناس العلوم البرهانية كما تقدم. وأيضاً فإن صناعة الجدل قد يجب عليها أن تعرف أصناف المباكتات المغلطة العامة ليتحفظ منها، كما يجب على صاحب صناعة صناعة من الصنائع الخاصة أن يعرف أصناف المغالطات التي في تلك الصناعة. ولهذا كله وجب أن تشترك هاتان الصناعتان، أعني الجدل والسفسطة.
فأما من كم وجه وموضع تكون المباكتات السفسطائية فقد تبين ذلك. لكن لما كان قصد هذه الصناعة ليس التبكيت المغالطي، بل وسائر تلك الأغراض التي قيلت، وكان أحد تلك الأغراض الذي هو ثان للغرض الذي هو التبكيت هو سوق المخاطب إلى الكذب الشنيع، أو سوقه إلى الشك والحيرة، فقد ينبغي أن ننظر في الأشياء التي بها تفعل هذه الصناعة هذا الفعل.
وأول المواضع التي يقتدر بها السائل على سوق الكلام إلى التشنيع، هو ألا يجعل سؤاله للمخاطب على وضع محدود ويروم إبطاله بأن ينتج عن وضعه شنيعاً، كما يفعل السائل والمجيب في الجدل، بل يجعل سؤاله لا على وضع محدود، بل كيف ما اتفق، وعلى غير وضع يتضمن المجيب نصرته. فإنه إذا كان الأمر بهذه الصفة، أمكن السائل أن يشنع في وجود المقدمات التي يلزم عن وضعها شنيع ما، لأن المقدمات التي تفعل هذا، لا بالإضافة إلى وضع محدود، أغزر وأكثر من التي تفعلها بالإضافة إلى وضع محدود. وذلك أمر بين بنفسه، لأنه إذا رام أن ينتج الشنيع بحسب وضع محدود ضاق عليه وجود المقدمات التي تسوق إلى القول الشنيع بحسب ذلك الوضع، ولم يمكنه النقل إلى مقدمات أخر، إذا لم يسلم الخصم تلك المقدمات التي بينها وبين الوضع مناسبة. ولذلك إذا سئل السائل المجيب عن أمثال هذه المقدمات كيفما اتفق، أعني التي تلزم عنها الشنعة، فتسلمها المجيب، أنتج عليه من حينه الشنيع. وإن امتنع من تسليمها - مثل أن يسأله موجبة، فيسلم سالبة؛ أو يسأله السالبة، فيسلم الموجبة - فإنه يمكن أن ينتقل معه في السؤال إلى أن يعثر على ما يسوقه إلى التشنيع مما يسلمه. لكن المجيب في هذه الحال هو أوضح عذراً، لأن له أن يقول إن هذا الشنيع لم يلزم مما سألت عنه أنت، وإنما هو شيء وقع في أثناء القول، ولكن لا ينفك بهذا من أنه قد سلم شنيعاً، أو ما يلزم عنه شنيع.
أن الموضع الذي من شأنه أن يسوق إلى الشنيع هو ألا يكون السؤال أو الجواب على وضع محدود. فمتى لم يشعر المجيب بتغليط هذا الموضع، ولم يتحفظ منه، تم عليه السوق إلى الشنيع، وإن تعسر في موافقة السائل في كثير مما يسأله. وقد تسهل موافقة المجيب للسائل إذا استعسر عليه بأن يخرج سؤاله مخرج سؤال المتعلم للمعلم، وهو مع هذا يضمر الغلبة، كما قيل في كتاب الجدل. لكن إنما يكون هذا نافعاً في بعض المواضع، دون بعض، على ما قيل هنالك. فإذن ملاك الأمر في تبصير الكاذب الشنيع الذي يلحق من هذا الموضع والتحفظ منه إنما هو الشعور به، أعني بهذا الموضع.
وموضع ثان: وهو أن يعمد إلى الأمور الشنيعة التي في جنس جنس من أجناس العلوم فيحصيها وتكون عنده عتيدة. فإذا خاطب بعض من هو من أهل تلك الصناعة، ألزمه تلك الأمور الشنيعة التي في صناعته. وكذلك أيضاً يجب عليه أن يحصي ما هو شنيع عند أمة، أو عند الأكثر، فيجد السبيل بذلك إلى الشنيع على الخصم. وأصل هذا كله أن يتعمد الشنيع الذي يخص تلك الأمة الذي المخاطب منها، أو أهل تلك الصناعة الذي المخاطب منها.
والنقض الملائم لهذه المواضع الذي يبصر الكذب الذي فيها أولاً هو أن يعرف المجيب الخصم أن ما ألزمه من الشنيع أنه ليس يلزم مما سلمه. وإنما يمكن أن يفعل ذلك إذا أخذ السائل ما ليس بعلة للنتيجة على أنه علة. وأما متى لم يكن أخذ علة ما ليس بعلة، فليس يمكنه مناقضته.
لكن للمجيب بعد ذلك أن يتأمل ذلك الشنيع هل هو مما هو شنيع عند القول به، أو مما هو شنيع عبد الطبع. فإن كثيراً ما تتقابل المحمودات في القول مع المحمودات بالطبع. لأن الجمهور يقولون كثيراً أحسن ما يكون من القول الذي ينحو نحو الجميل، وأعمالهم مصروفة إلى الأمور النافعة التي ليست بجميلة، مثل ما يقولون كثيراً: إن الموت مع صلاح الحال أفضل من الحياة مع الشر؛ وإنه أن يكون المرء مع العدل محتاجاً آثر من أن يكون غنياً بالجور، وهم مع هذا يؤثرون الحياة مع الشر، والغنى مع الجور.
فيجب علينا متى ألزمنا الشنيع الذي بحسب القول أن نقابله بأنه محمود عند الطبع؛ وإن ألزمنا الشنيع بحسب الطبع قابلنا ذلك بأنه محمود بحسب الاعتقاد والقول.
وقد يوجد هاهنا موضع واسع كثير المنفعة في مقاومة هذا الجنس من القول: وهو أن المحمودات عند الشريعة كثيراً ما تضادها المحمودات عند الطبيعة. فينبغي للذي يشنع عليه بمقابل المحمود الشريعة أن يقابل ذلك بأنه محمود عند الطبيعة. ومن شنع عليه بالمقابل المحمود عند الطبيعة أن يقابل ذلك بأنه محمود عند الشريعة. فإنه كثيراً ما تتضاد المحمودات بالطبع مع المحمودات بالشرع، فتنقض كل واحدة منهما من حمد صاحبتها. لكن المحمودات بالطبع هي محمودات من قبل صدقها، والتى بالشرع هي محمودات من قبل أنها المعمول بها عند الأكثر، أي المشهور.
فقد تبين أنه كما أن لهؤلاء أن يناقضوا الأمور الشنيعة التي ينتجها عليهم التقابل من هذه المواضع، كذلك للسائلين أن يضطروا المجيب من المواضع التي ذكرناها، إما إلى التبكيت، وإما إلى الإقرار بالشنيع.
وقد يكون من مفردات المسائل ما يتفق فيها أن يلزم السائل المجيب الشنيع بأي المتناقضين أجاب. والمواضع التي تفعل هذا هي التي تسوق المخاطب إلى الشك والحيرة، وهو الغرض الثالث من أغراض السفسطائيين، مثل قول القائل: أي ينبغي أن نطيع أكثر: الحكماء أم الآباء؟ فإن قيل (الآباء)، قيل فمخالفة ما تقتضيه الحكمة واجبة. وإن قيل (الحكماء)، قيل فعصيان الوالدين إذن واجب. وكذلك هل ينبغي أن نؤثر ماهو عدل أم ما هو نافع. ومثل هل أن تُظلم آثر من أن تظلم، أم الأمر بالعكس. وبالجملة: فإن هذا النحو من الحيرة يلحق جميع الأشياء التي تتضاد فيها آراء الحكماء مع آراء الجمهور والأكثر. مثال ذلك: أن الحكماء يرون أن الملوك السعداء هم العدول، والجمهور يرون أن السعداء هم المظفرون. وقد يمكن أن يقال إن التضاد الذي في هذا الجنس هو راجع إلى التضاد الذي يلفي بين المحمودة بالطبيعة والمحمودة بالسنة، لأن الذي عند الحكماء والذي عند الطبيعة هو محمود من أجل أنه صادق، والذي عند الشريعة وعند الأكثر هو محمود من أجل أنه مشهور، وأن عليه الأكثر.
فمن هذه المواضع ومن أشباهها ينبغي أن يطلب وجود هذه المقدمات الشنيعة، وهي التي يسميها أرسطو (الناقصة الإقرار).
فأما من أين يمكن صاحب هذه الصناعة أن يلجىء المتكلم إلى التبكيت، أو إلى الهذر والتشنيع عليه بذلك، وهو الغرض الرابع، فذلك يعرض للذين ليس عندهم فرق، ولا اختلاف، بين أن يؤتى بالشيء من حيث يدل عليه اسم مفرد، أو من حيث يدل عليه بذلك الاسم مع بعض ما يدل عليه ذلك الاسم: إما على طريق اللزوم، وإما على جهة التضمين، حتى يأتي مجموع ذلك في صورة القول المركب. وذلك يعرض كثيراً في المضافات وفي حدود الأشياء التي قوامها في موضوع ما، ويؤخذ ذلك الموضوع جزء حدها، فيعرض من ذلك إما أن يبكته ويلزمه الإقرار بالقول الكاذب، وإما أن يهذر في كلامه. مثال ذلك في المضاف أن يقول: إن كان ما يدل عليه قولنا (ضعف) هو ما يدل عليه قولنا (ضعف النصف)، لأن الضعف إنما هو ضعف للنصف، وكان النصف ضعفاً، فالضعف ضعف. فإما أن يقول إن الضعف ليس هو ضعفاً للنصف، وإما أن يقول إن الضعف هو ضعف، وذلك هذر. فإن الجزء لا يكون جزءاً عن نفسه.
ومثل أن يقول: إن كانت الشهوة إنما هي شوق إلى اللذيذ، والشوق إلى اللذيذ شهوة، فالشهوة إذن شهوة.
وإنما عرض هذا من قبل أن هذين من المضاف. فإن الضعف إنما هو ضعف لشيء، والشهوة شهوة لشيء. وكذلك يعرض في أمثال الأشياء التي وجودها في النسبة. وأما الأشياء التي تلجىء المخاطب إلى الهذر في حدودها، فليست هي من المضافات، وإنما هي من ذوات الكيفيات، وذلك أن الموضوعات لهذه يأخذونها مرة مع الحدود، ومرة في الحد، فيعرض من ذلك أن يكرر الشيء الواحد مرتين. مثال ذلك أنهم يقولون: إما ألا يكون الأنف الأفطس هو الأنف العميق، وإما أن يكون الأنف الأفطس هو الأنف العميق، فيكون الأنف هو الأنف. وذلك هذر.
وكذلك إما ألا يكون الفرد هو العدد الذي ليس ينقسم بقسمين متساويين، وإما أن يكون الفرد هو العدد الذي ليس ينقسم بقسمين متساويين، فيكون العدد هو العدد. وذلك هذر.
وربما لحق الاسم المفرد مثل هذا من غير أن يؤخذ مركباً، مثل قول القائل: (يا هذا، هل يدل الضعف على شيء)؟ فإن كان دالاً، فإما أن يدل على شيء ليس هو ضعفاً، وإما أن يدل على ضعف. لكن إن دل على ضعف، كان الضعف نفسه ضعفاً، وذلك هذر، وإن دل على غير ضعف، فالضعف ليس بضعف.
قال: وأما سوق المجيب إلى أن يتكلم بكلام يظن به أنه مستحيل الدلالة، من غير أن يكون كذلك، فإنما كانت أكثره، إلا اليسير منه، من الألفاظ المشتركة الأشكال للمذكر والمؤنث. وما ليس بمذكر ولا مؤنث. وهذا خاص بلسانهم. فإنه كانت لهم أشكال خاصة بالمذكر والمؤنث، وأشكال لما ليس بمذكر ولا مؤنث. وهذه ربما دل بها عندهم على المذكر والمؤنث. وهذا هو الغرض الخامس من أغراض السفسطائيين. وينبغي أن نتأمل في لساننا المواضع التي يعرض فيها مثل هذا العرض. فإنه يشبه أن يكون هذا مشتركاً لجميع الألسنة، وهو المسمى عندنا عياً.
والعيّ منه ما هو عيّ بالحقيقة، وهو الكلام المستحيل المفهوم، ومنه ما هو عيّ في الظن وهو الذي ينبغي أن يفصح هاهنا عن مواضعه.
قال: فقد تبين من هذا القول أجناس المواضع المغلطة في غرض من الأغراض الخمسة السفسطائية، وأنواع تلك الأجناس. والذي بقي من تمام هذه المعرفة هي ثلاثة أشياء: أحدها: أن يقال كيف ينبغي لمن يريد العمل بهذه المغلطة أن يجيد السؤال؟ فإنه ليس الفرق بين فعل هذه المواضع، إذا أجيد العمل بها، وإذا لم يجد، بيسير، وسواء كان ممتحناً أو مغالطياً.
والثاني: كيف ينبغي أيضاً أن يجيد الجواب من كان مزمعاً أن يتحفظ من هذه المغالطات؟
والثالث: كيف ينبغي أن ينقص كل واحد من تلك المواضع الثلاثة عشر؟
فأما أولاً: فإن التغليط يكون أبلغ إذا قصد تطويل الكلام عند استعمال تلك المواضع. فإنه يكون ما فيها من التغليط أخفى على السامع.
وثانياً: أن يسأل مستعجلاً، لا متثبطاً. فإنه إذا استعجل في القول، كان التغليط الذي فيه أخفي وأحرى ألا يوقف عليه.
وثالثاً: أن يغضب المجيب. فإنه إذا غضب، اختلط فهمه، فلم يفهم شيئاً. والغضب إنما يثيره أكثر ذلك أن يصرح ويعلن قصوره وقلة فهمه.
ومنها: أن يسأل عن المقدمات التي يروم المغالطة بها مبدلة الترتيب من موضعها من القياس، مخلوطة بالمقدمات المشهورة التي يلزم عنها نقض ما يروم إنتاجه على المجيب. فإن هذا الفعل مما يخفيها، فلا يفطن لها، فتسلم. وذلك أنه إن كانت المقدمات التي يروم المغالطة بها شنيعة غير محمودة الصدق، استترت بخلطها بالمشهورات. وإن لم تكن شنيعة، فقد يعلم من أي يروم تسليم الشنيع وحده، إذ كان مفرداً، إذ كان عسيراً ما يسلم. ومثال ذلك: من فعلة من يروم استعمال السموم بخلطها بالأغذية لتخفى. وأيضاً فإنه يخفى على المجيب من أيها يروم الإنتاج؟ فيتحير في معرفة ما يسلم منها مما ليس يسلم.
ومنها: أن يسأل عن نقيض الشيء الذي يروم تسليمه، ليكون المجيب، إذا لم يسلم له ذلك وتعسر عليه، فقد سلم له الشيء الذي قصد تسليمه منه.
ومنها: أن يسأل مصرحاً بطرفي النقيض كأنه لا يبالي بأيهما أجاب المجيب، فإنه بهذا الفعل يخفي على المجيب أي النقيضين يقصد تسليمه، فربما سلم مقصوده إذا لم يعلمه.
ومنها: أنه إذا استعمل الاستقراء ألا يضع وجود الحكم لجزئيات الشيء الكلي الذي يروم تصحيحه على جهة السؤال، بل يضع جميع الجزئيات على أن وجود المحمول أمر واضح لها، وأنه مما لا يحتاج إلى سؤال في وجود ذلك المحمول لجزئيات ذلك الشيء الذي يرام إثبات المحمول بكليته بالاستقراء. وإذا أتى بجملة تلك الجزئيات كأنه قد سلمها المجيب، فليتبع ذلك بتصحيح الكلية وهو وجود ذلك المحمول لكل ذلك الموضوع، من غير أن يسأل عن لزوم الكلية من قبل وجود المحمول لجزئيات الموضوع. فإنه إذا فعل ذلك، ربما تعسر المجيب عليه، فلم ينتفع بالاستقراء الذي وضعه. وإذا كان ذلك الكلي له اسم، وخاف - إذا صرح باسمه - ألا يسلم له وجود الكلية، فينبغي أن ينقل الحكم من الجزئيات إلى الشبيه الموجود لها، لا إلى اسم ذلك الشيء الكلي المحيط بالجزئيات.
واستعمال المثالات المتشابهة بالجملة يضلل كثيراً، لأنه ينقل الحكم من بعضها إلى بعض.
ومنها: أن يسأل عما يظن به أنه طرفا ضد ليس بينهما متوسط، وليس الأمر كذلك. فإذا رفع له المجيب الشنيع منهما إلى جنب المحمود، سلم له المحمود، وذلك أن الشنيع منهما يظهر قبحه كثيراً عندما يوضع بجنب الضد الآخر. وكذلك المحمود يظهر حمده أكثر. مثل أن يسأل: هل ينبغي أن يطيع الآباء في كل شيء، أو يعصيهم في كل شيء؟ فإنه إذا قال: ليس ينبغي أن يعصى الآباء في كل شيء، ألزمه عند ذلك أنه يجب أن يطيع الآباء في كل شيء. وكذلك إذا سأل: هل المحرم الشراب الكثير، أم القليل؟ فأجاب هو بأن الكثير محرم، ألزمه من ذلك أن يكون القليل غير محرم. وأكثر ما يعرض التغليط في السؤال ويظن به أنه قد انعقد التغليط، وقد ثبت، بأن يسألوا عن أمور ليس بينها اتصال وبين النتيجة. فإذا سلمت لهم، أتوا بالنتيجة كأنها قد لزمت عن تلك الأمور، ويوهمون أن ذلك شيء قد فرغ منه، وأن الخصم قد بكت وانقطع. فإن هذا لا يقدر على حله ومقاومتهم فيه إلا العارف بطبيعة القياس، القليل الانفعال عن مباهتتهم ومجاهرتهم بأنهم قد ألفوا القياس من غير أن يؤلفوه. وإنما كانت الحيلة معهم في هذا الموضع عسيرة إلا على الحكماء، لأن أكثر السامعين لا يعرفون طبيعة القياس.
ومن حيل السائلين أنهم إذا سألوا عن مقدمة كاذبة ليبكت منها المجيب إذا سلمها، اضطروه إما أن يسلمها ويسوقوه إلى الشنيع، أو إلى أن يسلم المقدمة أو القول المركب من المقدمات بحال يمكن فيها أن يحرف فيلزم عنها التبكيت.
وربما نفعهم في هذا استعمال الاستدراجات التي تستعمل في الخطابة مع السامعين، أعني ليسلموا الشيء بالجهة التي بها يظن أنهم قد سلموا المطلوب منهم، فيحرفوه، ويعقدوا عليهم التبكيت، مثل أن يسلموا الشيء مطلقاً، فيحرفوه ويضعوه بشرط ما.
ومن حيل المجيب أنه إذا لزمه التبكيت، أو قارب أن يلزمه، أوهم أنه سائل، وأنه ليس بمجيب. وهذا كثيراً ما يفعله الناس بالطبع عند المناظرة التي يقصد بها الغلبة.
ومن الحيل للسائل أنه إذا سأل عن مقدمات كثيرة، فسلم المجيب بعضها ولم يسلم بعضاً، وكان ما لم يسلم منها يلزم عنها التبكيت لو سلمها، أن يأتي بجميع تلك المقدمات دفعة ويردفها بالنتيجة. فإن المجيب قد يعرض له أن يتحير، لأنه كثيراً ما ينسى التي سلم بها من التي لم يسلم.
ومن الحيل لهم أن يخلطوا في المقدمات التي تنتج التبكيت ما ليس له غناء في إنتاج التبكيت، فتخفى لذلك المقدمات الكاذبة على المجيب. لكن المجيب إذا كان له شعور، لم يكن هذا معه ومنه من ذلك.
فمن الحيلة للسائل أن يتطرق إلى إدخال ما ليس له غناء في إنتاج النتيجة بين ما له في ذلك غناء بوصلة تقيم عذره في ذلك، مثل أن يذكر الأمور اللاحقة لتلك المقدمة، والأمور المتقدمة عليها، والمقارنة لها.
ومن الحيلة للسائل إذا أعياه أن ينتج عليه الكاذب الذي يقصد إنتاجه أن ينصرف إلى إبطال نقيضه وينقل الكلام إليه، إن كان يروم من أول الأمر إثبات شيء معين، أو أن ينصرف إلى إثبات نقيضه، إن كان يروم إبطال وضع موجب.
ومن الحيلة لهم أنهم ربما تركوا السؤال عن المقدمات، وأتوا بالقياس مع النتيجة كأنه شيء قد سلمه المجيب. فإن حيرة المجيب تكون حينئذ أشد، لأنه ينبغي له حينئذ أن ينظر في جميع مقدمات القياس وفي شكله، فيرد على ذهنه أكثر من شيء واحد مما يجب أن ينظر فيه، فربما تحير، أو خفي عليه الجزء الكاذب بما هنالك من الجزء الصادق.
فقد تبين من هذا كم هي المواضع المغلطة النافعة في أغراض المشاغبين الخمسة، وكيف ينبغي أن يسأل السائل بها، وهما الجزءان الأولان من هذا الكتاب بحسب غرض أرسطو.
والذي بقي من ذلك أمران: أحدهما: كيف يجيب المجيب؟.
والثاني: كيف ينقض تلك المواضع الثلاثة عشر؟.
وكلا هذين الأمرين نافعان عند الحكماء بالذات، ولذلك كان الكلام في هذين الجزأين كأنه من غير هذه الصناعة، بل من صناعة الجدل، أو من صناعة - كما يقول أبو نصر - متوسطة بين الجدلية والسفسطائية.
وأما الجزءان الآخران فينفعان الحكماء بالعرض من جهة أنهما خاصان بهذه الصناعة. وانتفاعهم بها يكون من جهة أنها تفيدهم التحفظ منها فقط، لأن من علم الشر، كان أحرى ألا يقع فيه. وربما نفعهم بالذات في استعمال المخاطبة الامتحانية العامة، على ما تقدم.
فأول وصايا المجيب: أنه إذا سأله السائل عن مقدمة مشتركة الاسم فينبغي أن يقسم ذلك الاسم إلى جميع المعاني التي يقال عليها، ويعرفه أي من تلك المعاني هو الصادق، ومن غير الصادق. ولذلك يجب أن تكون له قدرة على تقسيم الاسم المشترك. وقد قيل في القوانين التي بها يمكن ذلك في كتاب الجدل.
وثانياً: أن يتأمل الأمر في نفسه، وحينئذ يجاوب. ولذلك يجب أن تكون له قدرة على تمييز الشيء، إذا فكر مع نفسه. لأن كثيراً من الناس يغلط في الشيء إذا نظر فيه مع نفسه، ولا يغلط، إذا نظر في الشيء مع غيره، وذلك لحسن ظنه بنفسه. وأكثر ما يعرض له ذلك من قبل المدح.
والوصية الثالثة: ألا يطول الكلام مع السائل، بل يبادر إلى قطعه سريعاً من غير أن يتوانى في مراجعته. فإنه إذا توانى في ذلك وطول معه الكلام، لقلة عثوره سريعاً على القبح والغلط الذي في قوله، عرض له، إذا انقطع السائل، أن يظن أن انقطاعه لم يكن من قبل أن ما رام إثباته كذب، بل من قبل ضعفه. وهكذا، فيما أحسب، يجب أن يفهم هذا الوضع.
وليس يحصل هذا المعنى للمجيب، أعني أن يسرع في الجواب بإظهار ما فيه من الضلالة، بمعرفة المواضع المغلطة التي ذكرت في هذا الكتاب، وبمعرفة الوصايا التي تخص المجيب والقوانين التي أعطيت هاهنا في نقض المواضع المغلطة، دون أن يكون مع ذلك قد ارتاض في استعمالها كثيراً، حتى حصلت له الملكة التي بها يقدر أن يفعل بسرعة. فإنه كما أن السرعة والبطء في جميع الصنائع إنما تحصل من قبل الملكة الحاصلة عن الارتياض، لا من قبل معرفة أجزاء تلك الصناعة فقط، كذلك الأمر في العمل عن هذه القوانين. ومثال ذلك: أن إجادة فعل الكتابة وإتقانه ليس يحصل عن معرفة الحروف، وإنما يحصل عن الارتياض التام في تصور الحروف.
قال: وكما أن في صناعة الجدل قد يتعسر على السائل النقيض والإبطال، كذلك قد يعرض مثل ذلك في المباكتات السفسطائية. وذلك يعرض إذا لزم عن المقدمات الكاذبة التي وضعها المشاغب نتيجة صادقة، وأوهم أن اللازم عنها نتيجة أخرى وهي كاذبة. فإنه إذا كان القول السفسطائي بهذه الصفة عسر على المجيب نقضه بالحق، وتعريف كذب المقدمات التي وضع فيه المشاغب، لأمرين:
أحدهما: إن قصد نقض تلك النتيجة الكاذبة بتعريف ما في تلك المقدمات من الكذب، كان ذلك نقضاً سفسطائياً أو مشاغبياً، لأن تلك النتيجة لم تلزم عن تلك المقدمات.
والثاني: لأن لا يظن به أنه إنما يقصد بذلك إبطال النتيجة الصادقة، وأنه يرى ألا يكون عن المقدمات الكاذبة إلا نتيجة كاذبة. فلذلك يجب على المجيب في هذه الحال ألا يتعرض لنقض القياس بأن يعرف الكذب الذي في مقدماته من قبل اشتراك الاسم، أو من قبل المشاغبة، أو من غير ذلك من الأشياء المغلطة. ولا يظن به أنه يتعرض ذلك. لكن يرد عليه بأن يقول له إن هذه النتيجة ليست هي النتيجة الصادقة التي لزمت عن هذا القياس، وإنما تشبهها، أو ليست بلازمة أصلاً عنه.
قال: وقد يجوز للمجيب أن يسلم المقدمات المشتركة الأسماء إلى أن ينتج السائل عليه النتيجة الكاذبة، فيقول له: إن تلك المقدمات التي سلمتها إنما أردت منها كذا، دون معنى كذا. والمعنى الذي أنكره الآن منها ما سلمته فقط. وإنما كان له هذا الفعل لأنه ليس بمعروف، ولا بين، أنه قد سلم المعنى الكاذب الذي هو أحد ما يدل عليه بذلك اللفظ المشترك من قبل تسليمه اللفظ المشترك. وربما كان له هذا أنفع لمكان الغلط، لأنه لو قسم ما يدل عليه الاسم المشترك، أو اللفظ المشاغب، ثم غلط فسلم واحداً منها على أنه صادق، وهو كاذب، لم يكن له أن يرجع في ذلك.
فإذن من فعل هذ الفعل من المجيبين وأجاب في الأسماء المشتركة والألفاظ المشاغبية بنعم أو لا، فقد فعل فعلاً يجوز له. لكن لما كان من لم يعلم هذا الذي قلنا قد يظن أنه إذا سلم الاسم المشترك أنه قد سلم جميع المعاني التي يقال عليها ذلك الاسم. وإن كان لا يلزم ذلك. فربما مانعه من التقسيم بعد إنتاج النتيجة، ورأى أنه قد بكته فيحتاج معه إلى بيان أنه لم يبكته. فلذلك الأحزم له، أعني للمجيب، إذا سأل السفسطائي باسم مشترك، أو لفظ مشاغبي، أن يقسم المعاني الكثيرة التي يدل عليها ذلك اللفظ، ويجيب في واحد واحد بنعم أو لا. وإذا تعسر السائل، وظن أنه قد يكون تبكيت من قبل ذلك اللفظ المشترك الذي جاء به، أو من قبل المشاغبة، وأنكر أن يكون مشتركاً، فالحيلة المخلصة معه أن يضع اسماً لذلك المعنى الذي يزعم المجيب أنه كاذب، وأنه غير المعنى الصادق الذي يدل عليه ذلك اللفظ.
قال: وما كان يرى بعض الناس من أن الحيلة في هذا أن يقرن لفظ (هذا) إلى الاسم، فإن (هذا) إن كان إشارة لما في النفس من ذلك المعنى، فتلك الإشارة مشتركة. لأن جميع تلك المعاني التي يدل عليها اللفظ هي حاضرة في الذهن. إلا أن تكون لفظة (هذا) يقرنها بمشار إليه محسوس. وإذا كان ذلك، فقد استغنى عن اللفظ والتسمية بالإشارة.
قال: وكذلك إذا كان السؤال مرسلاً، وهو إنما يصدق بتفصيل، فليس ينبغي أن يجاب بنعم أو لا.
حتى إذا تم التبكيت، قال: إنما أردت بقول نعم ذلك المعنى المقيد، لا المطلق، فإن ما يلحق في ذلك إذا أجاب عن الاسم المشترك بنعم أو لا، دون أن يقسم المعاني التي يقال عليها الاسم المشترك، هو بعينه يلحق في هذا، وفي جميع المواضع التي إذا قسم لم يعرض له مباكتة، ولا يظن أنه عرضت له.
فمن أجل أنه معروف بنفسه، إذا قسم المجيب المشاغبة، وسلم منها ما سلم، هل بكت أو لم يبكت؟
فهو إذا أجاب عن المرسلة بقول مطلق فهو مخطىء، لأنه يعرض نفسه أن يشك فيه هل بكت أم لا؟ وإن لم يبكت في الحقيقة.
وكثيراً ما يعرض للمجيب أن يتشاغل عن القسمة لكثرة المعاني التي يتضمنها ذلك القول المرسل، ولما يعرض له عند ذلك من تعسر السائل وقلة موافقته على التقسيم الذي استعمله فيه، فيتساهل ويجيب فيها بجواب مطلق. فإذا عقد السائل عليه التبكيت، فشرع المجيب أن يفصل له ذلك القول، ويعرفه أنه لا يلزمه من ذلك ما ظن أنه يلزمه، لم يوافقه السائل على ذلك، إذا لم يعلم أن الغلط دخل من ذلك الموضع الذي عرفه به المجيب، ولا وافقه على أن ذلك الموضع مغلط. فيعرض في المجيب شك هل بكت أو لم يبكت. فلذلك أيضاً ليس ينبغي أن يتشاغل عن القسمة في المواضع التي يدخل الخلل فيها من قبل إغفال القسمة.
وكما أنه ليس يجب أن يجيب عن مسألتين بجواب واحد، فكذلك ليس يجب أن يجيب أحد عن الاسم المشترك بجواب واحد. فإنه لا فرق بين أن يجاب عن مسائل كثيرة بجواب واحد، كانت تلك المسائل يدل عليها بلفظ واحد أو بألفاظ كثيرة. فإن الاسم المشترك هو سؤال عن مسائل كثيرة بلفظ واحد.
وكذلك من لم يجب عن مسألتين فما فوقها بجواب واحد واعتاد ذلك فليس يقع له غلط من قبل الاسم المشترك والمشاغبة اللفظية. ولا أيضاً يجب على المجيب أن يجيب عن الاسم المشترك بجواب واحد، إذا كانت جميع المعاني التي تقال عليها تلك القضية المشتركة صادقة. فإنه لو كلف المجيب أن يجيب عن الجوابين فما فوقهما بجواب واحد، إذا كانت كلها تشترك في نعم أو لا، لكلف إذا سئل عن ألف مسألة أو ألوف من المسائل ألا يجيب عنها حتى يتأملها. فإن اشترك في نعم أو لا، أجاب فيها بجواب واحد. وإن لم تشترك، فصل. وهذا شيء معلوم أنه لا يكلفه المجيب. فلذلك ليس يجب على المجيب أن يجيب عن الاسم المشترك بجواب واحد، ولو كانت جميع القضايا المعنوية التي يتضمنها الاسم المشترك كلها صادقة. وإنما يجب عليه أن يجيب عما سئل. وهو لم يسأل إلا عن واحد. لأنه ليس في ضمير السائل، إذا سأل بالاسم المشترك، إلا معنى واحد. ولو كان في ضمير السائل جميع المعاني التي يتضمنها الاسم المشترك، لكان قد كلف المجيب أن يجيب بجواب واحد عن مسائل كثيرة.
قال: ولأن من المشهور أنه قد لا تكون هنالك مباكتة، ويظن أن هناك مباكتة، وأنه قد لا يكون هنالك نقيض، ويظن أن هنالك نقيضاً، وأنه يجب أن يراجع هذا الظن، فمتى سلم المجيب جميع ما يسلمه للسائل على أنه يظن ذلك ظناً، كان له، إذا بكته، أن يراجع فيما سلم، ويقول: له إنما سلمت تلك المقدمات، وأنا أظنها، رجاء أن تكون من جنس المظنونة الصادقة. فأما الآن فقد ظهر أنها من جنس المظنونة الكاذبة. ومتى فعل المجيب هذا. لم تتم عليه مباكتة، ولا أنتج الخصم عليه شنيعاً.
ولذلك ما يجب عليه أكثر ذلك، إذا سلم مقدمة ناقصة الحمد، أن يسلمها على جهة الظن. فإنه ليس يقدر السائل أن يشنع عليه، إذا كان تسليمه لها على جهة الظن.
قال: فأما إذا سأل السائل على جهة المصادرة، فكان ذلك بيناً ومعروفاً عند المجيب، فينبغي أن يبادر ويعرفه أن ذلك الذي وضع هو مطلوبه، وإن خفي ذلك عليه حتى ينتج المطلوب نفسه. وأما الآن فقد ظهر أنه المطلوب. فأنت، يا هذا، لم تؤلف قياساً، ولا عملت شيئاً. وهبك أني سهوت فسلمت ذلك، فما الذي تنتفع أنت به، إذ قد ظهر أنك لم تعمل شيئاً، ولا ألفت قياساً. فإن استعمل المصادر مكان موضوع المطلوب جزئيات على طريق الاستقراء، إلا أنه لم يأخذ كلي ذلك الموضوع من حيث يدل عليه اسمه، حتى يقول مثلا: إن كل حيوان يحرك فكه الأسفل، لأن جميع الحيوانات هكذا هي، بل قال مثلاً إن كل حيوان يحرك فكه الأسفل، لأن الإنسان والقرد وما أشبهه من سائر الحيوانات تحرك فكها الأسفل، فللمجيب حينئذ إن سلم له هذا ثم أنتج عليه: أن كل حيوان يحرك فكه الأسفل، أن يقول له: لم أرد بتسليمي أن حكم ما أشبه الإنسان والقرد في ذلك هو حكم جميع الحيوانات، لأنه لو كان ذلك، لكنت سلمت المطلوب بعينه، بل إنما أردت نوع كذا من الشبه، ولم أرد نوع كذا.
قال: وأما الأسماء التي تقال حقيقة في موضع، ومجازاً في موضع آخر، فإنه قد يعرض فيها مغالطة. وذلك أن صدق دلالة الاسم في موضع الحقيقة، وارتفاع الاشتراك عنه يوهم صدقه في موضع الاستعارة وارتفاع الاشتراك عنه. مثال ذلك أن يقول قائل: ماهو لشيء فهو ملك له، لأن ما هو لزيد فهو ملك له، والإنسان هو للحيوان، فالإنسان ملك للحيوان. فلذلك يجب على المجيب في مثل هذا الموضع ألا يجيب عن هذه القضية مرسلة حتى يقسم، أعني قول القائل: (إن ما هو لشيء، فهو ملك له).
قال:
وليس ينتفع المصادرون على مقابل المطلوب، ولا بالجملة: السائل عن النقائض والمتقابلات التي لا يكون الجزء الصادق منها معلوماً بنفسه، أو يكون معلوماً بشرط، فأهمل في السؤال أخذ ذلك الشرط، لأنه إذا كان الجهل بالمتقابلين على السواء، فليس يسلم المجيب له النقيض الذي رام السائل أن يتسلمه منه، لأنه لا يظن به الصدق أكثر من مقابله. وكذلك أيضاً يعرض متى لم يكن واحد من المتقابلين مشهور الصدق ولا محموداً دون نقيضه، بل يكون كل واحد من الطرفين في الشهرة والحمد على السواء، مثل قولنا: هل النفس مائتة، أو غير مائتة؟ فإن القوم الذين يقولون إنها مائتة مساوون في الشهرة للقوم الذين يقولون إنها غير مائتة. ولذلك ليس يغلب على ظن السامع أحد هذين النقيضين بحسب الشهرة، فيسلمه.
وأما متى اتفق أن يكون أحد النقيضين معلوم الصدق بنفسه، أو معلوم الحمد دون نقيضه، أو اجتمع فيه الأمران جميعاً، فإنه قد ينتفع السائل بالمصادرة على مثل هذا. وذلك أن الجزء الصادق، لمكان شهرته في الحمد، أو لمكان كونه صادقاً، معروف الصدق بنفسه، قد يغلط المجيب فيسلمه، ولا سيما إذا بدل المصادر اسم أحد جزأي المطلوب عند السؤال، أو اسم أحد جزأي مقابله، أعني المحمول أو الموضوع، باسم آخر، ولم يأت بالمطلوب نفسه، أو بمقابله، إن كانت المصادرة على مقابله. لكن إذا سها المجيب في مثل هذا فسلمه، فله أن يقول للسائل: إنك لم تصنع مبكتاً، ولا عملت قياساً، وإن كنت قد سلمت أنا ذلك لك على ما تقدم.
القول في النقض
قال: وينبغي للمجيب في جميع المسائل أن يتقدم فيرد القول الكاذب، ويعرف مع رده له من أي جهة عرض له الكذب. فإن هذا هو النقض المستقيم.
ولما كان الكذب يعرض في القياس إما من جهة مقدماته، يعني أن تكون كلتاهما كاذبتين، أو تكون إحداهما هي الكاذبة، وإما من جهة تأليفه أو شكله أو من كليهما معاً، فالنقيض المستقيم إنما يتأتى للمجيب إذا قسم القول السفسطائي إلى كل واحد من هذين القسمين، ونظر في أيهما عرض الكذب. فإن كان الكذب في كليهما عرف به. وهذا النوع من القياس السفسطائي الذي يمكن نقضه بوجهين، فهو أسهل، أعني الفاسد، الصورة والمادة. وإن كان في أحدهما عرف به أيضاً. أما إن كان في الشكل، عرف أنه غير منتج. وأما في المقدمات، فبأن يرفع ما وضع السائل. وهذان النوعان من القياس إنما يمكن نقضهما بجهة واحدة. وإذا كان هذا هكذا، فينبغي لمن أراد نقض الأقاويل القياسية أن ينظر أولاً هل ذلك القول قياس حقيقي، أو يظن أنه قياس، وليس بقياس، وذلك بالنظر إلى شكله، وإلى مقدماته. فإن لم يبن ذلك فيهما، أعني هل هي صادقة، أو كاذبة. فإن كانت كاذبة، قسم القياس إلى مادته وصورته، ونظر في الكاذب منهما، إذ قد تبين أن النتيجة الكاذبة تكون ولا بد عن كذب في القياس إما من قبل صورته، وإما من قبل مادته. وفرق كبير بين سهولة تبيين الكذب في مقدمات القياس في وقت السؤال بها وبين تبيينه في النتيجة. وذلك أن تبيينه في النتيجة سهل، لأنه ليس هنالك سؤال يضطرنا إلى الجواب على البديهة.
تبيين الشيء مع الفكرة أسهل من تبيينه على البديهة..
قال: وأما التبكيتات التي تعرض من قبل اشتراك الاسم ومن قبل المشاغبة اللفظية، فإن منها ما يعرض الغلط فيه، أو المغالطة، من قبل الاسم المشترك المأخوذ في المقدمات، ومنها ما يعرض من قبل الاسم المشترك المأخوذ في النتيجة، أعني إذا لم يفهم أنه يدل على كثير. مثال ذلك أن من سلم أن الساكت يتكلم، والمتكلم غير ساكت، وظن أنه قد
08-أيار-2021
08-أيار-2012 | |
07-نيسان-2012 | |
02-نيسان-2012 | |
31-آذار-2012 | |
25-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |