تأملات في "أحتمل الوجود1" للشاعر محمد أنوار محمد.
ينتعل الشاعر محمد أنوار محمد في كتابه الشعري الأول "أحتمل الوجود" خفا من سحاب, يحلق به في أبهاء الشعر وخيالاته الرائقة تحليقا مزدوجا, يحمل الشاعر وقارئه على أجنحة براق القصيدة إلى معارج سماء الشعر وتخومه القصوى, إنه ضرب من ضروب "كتابة الآلام/ في زمن/ يجيد حياكة الأوهام" بتعبير صاحبنا.
إننا أمام شاعر ينصت بانتباه شديد إلى "همس الفضاء" فيحيله بلمسة سحرية من عصا القصيد إلى كلام يتكوثر في عتبات الأعالي2 "لغة مقدسة <..>/تنفخ في البياض/ أوامر التكوين" لتُخلق القصيدة روحا "من خيال باذخ" بأمر شاعرها, إذ فجأة وعلى غير موعد "تهب رياح الكلام" لواقح لتري العالمين "كيف تفقس الأحلام/ والكلمات/ في عز الخيال".
خيال باذخ يفعل فعل الطيان بالطين, فتختلط الرؤى بالأحلام حروفا وكلمات "تضج بكل انواع الكلام" المسبوك في "لغة الغواية" مما قد تشتهي النفس من "لذيذ الحلم" و"رشفات أنخاب" تلبي "رغبات معرفة" تصطلي في النفس مثل "جمرة الأفكار" التي كلما أوشكت على الإنطفاء هبت عواصف القول فاشتعلت شعرا.
بيد أن هذا الإشتعال الشعري الذي قُدَّ قميصه من قُبل ومن دبر هو وليد الغواية والشهوات, حين يرتشف فمه من رضاب القول ما شاءت له تصاريف الخلق والتكوين, كي "يُبعث شعرا/عصيا على الفهم/لكن زكيا", هي القصيدة ابنة الشهوة الأمارة بالشعر التي تدعوك إليها فلا تملك إلا الرضوخ إلى عزلتها الجميلة والصارمة.
هو الذي يسرج مطية الكلمات حين يسحره "كلام الدهشة الأولى", ليحلق في سماوات الشعر رفقة الصحب من عشاق القصيدة, أولائك الذين "يستلذون الكلام/بدون فلسفة/ويحتلمون شعرا", هم الأصدقاء الذين "لهم أعلي سماء من خيالات"حين ينتظمون صفا صفا "وينتصرون للشعراء/ من ألف إلى ياء".
وإذا كان الاشتعال يحيل إلى الشهوة, فإنه يحيل أيضا إلى النار التي تتقد في نفس الشاعر, هو الذي أسرع بجمرة القول إلى فمه موثرا لسعتها على حلاوة التمرة, في اختيار صعب بين طريقين, ف"الخير فيما اختاره الشعراء/ هم أدرى بما خبر الرماد" ياصاحبي.
يختار صاحبنا الرهان الأصعب, إذ ينتعل أحذية من نار ليطأ بها أرض الكتابة الساحرة, وحتى لو قُيض له أن يومر بخلع نعليه في وادي الكتابة المقدس فلن تجد قدماه إلا حجارة من جمر تحرضه على القول وتطير به في أعالي سماوات الخيال, "أطير فوق الجمر/تلسعني نجيمات/لهن مذاق البركان", هكذا "ألاعب الجمر/وأحتفل بالنار", في احتفال بديع بصداقة نار الشعر التي كلما اشتد أُوارها قذفت براكينُها جمر القصيد "لتشعل دهشة الكبريت ألحانا/وتعزف في دمي أنشودة لاتنتهي".
أن تحتفتي بصداقة النار وتختار طريق الجمر معناه ألا تنحني ولاتتملق, لأنك تحيزت ببساطة إلى صف عصافير الحرية "جُبلتُ على الطيران/فكيف أطيق التراب فراشا" إنه ميثاق غليظ يُعقد على الملإ بين الشاعر وقارئه, إذ يقول "لا أبدل شرفا/ بمنزلة ستمحى بعد حين/ أو بمدح يلتحي كذبا".
لقد سعدت كثيرا بقراءة هذا العمل الشعري الرائع ومصاحبته بالقراءة تلو الأخرى وتقليب الفكروالنظر في صوره ومعانيه التي تعد بحق مكرمة من "مكرمات الكلام" الجميل التي أتحفنا بها الشاعر محمد انور محمد, حين قادنا إلى "ماء الينابيع" ليسقينا بعضا من "نبيذ الوجود", فهنيئا للمشهد الشعري المغربي والعربي بهذا الكتاب الشعري المميز الذي بقراءته ندرك أن "الشمس تشرق من نور شلال قولك".



الإحالات:
أحتمل الوجود, شعر, محمد أنوار محمد, منشورا مكتبة دار الأمان, مطبعة الكرامة, الرباط, ط 1, 2008.
إحالة إلى مقطع شعري من قصيدة "صديقي العزيز..وبعد" يقول: "كأن كلاما تكوثر/ في الأعالي".
العبارات بين"..." هي مقاطع شعرية للشاعر محمد أنوار محمد.


بقلم: محمد الإمام ماءالعينين.
شاعر من المغرب له عملان شعريا:
الأول: لأميرة الغبار شهوتها منشورات وزارة الثقافة 2005
والثاني مقبرة الحبيبات سنة 2008.
Email= [email protected]