"ومن رام التعبير عن تلك الحال فقد رام مستحيلا". –ابن طفيل-

هي لحظة من الصعب التعبير عنها, غيوم تتلبد في سماء الشاعر لتُمطَر القصيدة. حال من أحوال الجذب, تعتريه فيستحيل طائرا على أجنحة الخيال ترفعه عاليا ولا تتركه إلا حين تقوله القصيدة.
هي لحظة بين- بين, سيدتها الدهشة "و" مسودها القول, و الشاعر كالواو بينهما مأخوذ بحال الجمال, كالواقف مشدوها أمام عبور امرأة جميلة في الشارع العمومي, المرأة هنا عابرة لكن الإحساس الجميل بذلك العبور له طعم الإقامة, تماما كما يقيم عصفوران على غصن ليبنيا عشا في انتظار الآتي.
هذا الإحساس الجميل الذي يعتريك أمام مرور امرأة جميلة ثم يستقر في دواخلك شيئا فشيئا هو

بالضبط ما يؤسس عش قولك الشعري.
"لي امرأة مرت
بقربي قصيدة تراودني"*
هي أشبه بحال الخاضع للتنويم المغناطيسي, حاضر/ غائب, مستيقظ/نائم, أما الخدر الذي يتبقى بعد التأثير فهو الغيمة التي تتلبد في رأس الشاعر لتولد القصيدة.
لوامع برق في حلكة ليل, تشد إليها الناظر المأخوذ بسحر "العمل الفجائي", فلا يذكر بعدها هل أبرقت في السماء أم في صدره؟.
أنين ناي بين أنامل راع, القصائد أغنامه الشوارد في مراعي الخيال الخصبة, و كما الحلم يذوب الناي في الراعي و الراعي في الناي فيتحولان إلى نغم سرمدي يجول في الأنفس و يبعث فيها روحا من الفرح و الانتشاء.
ومضة ابتسامة في فم رضيع, تنعكس على الأم فتشرق شمس البشاشة على محياها وتنجلي حلكة التعب اليومي كما تنجلي الظلماء عند بزوغ ابتسامة الفجر الرائعة.
أخلاط أحاسيس يتزاوج فيها الفرح و الحزن, ويندغمان جسدا واحدا, خيطه الناظم هو القلق.
قلق مزيج بين التوتر والخوف كمن يميد به قارب ذات اليمين وذات الشمال وسط بحر من العواصف, ولا هدوء إلا حين تلمس الأرجل بر الأمان والناجون حينئذ بين مصدق ومكذب لفرط ما لقوه من الأهوال.
ما أشبه هذا اللحظة بلحظة الانتظار, انتظار المحبوب, بكل توتراتها وانشداد الأحاسيس فيها تعلقا بالمنتظر.
غير أنه توتر وانشداد مشوب بالسعادة, سعادة الأمل باللقاء التي لا تكتمل إلا بتحقق الوصل والارتماء في أحضان الحبيب.
هي لحظة الفرح بالوصل التي لا يضاهيها إلا الفرح بالولادة.
ولادة
القصيدة!!